السبت، 29 فبراير 2020

أسلحة ناقصة..


نور ناجي

"والله لنحكمن اليمن بالاستبداد والظلم ونذيق أبناءها الجوع والمذلة مع مجاهرة ألسنتهم وقلوبهم بالذكر والدعاء تقرباً منا!"، قال "السيد!" عبدالله ابراهيم موجهاً حديثه إلى "محمود نديم" الوالي الأخير للدولة العثمانية ومهندس صلح دعان.
 
أستغرب "نديم" أن يصدر هذا القول من رجل دين "سنّي" لم يكن يخفي معارضته وانتقاداته الدائمة ضد الإمام "يحيى حميد الدين"، إلا أنه لم يخفي فضوله أمام ثقة الرجل من سيطرة "الإمامة" على الشعب اليمني الذي استساغ دماء جنود الامبراطورية العثمانية واستهان بترسانتها العسكرية حتى أجبرت على الفرار بما تبقى لها من ماء وجه مخلفة وراءها قلة من أمثاله رغبت في عطايا الإمام عبر ادارتهم شؤون دولته الناشئة!..
 
" كيف تطمئن لذلك رغم عدم امتلاك الإمامة للسلاح والمدافع التي لم تكن ذات جدوى لنا من قبل، لا أعتقد أنك تعتبر المقاتلين الذين اقوم بتدريبهم جيش قادرعلى ذلك التطويع"، هتف نديم ليبتسم له الرجل مشيراً بثلاث أصابع: " لا نملك سلاح واحد، بل ثلاثة !"..
 
عدّل "عبدالله ابراهيم" وضعية جلوسه قبل أن يكمل بثقة: " قد تكون الأسلحة الخالية من البارود وضجيجه هي الاقوى مفعولاً!"، قطب الوالي السابق جبينه وقد شعر بأنه أمام حل اللغز الذي استعصى عليه طيلة فترة حكمه..
 
" الدعاية يا صديقي، مازالت الدعاية هي الطريقة الافضل لتمرير أي منتج، حتى إن كان سيئاً، وقد قضت السلالة مئات السنين تدعو لنفسها على هذه الأرض، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير لولا تعلق اليمني بالدين، ينشد الجميع نجدة الرب، ولن تجد أفضل من سلالة مصطفاة لنيلها، "حجة لله" يرتبط رضائهم بإرضائه، وتتجنب المهالك بحبهم!..
 
ابتلع عبدالله ابراهيم ريقه وأكمل: " لم تتوقف الدعاية بين العامة، مازالت في كل مجلس وسوق، دوناها في الكتب والقصائد دون أن تغادر وليمة أو حفلة عرس، ستجد من يرددها في بيوت العزاء في صلواتنا واستسقائنا إضافة إلى خطب الجمعة، لك أن تعود لسنوات حكمك السابقة لليمن، هل تتذكر خلو سوق أو تجمع من منشد هنا أو هناك؟!"، لم ينتظر جواباً وقال: " لم نتوقف يا صديقي عن الترنم بأفضال آل البيت ومناقبهم حتى في مجالس النساء!"..
 
ربما شاركت الدولة العثمانية في دعم تلك الدعايات بشكل أو آخر حين التزمت بدفع رواتب للأئمة بين الحين والآخر كوسيلة لتجنب الاضطرابات التي كانوا يثيرونها، لعل ذلك ما دار في خلد القائد الكردي إلا أنه اخفي ما يعتمل في صدره وطرح سؤاله عن ماهية سلاح الإمامة الثاني لترويض الشعب اليمني؟!، هز عبدالله ابراهيم رأسه: " ربما لن تجد اختلافاً نوعياً بينهما، كلاهما  يصب في قوالب الدين الذي جاهدنا لتشييعه!..
 
كثيرة هي الأحاديث التي عزوناها لكتب الصحاح، قبل أن يؤلف علمائنا ما اعتبرناه صحيحاً ونشرناه على ذلك الأساس، حتى لم يعد يميز طالب العلم صحة ما يقرأ، فلم يكن من حق معلم أن يردد الكتب الصحيحة إلا من وراء جدر!"، ابتلع الكردي ريقه وأشار لرفيقه بعدم التوقف!..
 
" لا أنكر وجود المعارضين هنا أو هناك، إلا أن فقهائنا يقفون لهم بالمرصاد، لا يجوز الاعتراض على أمر للإمام وإن كان جائر، فلا يد تعلو فوقه إلا يد الله، مازال العامة تتداول قول الامام عبدالله بن الحمزة: " لا فرق بين أعمالنا وأعمال الطغاة إلا بالنية !"، فكيف لناقد أن يعترض على إرادة الامام أو نيته؟!" ..
 
لم يحاول "محمود نديم" تذكير صاحبه بمعارضته للإمام يحيى، فقد اختلط عليه الأمر، هل كان ما يسمعه من انتقاد ساخر لمنظومة يعترف بأنه كان جزء منها نقد حقيقي لها، أم أن سخريته اقتصرت على رأسها الحالي المتمثل بالإمام يحيى؟!..
 
ربما لن يعرف أبدا، لذلك اقتصر بحثه عن السلاح الثالث من خلال لسان الرجل الذي أكمل: " كما كانت الدعاية لمصلحتنا سلاح ناجع، ستكون المضادة منها مناسباً لأعدائنا، لا بدّ من تشويه أي منتقد واتهامه المباشر بمناصبة العداء لآل البيت وإن كان منهم، كبيت الأمير مثلا، ليس ذلك وحسب فلم يسلم الإمام الشوكاني من التشويه رغم المكانة التي احتلها في  قلوب اليمنيين، لن تدرك يا صديقي مدى الأذى الذي يلاقيه الناقد لنا، لعلنا لا نحتاج لعون يخلصنا منه حين يكون هلاكه منجاة لأمة بأكملها!"..
 
نفض "السيد" عنه أسلحته بانتظار ردة فعل الوالي التركي الذي قال دون أن يهذب حروفه: " اسمع يا عبدالله، لا أنكر أن فينا نحن الأتراك من يعصي الله ويرتكب الفواحش ويظلم ويفسد لكن أن تكذب على الله ورسوله مثلكم فلا !"..
 
انتهى الحوار الذي تم ذكر تفاصيله في "مذكرات العزي صالح السنيدار" رحمه الله، إلا أن الضابط التركي لم ينتهي من اليمن، ومازال مصراً على البقاء فيها، وقد خلص وهو يرفع سلاحه مسانداً " ليحيى حميد الدين" بأن أسلحة الإمامة ـ الكاذبة على الله ـ لم تكن بالنجاعة التي يظنها أصحابها، دون بندقيته..
 
شارك "نديم" وبكل إخلاص في قمع الانتفاضات التي قام بها اليمني ضد الإمامة، بالأمس كان قدهيأ "زبيد" لدخول "حميد الدين" وإحكام سيطرته عليها، واليوم يفاوض الأدارسة في عسير ويحثهم على التسليم له، قبل أن يعد نفسه وجنوده للقضاء على ثورة باجل..
 
لا أعتقد أن أسلحة الإمامة كانت قد انطلت على الضابط التركي، يعلم في قرارة نفسه أنها لن تنجح في الاستمرار على هذه الأرض وستفشل كما فشل هو سابقاً، إلا أنه مازال يكذب على نفسه ويردد: "وإن رخاء هذا البلد وسعادته مناطه بالكلية بسيادة الإمام!"..
 
أغلب الظن أن البقاء ضمن حاشية الإمام كانت خياره الوحيد، ساحة الحرب لما تبقى منه، أي أرض ستقبل بسلاح ناقص لا طلقات فيه، وربما كان انضمامه للمنظومة الكاذبة، مناسب لإطفاء جذوة غضبه ضد شعب كانت ثوراته المتلاحقة إحدى أسباب سقوط دولته وتقلص حدودها على الخرائط..

 
توفى "محمود نديم" دون أن يدرك بأنه لم يحصر كافة الأسلحة في عصره، فلم يذكر له عبدالله ابراهيم سلاح "النسيان" الذي طالما عادت الإمامة للانتصار به، بعد أن منحها اليمني فرصة استخدامه المتكرر.
 
لا بأس في منح الغفران، إلا أن نسيان التاريخ خطيئتنا التي مازلنا نصّر ارتكابها لمعاودة الاستغفار عنها..
 
 

السبت، 22 فبراير 2020

الحوثي.. استغلال قديم لـ"المرأة"


نور ناجي

  ما أن تأكدت من نومه، حتى وقفت على رأسه ونظرت إليه بحقد قبل أن تخرج المقص الحاد.. لم تتردد للحظة وهي تقص ظفيرته، ليواجه "شمشون" قومها بعد ذلك مهزوزاً منزوع القوى!
 
كانت تلك "دليلة"، المرأة التي قضت على "بطل اليهود الأسطوري" بجرة مقص!..
 
طالما نظرتُ إلى أسطورة "شمشون ودليلة"، في التراث الديني اليهودي، على أنها مبالغة سعى إليها رجال الدين لزعزعة المكانة التي كانت المرأة تحتلها في الحضارات القديمة. فقد كانت "الكاهنة" والقائمة على المعابد، قبل أن يُنزع عنها ذلك الدور..
 
لكن، هل امتلكت "دليلة" ذلك الدهاء، أم أنها كانت مجرد أداة استخدمها قومها للخلاص من عدوهم؟!
 
قد تطرح ذلك التساؤل، وأنت تتابع التقارير العديدة التي تحدثت عن "الزينبيات"- (الجهاز المخابراتي الموجه نحو المرأة اليمنية)- كما تم توصيفه، قبل أن تكتشف بانك قد تحتاج لبحث أكثر قدماً مما تعتقد!..
 
مازالت السلالة، عبر تاريخها في اليمن، تعمل على تهيئة المجتمع وتطبيعه، حتى تبقى على سدة الحكم. وإن لم يكن القمع والإرهاب وسائل متاحة، ستجدها تجاهد لتغيير الثقافة وطمس التاريخ والهوية اليمنية ما أمكنها..!
 
لطالما كان الدين هو الوسيلة المريحة لإخضاع الشعوب. وقد استخدمته السلالة بمنتهى المهارة. ربما كان أهم انجازاتها على الاطلاق "تشفيّع" اليمن، ومحاربة دخول أي مذاهب أخرى عليها، كالمذهب "الحنبلي" للإمام "أحمد إبن حنبل الشيباني"، أو المالكي للإمام "مالك الصبيحي"، رغم أصولهم اليمنية!..
 
يرى البعض أن المذهب "الزيدي" هو أقرب المذاهب لأهل السنة. في حقيقة الأمر قد يكون العكس هو الصحيح، ومازال المذهب الشافعي هو الأكثر تماهياً مع المذاهب الشيعية والطرق الصوفية القريبة اليه.
 
ليس من حقنا أن نأخذ على الإمام الشافعي حبه لآل البيت- للأمر معايير مختلفة بين شخص وآخر- حتى فَرَضَ الصلاة الإبراهيمية وجعلها ركن أساسي لا تصح صلاة لتاركها!. ليس ذلك وحسب؛ فقد أقرّ الإمام الشافعي في كتابه "الأم" بـ"تحريم زواج "الهاشمية من غير الهاشمي" بسبب عدم تكافؤ النسب!!.
 
مازالت الجماعات "الإثنية" تُصدر مثل تلك القوانين، وتعمل على تطبيقها بمنتهى الحزم. وقد رأت فيها ما يضمن نقائها وعزلتها عن المجتمعات المحيطة بها. إلا أن السلالة في اليمن استخدمت ذلك التحريم وفق مصالحها السياسية وضروراته!. فحين يمتلك اليمني قوّته لم تمانع السلالة باقترانها به أو بغيره، حتى إن كان مستعمرا عثمانيا، لتعود وتفرضه لحظات ضعف المجتمع اليمني وتفككه..!!
 
لن تجد أفضل من معارك جانبية- لا قيمة لها- لإلهاء عدوك عن أسباب قتاله، وإشعاره على الدوام بأنه أقل شاناً!. معارك رأى اليمني الآخر- من غير السلالة- بأن إنتصاره فيها، أو حتى التندر عليها، سيكون بمثابة انتقام صغير سيشفي القليل من غليل مظالم تقع عليه..
 
مازالت السلالة تتلاعب بتلك الفتوى، حتى فقدت بريقها، ولم يعد اليمني- بعد ثورة سبتمبر- يرى في فتاويها عدواً. كما لم يعد يميز بين امرأة اجهدها التعب في الحقول، وأخرى أبقيت في الخدور للمساومة. لكن السلالة مازالت مصممة على كونها العدو الأول لليمني، وعادت لاستغلالها القديم للنساء بأبشع الطرق الممكنة دون أن تدرك حقيقة ما تقوم به!. فليس من السهل إعادة إنسان بعد فقدانه روحه، وإدراكه بأنه كان ومازال مجرد وسيلة، "غاية" قد يطلب منه يوماً أن يكون مجرد غول، ويوم آخر توجب عودته لطبيعته؟!..
 
برغم الحروب المتعددة التي خاضها اليمني، إلا أنه حيّد المرأة بالمطلق، ونأى بها أن تكون طرفا في تلك النزاعات؛ تخرس الطلقات نهائياً حتى تعبر المرأة ساحة المعركة بسلام، اجلالاً واحتراماً لكونها إمرأة، أيً كان انتمائها، فما الذي يراهن عليه الحوثي، حين تمادى باستغلاله القديم، لينال من اليمنية في انتهاكات يندى لها الجبين؟!.
 
هل تعتقد السلالة أن ترديدها المتكرر باقتصار حربها على الأحزاب الدينية، سينقذها يوماً من الهوة التي سقطت فيها، نتيجة مرجعية أخلاقية يلتزم بها حزب هنا أو هناك؟!؛ أو أنها ترجو شفاعة منتمين الى سلالتها ضمن تلك الاحزاب؟!.
 
للتوضيح فقط: لا تواجه السلالة أحزبا وتنظيمات، بل تواجه شعبا امتلك، أخيراً، ذاكرة أكثر توثيقاً وحساسية ممن سبقه.. ولا يرجع صمته اليوم عن يأس وخنوع، أو حتى تجاهل، كما تظن السلالة!..
 
 يحدث: أن تصمت الشعوب، حتى تتمكن من انضاج غضبها. فالشعوب لا تميل للإنفعالات النيئة، فاقدة النكهة. وحين تحين اللحظة التي تراها مناسبة، لن تنتقض منفردة.. لابد وأن عادتها القديمة ستثور معها.. وطالما كان "الثأر" أسوأ عادات اليمني!..
 
لم تترك السلالة خطيئة إلا وقامت بها؛ لكنها تخطت الحدود بما ارتكبته- ومازالت- في حق "المرأة" اليمنية!!. لعلها اسقطت جزء من ذاكرتها، وتناست بأن معركتها مع اليمني لم تتوقف، وإن صالت في جولات..
 
 فمازال النصر بين يديه، لا يفصله عنه سوى مسافة "أيام"، وقائد مخلص!..

السبت، 15 فبراير 2020

المتنبي، والرحلة الخائبة


نور ناجي

نمتهن الكلام منذ لحظة قدرتنا على النطق، تعطينا الأيام خبرة تهذيبه أو تركه على عواهله حتى يتحول إلى مهنة أو ورطة،  تؤرجح صاحبها بين ما يطمح وما هو متاح..
 
لم تكن موهبة "المتنبي" منفردة من وضعته ضمن كفة الشعراء الأكثر علواً في تاريخ الشعر العربي، فقد سانده على ذلك طموح رافقه طيلة أيام رحلته..
 
ستصاب بالحيرة بلا شك وأنت تقراء سيرته. فتارة تجده فخوراً معتداً بنفسه، وتارة أخرى تجاهد كي لا تصاب بعدوى يأسه عن تغيير قدره. مازالت أنصاف أبياته تثير دهشتك لمدى حكمة بلغها، قبل أن تتفاجأ بعنصرية بعض قصائده، وإن لم تفقد بلاغتها..
 
ولد المتنبي "احمد بن الحسين الجعفي"، ذو الأصول المذحجية في الكوفة بعد إستقرار عائلته فيها. لم تكن طفولته سهلة فقد تذوق اليتم مبكراً بعد فقدان والدته، كما لم يكن عمل والده في سقاية الماء مجزياً لملئ البطون، إلا أن الفتى لم يستسلم ورفض بداياته بكل بساطة، وعوض مشقتها بشراهة للعلم فاق بها أقرانه.
 
اتسم عصر نشأة المتنبي بالاضطرابات السياسية والحركات المناهضة للدولة العباسية، وكان لذلك أثراً عكسياً على الحركة الأدبية والثقافية التي ازدهرت، فقد كان الشعراء "إعلام ذلك العصر"، لسان الحاكم للعامة والصلة التي تربطه بهم. أخذ المتنبي يتنقل بين بغداد والكوفة في خضم ذلك الجو المشحون، ملقياً أبيات شعره دون أن يخفي أراءه السياسية التي لم تناسب الجميع، فتم إيداعه السجن بتهم عديدة أشهرها ادعائه النبوة.
 
مثل تلك التهم تجعلك تشك في حدوثها، فقد كان الكفر والزندقة- وما زال- تهمة كل العصور، والخطيئة المعدّة لكل معارض، فكيف لا تلاحق صاحب هذه الأبيات:
 
لَقَد تَصَبَّرتُ حَتّى لاتَ مُصطَبَرٍ،
فَالآنَ أُقحِمُ حَتّى لاتَ مُقتَحَمِ.
لَأَترُكَنَّ وُجوهَ الخَيلِ ساهِمَةً،
وَالحَربُ أَقوَمُ مِن ساقٍ عَلى قَدَمِ.
 
من الصعب على رجل ممتلىء بنفسه مدح من لا يستحق، لكن ليال سجن المتنبي جعلته يدرك بأن الكلمات المقيدة لم تكن ذات نفع، إلا من فك قيده، فاضطر لتوسل سجانه الأخشيدي ولؤلؤ أمير حلب:
 
‏رَمَى حَلَباً بِنَواصِي الخُيُولِ،
وسُمْرٍ يُرِقْنَ دَماً في الصّعيدِ.
وبِيضٍ مُسافِرَةٍ ما يُقِمْــنَ،
لا في الرّقابِ ولا في الغُمُودِ.
 
شخص آخر كان سيخرج ناقماً على موهبته، وسيقنع بترك الشعر والقوافي، لكن المتنبي عاد  لتشرده بين المدن حاملاً معه قلقه الدائم وحرفه الطيع. على الأغلب أن السجن لم يغادر شاعرنا ومازال يبحث عن سبيل لإطلاقه ربما عبر سند قوي أو مركز مرموق قبل أن يعثر على "المأمون"..
 
ألتفت التاريخ نحو قصر الخليفة الضعيف حين أمست قصائد المتنبي ضيفة مقيمة فيها. لا بأس من المدح إن كان سيقوده إلى ما يصبو اليه. لعل المتنبي برر ذلك للأيام التي مرت دون أن ينال مبتغاه. فمازالت أبياته تنبىء عن إخلاص لا لبس فيه. هل استكفى الشاعر بالطمأنينة التي شعر بها في بلاط المأمون، أم أنه بلغ من الخبرة والحرفية ما جعلنا نجزم بصدق مشاعره:
 
لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ،
أقفَرْتِ أنْتِ وهنّ منكِ أواهِلُ.
يَعْلَمْنَ ذاكَ وما عَلِمْتِ وإنّمَا،
أوْلاكُما يُبْكَى عَلَيْهِ العاقِلُ.
وأنَا الذي اجتَلَبَ المَنيّةَ طَرْفُهُ،
فَمَنِ المُطالَبُ والقَتيلُ القاتِلُ.
تَخْلُو الدّيارُ منَ الظّباءِ وعِنْدَهُ،
من كُلّ تابِعَةٍ خَيالٌ خاذِلُ.
 
اعتاد العرب على افتتاح قصائدهم بأبيات غزل عاشقة، ولم تنبىء قصائد المتنبي في مجلس المأمون بضرورة شعرية، بقدر ما كانت رسائل حب صادقة لا يختلف متذوق شعر أو عاشق عليها. هل وجد المتنبي في قصة حبه "لخولة"، أخت الخليفة، منفذ لبعض أحلامه، أم أنه عشقها حقاً؟ ربما أكمل الخياران بعضهما البعض في قلب الرجل:

قِفي تَغرَمِ الأولى من اللّحظِ مُهجتي،
بثانِيَةٍ والمُتْلِفُ الشّيْءَ غارِمُةْ.
وما حاجةٌ الأظغانِ حَوْلَكِ في الدّجى،
إلى قَمَرٍ ما واجدٌ لكِ عادِمُهْ.

لا بدّ وأنك ستجد المأمون متربعاً على عرش قصائد المتنبي، تقول ذلك قبل أن تدقق النظر فيها، وتكتشف أنه لم يكن وحيداً. مازال المتنبي مهيمناً على مآثر القصيد وملاحمها حتى لم تعد تميز أن كان يقصد المأمون أم أن شاعرنا قرر وصف نفسه:
 
وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ،
كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ.
تَمُرّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً،
وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ.
ضَمَمْتَ جَناحَيهِمْ على القلبِ ضَمّةً،
تَمُوتُ الخَوَافي تحتَها وَالقَوَادِمُ.
وَمَنْ طَلَبَ الفَتْحَ الجَليلَ فإنّمَا،
مَفاتِيحُهُ البِيضُ الخِفافُ الصّوَارِمُ.
 
تحولت أسوأ هواجس الرجل الى حقيقة حين خفت كفته، بعد أن وقف أبو فراس الحمداني بينه وبين إبن عمه، حتى وصل به الأمر لإثارة جدل طويل إثر نظمه قصيدة "واحر قلباه"، فما أن وصل المتنبي الى البيت القائل: "‏الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم.." حتى قاطعه الحمداني باستنكار غير بريء: "وماذا أبقيت للأمير، إذ وصفت نفسك بكل هذا؟!"..
 
انتهت قصة الحب الطويلة بين المتنبي والخليفة، وانكسر معها جزء كبير من طموح الشاعر ليغادر مجلس اعتاده سنوات طويلة، قبل أن يتلقفه كافور الاخشيدي الذي لم يخفي المتنبي أمامه خيبته وخسارته القديمة، وخاطبه بحاجته مباشرة:
 
وفى النفس حاجات وفيك فطانة،
سكوتى بيان عندها وخطاب.
وما أنا الباغى على الحـب رشوة،              
ضعيف هوى يبغى عليه ثواب.
ومــا شئت إلا أن أدل عـواذلي،
على أن رأيي فى هواك صواب.
إذا نلت منـك الـود فالمال هين،
وكـل الذى فوق التراب تراب.
 
أخطأ المتنبي منذ البداية حين أظهر طموحه ورغبته ب"إمارة"- مهما تقلصت حدودها- أمام أمراء. ليس من السهل أن يطغى طموح المرء على مهنته المقدرة له!، خلص المتنبي لتلك الحقيقية بعد سجن نفسه زمناً بين الشك واليقين، لعله أخرج نفسه من مأزق تملق غير مستحق بالقاء قصائد أقرب للاحجيات، لا يُعرف منها أن كانت مدحاً أو قدحاً:

كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا،
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا.
تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى،
صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا.
إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ،
فَلا تَستَعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانِيا.
 
تسارعت الأحداث وطويت الصفحة "الأسوأ"، ربما، في حياة المتنبي. فلم يكتفي الرجل وهو يودعها بهجاء الاخشيدي، بل أسقط غضبه على شعب بأكمله حين قال:
 
إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد ..
 
ماذا لو أن المتنبي حظي بإمارته؟! أغلب الظن أنها كانت ستجعله سعيداً، بعض الوقت، قبل أن يشعر بالملل ويعود لتشرده مجدداً، باحثاً عن نفسه. لا تغني نعم الحياة الملموسة عن لحظة إنسلال قصيدة من قلبه، وكان المتنبي سيدرك ذلك لا محالة..
 
تكمن المفارقة أن تفاصيل رحلة المتنبي "الخائبة" هي من توجته على إمارة الشعر والشعراء، والحقت بمن مر بأبياته الحاقاً.

ضياع وطن..


نور ناجي

  "هل قاموا بذلك حقاً؟ يا لهم من أوغاد!!".

يردد اليمني تلك العبارة بأسف قبل أن يطرح رأسه على وسادته ويغرق في النوم. لن يكون الرقاد سهلاً بضمير مثقل، لا بّد إذن من إيجاد "مُلام" كل ليلة!.
 
لا بأس إن كانت "قطر" من ستسقط عليها لومك وعتابك، أو ربما "الإمارات". من المستحسن تخفيف الهجوم على "السعودية" خلال هذه الفترة، فالجغرافيا تجبرنا على توخي الحذر والحرص، والكثير من الانحناء..
 
لا تقلق إن لم يكن مزاجك خليجياً، مازال لديك مجال واسع من الخيارات: بإمكانك مشاركة الحوثي لعناته على أمريكا وإسرائيل وكافة أعداء الإسلام، أو لعلك تأخذ الجانب المضاد له وتشير بكافة اصابعك متهماً إيران بالحال المزري الذي وصلت اليمن إليه..
 
اليمن ليست بخير!..
لن تجد يمني في داخل أرضه أو خارجها إلا واستشعر الوجع. تلك القبضة التي تعصر روحك حتى تكاد تلفظك منها. الأنين الذي تحاول الهاء نفسك عنه قبل أن تلوذ بالفرار من خرائطها وصورها. لعلك تستسلم لتلك المشاعر في بعض الليالي، فالدموع تزيح بعض من وزر تركها في هذا الحال قبل أن تنفث غضبك على العالم اجمعه، فالجميع مشارك في إرتكاب جرائمه على أرضنا- عدانا- نكرر  ذلك بكل إصرار..
 
ليس من السهل على شعب تباهى دوماً بحذاقته أن يعترف بأنه أضاع وطنه. حتى وأنت تحاصره بألغام يغرسها بين التراب، ستجده يلقي بتبعتها على آخر، قد يكون هذه المرة من بني جلدته: الأحزاب، الفساد، تراخي القبيلة،..الخ. لن يعجز اليمني عن إيجاد أسبابه حتى وهو ينعي فقدان وطنه!..
 
لكن ما هو الوطن الذي مازلنا نفقده كلما استعدناه!..
 
سيقطب أي فتى في صنعاء جبينه أمام معنى الوطن. لا يهتم الصغار عادة بمثل هذه الأسئلة، ربما لو طُرح علينا ذات السؤال قبل بضعة سنوات لاُصابنا بالحيرة. فلم نشغل أنفسنا حينها بما نملك، كنا قد حصرنا اهتمامنا بمداعبة النهار البارد بينما نرتشف كوب القهوة، التي كانت الذ حينها!..
 
قد يكون التعريف الأدق للوطن، بأنه الأرض التي تضفي للقهوة نكهتها..
 
كان لنا وطن ودولة قبل بضع سنوات، لكم أن تستغربوا، لكنها الحقيقة التي مازلنا نهرب من ذنب مشاركتنا في فقدها، وليس إلقاء الملامة على الغير سوى طريقة لإخفاء ذلك عن أنفسنا على الأقل.
 
أرض لم نؤلف لها الأغاني إلا من باب أداء الواجب أو ربما التسلية. تجاهلنا انينها الخافت، بينما أخذنا ننزع زهرها بلا مبالاة.
 
مازلنا نثقل عليها بدعساتنا دون أن نخشى هجرانها. "لا تهجر الأرض أماكنها!"، نقول ذلك بثقة، حتى جاء ذلك النهار واستيقظنا غرباء من أنفسنا ومنها..
 

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...