فرق في سعر العملة
زيارة قصيرة من صديقتي " الانتيم " لليمن بعد غربة دامت أكثر من ست سنوات في المملكة العربية السعودية..
يبدو عليها الانهاك من رحلة العودة البرية لكن المغترب اليمني لن يكف عن الدراما التي يعشقها..
رائحة التراب التي يتنشقها، التغني بالأجواء الأسطورية مقارنة بالمملكة، ورؤية الأهل والأصدقاء واحتوائهم التي لا تنقصها الدموع الصادقة والكثير من النهنهات ..
لاحظت بأنني وبرغم شوقي لها احتضنها دون أن اذرف دمعة واحدة، ولم أحاول ذلك لأكون صادقة، يبدو أننا كيمنيين محاصرين بين الحدود لم يعد من شيء يبكينا، استنفذنا مخزوننا الاستراتيجي من الدموع والحزن حتى غدى روتين ممل لا جديد فيه، كما أن للفرحة ثمن لم نعد نريد مقايضتها به وقد خذلتنا كثيراً ..
وقف طفلها الصغير مبهوتاً في العصرية والأوراق المالية تتدفق عليه من الصديقات والأهل، فغر فمه للثروة التي تهبط عليه، كنز علي بابا الذي فتح له بابه دون أن يستجدي طرقات من سمسم " افندي "، جائزة يانصيب لم يشتري أي من أوراق سحبها!!..
تجاهلت ما يحدث وأنا أتطلع للسقف هاربة من دوري في العطاء!!..
لن أشارك في إفساد أخلاق الفتى، ولن يخطو أولى خطواته في عالم التبذير بمساعدتي وهو يصرف ما جمعه عند صاحب الدكانة المحتال ليشتري " جعالة "..
لم يحاول الفتى الطيب فهم معنى لفظ " جعالة " بقدر ما كان مهتم بالابتعاد قدر الإمكان ولابعد مسافة عن والدته، يبدو أن " صديقتي " من الأمهات اللواتي تخفي أموال أبنائها في حصالة خفية للابد"!! ..
لم يمضي وقت طويل حتى سمعنا بكائه وصرخاته الفزعة وهو يعود قفزاً عبر سلالم العمارة!!..
ربما بالغ أطفال الحارة في تحيتهم للوافد الجديد!..
دخل " عموري " ملقياً بنفسه بين أحضان والدته الملتاعة وهو يصرخ على طريقة قناة سبيس تون :" لقد ضاع كل شيء، انتهى الأمل ، انتهى الأمل " راح يكررها بطريقة هستيرية جعلتني أتمنى صفعه، مثل هذا الطفل يحتاج للقليل من " الشمة " ودورة تدريبية في أحدى البدرومات ليلقن فيها ملازم السيد _ الله لا غفر له ذنب _ ..
بضع كلمات مبعثرة عرفنا بعدها سر ذلك البكاء " والشنهجة "، أعتقد الصغير أن ١٠٠٠ ريال يمني تعادل في قيمتها الشرائية مثيلتها من العملة السعودية، كيف لطفل أن يفهم معنى الفرق في أسعار العملة..
لا أخفيكم أني أعاني هذه الفترة من مزاج سيء، حالة تلبس شريرة تجعلني لا أستطيع معها أن أواري قروني الحادة، وتقوس حاجباي الاشعثان، الانياب البارزة التي تسعى لاصطياد فريسة وافتراسها، أي فريسة حتى وإن كانت ذلك الطفل البريء!..
ابتسمت بلؤم متخيلة الأحلام التي راودته وهو يقبض على النقود ويفر بها، كمية المشتروات التي سيضنيه حملها، ورصيده الجديد في البنك الذي سيضطر لفتحه ليدخر ما تبقى لديه من تركة ثقيلة، لعله بدأ فعلياً في التفكير الجدي في مشروع حياته، التخطيط لشراء بلاي ستيشن يخصه بعيد عن أخوه الأكبر قد يكون بداية رائعة!!..
لم أرغب في مسح دموعه أو في مساعدته، لا ضير في قليل من الدموع لغسل زجاج العين، كما أن مشاهدة الانكسار الأول للانسان ممتع نسبياً!..
لكني وكعادتي لا أستطيع إكمال أي فرحة للنهاية، لا بد من وجود عقل تافه يدمرها، ولا ينقصني مثل ذلك العقل المدمر !!..
لقد أدرك ذلك الطفل من أول أيامه في صنعاء بأن كل شيء ضاع، وأن لا مكان للأمل مجدداً، أكتشف ذلك بعد أن خذلته بضع خطوات للدكان، على العكس مني التي أضعت سنوات غالية من عمري لادرك حقيقة بسيطة لم تخفى على طفل لم يتجاوز السادسة!..
توقف الطفل عن البكاء، حين طمأنته والدته وهي تأخذ منه ثروته عديمة الفائدة لتخفيها في حصالته التي " ياللمفاجأة " أمست أثقل من حصالات إخوته!!..
وانا في الركن صامتة محاولة الإمساك بدموعي أتذكر الدروس القاسية التي لم يبخل بها الزمن علي!..
لكني كنت طالبة فاشلة صممت أذني عنها وبقيت متمسكة بالأمل الكاذب حتى خذلت دروس الزمن وخذلت نفسي،،،
وتبدد الأمل!!..
نور ناجي