السبت، 30 مارس 2019

طريق هجرة .. 

  السبت, 30 مارس, 2019 - 08:34 مساءً

  نور ناجي 

 كبرنا في العمر واكتشفنا أن الاوطان كالغواني اللواتي لا يعشقن سوى البحارة الأكثر سوءً، تتبادل معهم الاحضان على الرغم من الكراهية والموت الذي يتقيئونه عليها. 

 من الصعب معايشة الكراهية أو مواجهة الموت بشجاعة، لذلك هاجر الكثير ويجدّ الأكثر في بحثه عن رحلة تبعدهم عن مثل هذا الجنون. فالأمان وطن كاف بالنسبة للبعض.. 

 ‏يقضي الانسان حياته باحثا عن الكمال على الرغم من ثقته المطلقة بعدم وجوده على سطح هذه الأرض، لذلك يرحل اليمني عن أرضه وهو يعلم يقينا أن هجرته سوف تاخذه بعيداً عن ما يكون؛ منزله، عائلته، مغامراته السرية مع إخوته، الريالات التي كان يجمعها لإنشاء دوري كرة قدم في الحارة، سور مدرسته، نبض قلبه الأول، ورقصة "البرع"، والتخزينة في عرس أعز اصدقائه.. 

 ‏لكنه يرى أن ابتعاده عن الكراهية والموت  المستعران، سبب يستحق الهجرة. ليس الأمر بالسهولة التي يتوقعها البعض، فبعد اتخاذ قرارك، عليك خوض صراع مع رحلة موت تقل فيها احتمالات النجاة عن تلك في بلدك..

 ‏منذ سنوات ليست قليلة، لم يعد اليمني يملك رفاهية السفر الانساني، فقد انضمت دولته لقائمة الدول التي يرمقها العالم بأعين متوجسة مرتابة؛ لابد وأنه يحمل جزء من ثقافة الموت والكراهية التي يصنعها بلده وليست هجرته سوى وسيلة لتصدير تلك الثقافة للعالم. ومهما علا وجهه سخام التعب والخوف من الصعب، نزع تلك التهمة عنه ..

 ‏يتعلم طالب الهجرة الكثير..  
في البدء يجب عليه عدم تصديق وعود سماسرة الرحلة للمحطة الأقرب، السعر المبالغ فيه، الظروف القاسية التي سيمر بها واحتمالية التخلي عنه في منتصف رحلته، ..، إلا أنه مجبر على القبول والدفع بلا ضمانات. يتسائل وهو يقبض على حقيبة همومه، بينما يتمايل به المركب، إن كانت عائلته مازالت تحتفظ بما يمكن بيعه والاستفادة منه ليكمل سفره؟ يدرك أنه قد يواجه الموت غرقاً، اختناقاً، أو جوعاً، لكنه غير مبال، فقد عبر قبله محظوظون وقد ينال حظهم.  ‏

يشترط على المهاجر البؤس، وحمل ملف مهترىء، ثبت عليه صورة شخصية بائسة، وبعض النكبات التي فر منها، حتى يستحق منحه حق اللجوء. سيقف أمام المرآة لساعات طويلة وهو يدقق في قسمات وجهه ملياً، فاي اهتزازه أو ارتعاشة في غير محلها قد تكون السبب لرفضه وعودته لجحيم الكراهية.. ‏  

‏يصل البعض ويبتلع النسيان. إلا أنه، وبعد أن تنتهي دهشة وصوله، يكتشف أنه لم يجد كافة أحلامه!! أو أنها لم تكن كما توقع، ربما لن يجد فيها أوجاع مألوفة؛ لكنها لن تكون خالية من وجه الكراهية، الذي لا يتبدل، والذي جعله في المقام الأول مهاجرا..

 فالكراهية حالة مجردة لا تختص بها أرض ولا يحددها عنوان..  

الثلاثاء، 26 مارس 2019


اختطاف ثلاجة
هيييه أنت، قف، فالمكان كله محاصر!!" ‏

هذا ما تشعر به عندما تحاول إبداء رأيك في أحداث تعز!!.. ‏حالة استنفار قصوى ومارشات عسكرية تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، تضطر حيالها أن ترفع لها ذراعيك وأنت تبحث حولك عن "مصر أبيض طالعي" دليل استسلامك، ليتم إخضاع نياتك وما تحمل من أفكار لعملية تفتيش دقيقة. 

 ‏للحقيقة أوجه كثيرة لكن المواطن العادي رأى ومنذ سنوات مسلسلاً لم ينتهِ في مدينة تعز، سمع فيه مناشدات أهاليها التي تطالب بعودة الأمان الذي لم يعتقدوا أنهم سيفقدونه حتى بعد أن تخلصوا من ميليشيا الحوثي الإنقلابية.  ‏

طالت انتقادات التراخي الجميع دون أن تستثني رأس الدولة، فقد تعودنا من المدينة الشجاعة التي لا تنقصها للإشارة إلى المتسببين بالفوضى بالإسم والصورة، بعد أن تبين عجز الدولة عن السيطرة وفرض السلام، تغير إثر تلك الانتقادات محافظ المدينة مرة تلو الأخرى، حتى حدثت المعجزة، فنحن في بلد لم يفقد معجزاته بعد، لكنها وللأسف ذات مردود عكسي قد تزعزع إيمان الفرد بما حوله على ثبات يقينه. 

 ‏فما إن بدأت قوات الأمن تحرك عرباتها حتى علت الصرخات الرافضة لما يحدث، صرخات كان أصحابها سباقين في انتقاد الدولة ومطالبتهم لها بفرض هيبتها، ألم يكن الأمن مطلباً جمعياً لسكان المدينة؟! وكانت المربعات الخارجة عن السيطرة هي البؤرة التي تفوح منها رائحة الجرائم، وتم فيها حسب الوقائع اختفاء العديد من جثث العساكر؟!

 ‏تقف أمام ما يحدث وانت فاقد للفهم، فقد انقلبت جميع الاتهامات السابقة لتنال من الجيش الوطني وقوات الأمن الخاصة للدولة، تسال نفسك أمام الضجيج الذي لم يتوقف، هل استخدمت الدولة القوة المفرطة؟!،ربما!!..
 ‏لعلها استثنت أو حابت البعض؟!، قبل أن تتذكر بأن الحملة كانت في بدايتها ولم يتم حصر نتائجها بعد!!..
 ‏لعل صخب المعارك أزعج نوم السكان؟!، قد يكون ذلك ممكناً، لكنهم وبرغم ذلك مجبرون على سد آذانهم، فنحن أمام قوة عسكرية تهدد الجميع بما تملك من قوة وسلاح.

 ‏تفاجأت من انتشار فيديوهات لبعض المقاتلين بأسلحة ثقيلة تهدد وتتوعد من يقترب منها بحرق المدينة، يصرخ فيها رجل يؤلب رفاقه بكل حماس: "نحن رجال ابو العباس، لن ينال منا أحد ؟!"، أي منظر محزن، هل هذا ما قاومت تعز لأجله، هل نزف رجالها الذين توسلوا يوما مثل تلك الاسلحة أرواحهم من أجل انتماء لرجل بعينه؟!، ما إن أطرح هذا التساؤل حتى توضع أمامي صورة عربة عسكرية تحمل ثلاجة منهوبة؟!، هل يفترض بي الصمت بعد هذه المقارنة؟!، أي قياس رخيص وصلنا إليه؟!

 ‏لا أستخف بعملية سرقة الثلاجة، أو أقلل من فداحة اقتراف الزي العسكري لمثل هذا الجرم، الذي يتخطى فيه الأذى المعنوى القيمة المادية للمسروقات، لكن مقارنة جريمة نهب قام بها بضعة عساكر، بتمرد جماعة وخروجها عن قوانين الدولة وأنظمتها مقارنة فاحشة تحتاج للكثير من التفسير..  ‏

وبرغم ذلك نطالب قوات الأمن بمحاسبة مرتكبي تلك الجريمة وإنزال أقسى العقوبات عليهم، بعد الإفراج عن الثلاجة المختطفة وتعويضها عن الأذى النفسي الذي لحق بها، وتفسير ما حدث للرأي العام إلا إن كانت تلك العملية مدبرة من قبل الجيش وقوات الأمن ومن ضمن عمليات التطهير المستهدفة؟!   ‏

المدهش فعلا هو وصف ما يحدث بأنه مجرد صراع مسلح بين فصائل متناحرة، بعد أن تم نزع ملابس الدولة من عليها والباسها ثوب الإصلاح وسبحته، يعيدنا هذا الأمر إلى الوراء قليلا حين كانت معسكرات عمران تقف وحيدة أمام الميليشيا التي اجتاحتها واجتاحت اليمن بعدها، وكان العذر السهل الذي جعل الغالبية يقفون موقف المتفرج مطابقاً لما يقال عن أحداث تعز اليوم، فهل نحن أمام سقوط جديد للمدينة؟!

 ‏كان الإصلاح ومازال التهمة المعلبة الجاهزة، لإخراس من يحاول إبداء رأيه، دماج تسقط، انت إصلاحي! ‏معسكرات عمران تسقط، انكشف وجهك الحقيقي أيها الإخواني!!. ‏تصرخ بأعلى صوتك بأن صنعاء محاصرة، ليتم تكميم صوتك مخافة القبض عليك بتهمة التأسلم!، تشير إلى مدينة عدن وأحزمتها الأمنية وأنت تحذر من إقامة مثيلها على تعز، لتجد إجابة جاهزة في انتظارك، وهل تريد أن يحكمنا الإصلاح؟! 

 ‏أي جنون أصاب الجميع، اتفق مع الإصلاح أو اختلف معه، ليس هذا مربط الفرس، المشكلة التي قد تصل إلى حد الكارثة هي حملة التصنيفات التي ازدادت شراسة بعد الحرب من تقييد للأفواه وتهديد مكشوف لحرية الرأي مجرد أن تختلف وجهة نظرك عن وجهة نظر من يصنفك.. 

 ‏كثيرة هي الاقلام التي استمالت المواطن، بالدولة القوية التي يرجونها، بالوطن الذي ستجاهر برايك وفكرك فيها بلا خوف، قد يخالفك الآخر لكنه لن يقوم بتكفيرك أو تخوينك أو طعنك بسهام التهم الجاهزة، للاسف تختفي يوتوبيا الحالمين حين تخالف تلك الأقلام أو تختلف معها في ما تراه.

 ‏إن لم يكن من حق إنسان على هذه الأرض إبداء رأيه بكل حرية فمن الأفضل إيقاف الحرب في كافة الجبهات واستدعاء الحوثي ببساطة ليتصدر المشهد، فقد كان السباق في قتل الرأي الآخر بعد تعذيبه ونزع حروفه في السجون.  

السبت، 23 مارس 2019

‏مفاجآت تاريخية..  
السبت, 23 مارس, 2019 - 09:26 مساءً 
 نور ناجي
  يقول تشاك بولانيك: "التاريخ لا يفعل شيئاً سوى تكرار نفسه، ما نقول إنه فوضى ليس إلا أنماطاً لم نتعرف عليها بعد، ما لا نفهمه نقول أنه هراء، ما لا نستطيع قراءته نقول أنه كلام فارغ"، قد تتفق مع الرجل أو تخالفه الراي إلا أنك لا تستطيع إنكار مسارات التاريخ التي تلقي بظلالها على ما قبلها بشكل مستفز". 

 ‏لم نعد نصاب بالحيرة حين نلقي نظرة على مسار الحرب الشبه متوقفة في اليمن، هناك لعبة دولية لم تحقق أهدافها بعد، والتي يبدو أن القضاء على الانقلاب لم يكن من ضمنها، وليس من المستبعد إن تكون مراوحة اليمن في هذا الركود هو الهدف غير المعلن لهذه الحرب، لكن الى متى؟! 

 ‏يأتي هنا دور التاريخ للإجابة، الشاهد الذي لا يضيع وقته مهما طال ترقبه لرصد الأحداث الدرامية المثيرة، ولن يستعصي عليه حال اليمن، فليست صفحاته سوى سلسلة من حالات الركود التي تقطعها بعض المفاجأت، غير المتوقعة أو المتوقعة حين تتوفر الأسباب..  ‏

قد تكون إحدى تلك المفاجآت قرار خاطىء لم يحسب له جيداً، على سبيل المثال، لم تكن فجيعة هتلر بهزيمة جيشه في شتاء روسيا بأكثر من دهشة روسيا نفسها من قرار غزوها الذي أدت نتائجه إلى تغيير كفتي ميزان الحرب العالمية الثانية وهزيمة المانيا التي ابتلعت قبل بضع سنين فقط معظم أوروبا في عدة أشهر..  ‏

كان قرار  ملك بيت المقدس "جاي لوزجنان"، بالخروج للصحراء ومقابلة جيش الناصر صلاح الدين الأيوبي بجنود كادوا أن يقضوا عطشاً، خطيئة عسكرية لم يحلم بها القائد الكردي المسلم؛ لكنه انتهزها وحرر القدس بعد سيطرة مسيحية دامت تسعين عاماً..

 ‏لن ننسى هنا عودة القدس للاحتلال مرة أخرى بعد وفاة صلاح الدين بنسخ خطة خيانة متوارثة اعتدنا عليها..

 ‏قد تكون لأصغر المخلوقات الحية أثر غير متوقع على مسار يُفترض أن يكون مفروغ منه قبل أن ينقلب راسا على عقب. 

 لو عدنا بصفحات التاريخ إلى الوراء لوجدنا أن العالم احنى رأسه أمام غزو الاسكندر المقدوني الذي كان يسعى إلى "نهاية العالم والبحر الخارجي الكبير"، دون أن يقوى جيش أو أرض عصية على صده، حتى تجاوزت المساحة التي سيطر عليها قبل وفاته 5,200,000 كم2، لتكون بذلك أكبر الدول التي أنشئت في العالم القديم..   ‏

وبضربة عصا غير متوقعة تفتت تلك المساحة بعد وفاة مفاجئة للملك الشاب، والتي اتهمت بها "جرثومة السلمونيلا" المسببة لحمى التيفوئيد التي ظهرت اعراضها عليه كما ذكرت غالبية المصادر..  ‏

شعر الاغريق بضعفهم بعد إنسحاب "أخيل" أقوى المحاربين من صفوفهم، فهداهم تفكيرهم لوضع حصان خشبي يحمل في جوفه عده فرسان أمام أبواب المدينة المحصنة قبل مسرحية مغادرة معسكراتهم، لكن الغباء هو من جعل "بريام" ملك طروادة يقبل بإدخال تلك المكيدة التي خرقت حصار دام عشر سنوات، وجعلته ومدينته البحرية مكشوف أمام انتقام عدوه "منيلاوس" زوج "هيلين". 

 ‏اخترق الحصن وهدمت المدينة، وقتل كافة سكانها وانتهت بذلك المنافسة الشرسة على الطرق البحرية بين الإغريق وملوك طروادة..  ‏

ملاحظة: لم يتوقف التاريخ عن تذكيرنا بأهمية الموانئ البحرية ومعارك السيطرة عليها، سواء في الزمن القديم أو على شريط اليمن الساحلي، إلا أننا لا نجيد القراءة.. 

 ‏لم يشعر المدونيين بالملل، مع وفرة انتصارات المغول على يد  جنكيز خان وهولاكو من بعده، "سيحدث شيء ما، لقد مررت بهذا الموقف من قبل"، يقول التاريخ لنفسه قبل أن يسمع هتافات العالم إبن تيمية الذي أخذ يدعو الناس لدفع الضرائب ومواجهة الأعداء القادمين من الشرق.. 

 ‏خرج المسلمون بقيادة "سيف الدين قطز" المملوك الذي تم شرائه من سوق النخاسة صغيراً ليقابل "كتبغا نوين" التابع الأول لقائد التتار العام "هولاكو"، يوم الجمعة 25 من رمضان للسنة 658هـ في موقعة "عين جالوت" التي هزم فيها التتار وتقلصت بذلك أحلامهم قبل أن تتلاشى كذرات غبار، واغتيل قطز المنتصر في طريق عودته على يد مجهول، لم تستدل السلطات المعنية حتى يومنا على الفاعل!!..  ‏

لا داعي للذهاب بعيداً، ربما لو سرعنا عجلة التاريخ وتوقفنا عند منتصف القرن السابق، لوجدنا "أحمد حميد الدين" يقف متفاخراً بعينيه الجاحظتين وبقدرته على حكم شعبه من خلال نافذة قصره لمائه عام أخرى، خاصة بعد أن تغلب على حركة ????م وأعدم ثوارها بدم بارد وبأسلوب بشع أمام أعين الجماهير الغفيرة..

 ‏لم تكن استباحة صنعاء للنهب والسلب، فوضى غير منظمة بل جريمة مقصودة الهدف منها كسر أي نية مبيتة لثورة أو انقلاب جديد عليه. وبرغم حذره الشديد لم يتوقع في أسواء الحالات أن يتم القضاء عليه وعلى مملكته المعتلة على يد بضعة شبان من الجيش ربما لم يتجاوزوا العقد الثاني أو الثالث من اعمارهم، ساندت حركتهم الوليدة ثورة الجماهير التي لم تفارقها صور الإعدامات الوحشية القريبة العهد..  ‏

كثيرة هي الحكايات والملاحم التي جعلت مسارات التاريخ تنحني هنا وتتوقف بعض الوقت هناك، وكما اتفقنا ليست اليمن وما يحدث فيها خارج هذا المسار..

 ‏يشغلني أحياناً توقع سبب مناسب لنهاية هذه الحرب، قد يكون احتلال بعوضه لجمجمة أحدهم  نهاية درامية شيقة، حبكة مثيرة لثورة شعبية تقودها جماهير لم تعد تملك ما تخسره، لن يكون بالختام السيء. ‏ما رأيكم بقرار للشرعية مبالغ في جرأته، يصل إلى حد تهور الشجعان ورومانسيتهم، خاصة مع كثرة قراراتها الغبية..  ‏

ربما بالغ خيالي في التوقع الأخير، ومن الأفضل، لمن هو في مثل حالتنا، أن يبقي أحلامه  في نطاق الممكن الذي لن يعدمنا ظهور قائد صادق، عليه وعثاء المعارك، ظاهره كباطنه، لا يخشى من أجل أرضه لومة لائم، لا ينحني لمنصب ولا يشعر بهاجس تغيير سعر صرف الدولار الذي قد يؤثر على مستحقاته الشهرية..  

السبت، 16 مارس 2019

وكأن شاعرنا الكبير عبد الله البردوني كان على علم بأن اليمني لم يختتم مشوار أحزانه بعد، فأنهى شطر البيت الأول من قصيدته الشهيرة " أحزان وإصرار " بالشرط الأساسي لتخطي معاناتنا: ‏شوطنا فوق احتمال الاحتمال
 ‏فوق صبر الصبر، لكن لا انخذال 

  ‏يحدث أن تصاب بالخذلان، أو تصيب نفسك به، لتقف وحيداً حائرا أمام ما تشعر به، أنت لا تستطيع إزاحة ما ألم بك من وجع، وعاجز أيضاً عن المضي قدماً، وكأن عجزك عن الحركة دين لا بدّ أن تستوفيه ثمنا لسذاجتك، أو لعدم كونك قوياً بما فيه الكفاية لحماية نفسك..   

‏لعل هذا هو حال اليمني الآن، الذي قضى حياته في سلسلة من التوقعات والاحتمالات، وربما الخطط البديلة التي لم يؤخذ رأيه فيها، لكنه وقع على كل حال في نتائجها، حتى جاءت اللحظة التي قرر فيها الانهمار، لم يعد البكاء عيب، خير لك أن تبكي على أن تسمر حياتك في حيرة لا ينتج عنها شيء: ‏
نغتلي، نبكي، على من سقطوا،
 ‏إنما نمضي لإتمام المجال.. 

  ‏لم يعد لليمني شي يفقده، فقد سبقه اخاه في طريق البحث عن الحرية وعليه أن يكمل هذا المشوار مهما كان قاسياً ومراً، فهو قدر مكتوب عليه لا بدّ وأن يمضي به دون أن ينظر للخلف أو يشتكي طول المسافة وجورها، على العكس من ذلك يتوجب عليه من أجل اجتياز محنته، التغني بأوجاعه والعزف عليها:
 ‏دمنا يهمي على أوتارنا ‏
ونغنّي للأماني بانفعال ‏
مرة أحزاننا، لكنها ‏ـ
 يا عذاب الصبر ـ أحزان الرجال
 ‏نبلّع الأحجار، ندمى إنما 
‏نعزف الأشواق، نشدو للجمال 
‏ندفن الأحباب، نأسى إنما ‏
نتحدى، نحتذي وجه المحال 

  ‏لم يعدنا شاعرنا الكبير بطريق سهل مفروش بالأزهار، بل ذكرنا ببدايته الصعبة المستمرة إلى يومنا الحالي فلم تسدد فاتورة الأرض مهما اعتقدنا، سنضطر لدفع المزيد حتى لا يبقى لدينا ما ندفعه: ‏
مذّ بدأنا الشوط، جوهرنا
 الحصى ‏بالدم الغالي وفردسّنا الرمال ‏وإلى أين؟ غرفنا المبتدئ ‏والمسافات ـ كما ندري ـ طوال ‏وكنيسان انطلقنا في الذّرى ‏نسفح الطيب يمينا وشمال ‏نبتي لليمين النشود من ‏سهدنا جسرا وندعوه: تعال..  

 ‏توجعنا الهزائم المفجعة التي نتلقاها بين الحين والاخر، نقترب ونحن في غمارها من لحظات تفقدنا إيماننا أو تكاد، نلمس اليأس بأكفنا لنكون أقرب ما يمكن من الاستسلام وإعلان الهزيمة التي لا نصر بعدها لكننا وفي قمة ذلك اليأس نصحو رافضين الانقياد له، لنستدعي الحياة مرة أخرى وبمنتهى الإصرار، فقد تعلمنا من سلسلة احزاننا أننا أقوى مما نظن وإن معاناتنا هي من تنبتنا مرة أخرى كطائر رخ لا يهزم: ‏
وانزرعنا تحت أمطار الفناء
 ‏شجرا ملء المدى، أعيّا الزوال
 ‏شجرا يحضن أعماق الثرى ‏
ويعير الريح أطراف الظّلال ‏
واتّقدنا في حشى الأرض هوى ‏
وتحوّلنا حقولاً، وتلال
 ‏مشمشاً، بناً، وروداً، 
وندى ‏وربيعاً، ومصيفاً وغلال
 ‏نحن هذي الأرض، فيها نلتظي 
‏وهيّ فينا عنفوان واقتتال
 ‏من روابي لحمنا هذي الربى
 ‏من ربى أعظمنا هذي الجبال   

‏من سخرية القدر، أن يكون الموت أقصى ما يهدد به الشعب ويتوعد به، الموت الذي أمسى حدث اعتيادي، حتى أن اختفاء قوائمه أو التخفف منها صار هو المريب لليمني، فقد اعتاده حتى أنه لم يعد يشكل له تهديد حقيقي، نموت ؟!، وماذا بعد، ما المخيف في هذا التهديد ؟!: ‏
ليس ذا بدء التلاقي بالردى 
قد عشقناه وأضنانا وصال 
‏وانتقى من دمنا عمتّه ‏واتخذنا 
وجهه الناري نعال
 ‏نعرف الموت الذي يعرفنا ‏
مسنّا قتلا، ودسناه قتال 
‏وتقحمنا الدّواهي صورا ‏
أكلت منّا، أكلناها نضال ‏
موت بعض الشّعب يحيي كلّه 
‏إنّ بعض النقص روح الاكتمال   ‏

لن تنتهي الاحزان عن زيارتها الثقيلة حتى نستوعب الدرس المفروض علينا ونستحق النصر، ولن نكون كذلك حتى نقدر تضحية من سبقنا ايا كان ونلغي جميع الفروق التي وضعناها يوماً ما سداً بيننا: ‏
ها هنا بعض النّجوم انطفأت ‏
 كي تزيد الأنجم الأخرى اشتعال 
‏تفقد الأشجار من أغصانها 
‏ثمّ تزداد اخضرارا واخضلال  

 ‏لم يجد البردوني إجابة لأسئلته، فهل سيكون اليمني اليوم وبعد كل هذه المعاناة هو من سيجد لها الأجوبة: ‏
إنما يا موت هل تدري متى
 ‏ترتخي فوق سرير من ملال ‏
في حنايانا سؤال، ما له
 ‏من مجيب، وهو يغلي في اتصال
 ‏ولماذا ينطفئ أحبابنا 
قبل أن ‏يستنفد الزيت الذبال ‏
ثمّ نسى الحزن بالحزن 
ومن ‏يا ضياع الردّ ـ ينسينا السؤال  

الأحد، 10 مارس 2019

‏انتقام متشفِ ..

  الأحد, 10 مارس, 2019 - 02:15 صباحاً 

 نور ناجي 

 هل فقدنا الوطن فعلياً إثر عملية الانقلاب، أم أننا فقدناه قبل ذلك بكثير؟! ..

 ‏لم تكن محاصرة صنعاء هي البداية، أو حتى عمران ودماج، ربما لا نستطيع تأريخ لحظة مخصصة لافلات اليمن من بين أيدينا، نحن أمام تاريخ وقع على بركة مغمسة بالدماء وارتوى، حتى بدى أنها حكر عليه. ‏خاضت اليمن الكثير من الاضطرابات، أوشكت على السقوط لمرات لا يستهان بها، وتهاوت وانكبت على وجهها أكثر مما نتخيل، إلا من عودات جمعت فيها نفسها بصعوبة ببضع أجزاء من خيوط وأسلاك شائكة..

 ‏بامكاننا توجيه إتهامات حقيقية على السلالة المريضة بآفة التميز العرقي على غالبية المصائب التي وقعت في اليمن، لكن ذلك لا يعفي اليمني نفسه من تهمة المشاركة في الأذى وهو يعلم غالباً تبعاته لكنه رغم ذلك مستمر في خوضه وكأنه أمام لعبة أو أحداث مغامرة :" من سيدمر البلد ؟! ".. 

 ‏قد يكون الحكم ورغبة السلطة وراء سعي أسياد الحروب في إثارة البلبلة والقلاقل، لكن ما الداعي الذي يرافق الملبين لها؟!، ما الذي يثار في دماء البعض لحظة سماعهم زمجرة  الحرب الأولى وهتافات غربانه، ما الرغبة التي تسري في عروقهم وتجعلهم يلقون محراثهم عنهم ويستبدلوها برغبة متوحشة تتشبث بالسلاح وبرغبة انتقام لا يستطيعون إنكارها؟!..  ‏

حين تراقب بضعة أطفال في لعبة جماعية، لن تجد الجميع سعداء بالنتيجة التي ستوزع فيها الهزيمة على الاغلبية، فالكل يتمنى الاستئثار بالنصر وامتلاكه لكنهم ومن أجل استمرار اللعب يتبعون قوانينه وبالتالي القبول بنصر الغير، فقد انتموا فعليا للعبة وشروطها منذ لحظة اشتراكهم بها، قلة فقط من ستسعى لكسر وتحطيم قواعد اللعبة وتخريب ساحتها مع علمهم اليقين بأنهم سيكونون أول محروم منها!!.. 

 ‏حين تحاول فهم مثل ذلك السلوك ستجد أن عجز الطفل "المخرب" عن إتمام اللعبة مهما بذل من مجهود جعله يشعر بالنبذ الذي أفقده انتمائه لساحة اللعب..

 ‏لا تختلف ساحة اليمن عن تلك الساحة سوى بالأعداد الغير قليلة لمن يحاول تحطيمها مرة تلو الأخرى، بنشوة اندفاع لذلك الفعل لا ينقصه سوى هتاف شمشون: "علي وعلى أعدائي!!"..

 ‏هل يتبادل اليمني مع أرضه علاقة طبيعية، أم أنها تحمل من التعقيدات ما يفوق علاقة الإنسان بأرض يسكنها؟!.. 

 ‏حين تقف أمام مشاعر اليمني تجاه أرضه تجد أنك أمام محب يرى أن علاقته بأرضه كعلاقة حب بعاشقة ليست بعيدة عن "زليخة" حسب تصوره، تعاتبه يوما: "لم لا تمنحني القليل وتقاسمني بعض حبي لك؟!"، وتعطيه ظهرها حينا وهي تسأل الجلاد أن يزيد في تعذيبه؟!، وهو يقف بين جنونها حائرا في كيفية التعامل معها، هل يعطيها ظهره ويغادرها باحثا عن حبيبة أكثر رأفة به، أم يحاول الامساك بيدها مرتهناً لصدفة تعقلها حتى يتجاوزا محنتهما سوية؟!..

 ‏لم تكن جغرافية اليمن ابدا باللطف التي تتحدث عنه الاغاني، فهي أرض شاقة واورثت ذلك الشقاء لأبنائها، الذين أفنوا اعمارهم لاستصلاحها وزراعتها، دون أن يجدوا مقابل ملائم لما دفعوا أو مكافىء للأوقات التي رفعوا فيها أيديهم للسماء استجدا لقطرة ماء، وحتى في تلك اللحظات التي تحنو فيها عليهم وتلين لهم ستجد أن من يقطف خيرها قلة مرفهة لم تحمل لها معول او تذرف على ترابها عرقاً..

 ‏أصيب اليمني بالوهن نتيجة هذا الرابط، واهتز معه الأمان وبعض من الانتماء للأرض التي  يقطنها؟!، لذلك نزع نسبة لا بأس بها من ابنائها عن انفسهم تلك العلاقة عنهم وغادروا الارض الا من بعض التفاتات تعيد لهم بعض ذكريات، ومن تبقى عليها حاول مهادنتها وهو يمارس عليها حياة شاقة، واصبح أحد اثنين أما عازم على دفع ثمن عشقه للأرض بقلب متسع لشقاء وشفاء، أو آخر تحول إيمانه بها لقلق وتربص افقده مع الأيام قدرته على منح الأعذار والغفران وقد حملها تبعات اقدار لا تملك منها شيء..

 ‏  ‏هل انتقمت الفئة الاخيرة للشقاء الذي نالته  من قسوة هذه الأرض؟!..  ‏"

"مهما كانت الحروب قاسية لكنها أكثر عطاء من أرض بخيلة" قد يقولها من فضّل مصلحته الشخصية عن سلام هذه الأرض وهو ينفخ في النيران فيها بانتقام عاشق متشف، دون أن يدرك أن النيران لن تتوقف عند احراق الأرض، بل ستمتد لتلتهمه بمكاسب حروبه واعذار الانهاك والتعب التي أفقدته إيمانه بها..  

السبت، 2 مارس 2019

صنعاء.. "وتعطلت لغة الكلام"..  

السبت, 02 مارس, 2019 - 08:12 مساءً 

 نور ناجي  

 يحدث أن تفرغ منك القصص وتتبلد الحكايا. لا شيء يغضبك أو يسعدك. تتوقف روحك عن شغف الحياة والاستمتاع بتدفقها وحسب، دون أن تبدى لك أسبابها، لعلك تدركها في قرارتك، لكنك لا تريد كشفها لنفسك بوضعك الكثير من الأعذار؛ كالسأم أو رفض الواقع، فأنت مخلص لحالتك مهما كان مزاجها.

   برغم مهادنتك لتلك الحالة، إلا أنها في واقع الأمر تنهكك، تجعلك تفقد جزء من هويتك. لذلك لا يجب عليك الاستسلام أو الانصياع لها، فأنت دون دورة الحياة التقليدية حولك، تحتاج لتعريف جديد وهوية غريبة عنك، وليس من اليسير العثور على بطائق شخصية في هذا الزمن .. 

  ستتفاجأ أن الخروج من هذه الحالة لا يحتاج- أحيانا- لمجهود كبير؛ مجرد وجوه جديدة؛ أو ربما رحلة قصيرة بين قصص الطرقات المزدحمة قد تعيد لك حيوية تدفقك.. أكدت ذلك لنفسي وأنا أخرج من المنزل..   

أنه يوم السبت، الذي قرر الانقلابيون الغاؤه كإجازة بقرار مبكر ليكون يوم دوام رسمي. لم أعرف حتى اليوم أسباب ذلك القرار، وقيمته الحقيقية، أو الانجازات التي تمت بموجبه؟! 

  أشرت للباص الصغير الذي كان فارغاً وانتقيت مقعدا مريحا. اعتدت نسيان ما حولي سابقا في رحلاتي في الباص، إلا أني في مثل هذه الرحلة كنت بحاجة ملحة للبقاء متنبهة لاقتناص فرصة وصيد حكاية ما. كان النهار قد اقترب من الانتصاف، وتأكدت من ساعتي، بعد أن كاد الشارع ينجح في خداعي بهدوئه وقلة ازدحامه.. ربما لسنا في وقت الذروة فقط !! 

  كانت الباصات، كما أتذكر في سنوات دراستي الجامعية، لا تتوقف عن التنافس بينها في إدارة أحدث الأغاني، أو فتح الاذاعات التي حفظنا توقيت برامجها، إلا أن كاسيت الباص الذي يقلني كان صامتاً. لا بأس أن أختار السائق ذلك، ربما لا يعشق سماع الألحان، أو أن الكاسيت الباص معطل. لا داعي للتذمر، فمجرد عدم سماع الزوامل عدالة يجب أن تكون كافية بالنسبة لي..  

 كنت أبحث عن حكاية، لعلي أجدها في ملامح السائق الجانبية التي أحدثت الشمس فوضاها عليها بلا شفقة. وببرود، حرك المقود أمامي بيدين لطختهما آثار زيت المحركات، إلا أني لم أجد فيما أراه ثغرة تدل على قصة ما.  ترى ما حكايته؟! ما زال في مقتبل العمر، لكن تصلب قسماته تقول إنه لا يفكر في شيء، ولا يريد ذلك. لعله كان أقرب لحالتي التي تركتها في المنزل !!

   لا بأس سأعثر على ضالتي قريبا.. 

  توقف الباص مع إشارة راكب جديد. لم يتذمر سائقو العربات حولنا، يبدو أن شوارع صنعاء الضيقة لم تعد تعاني هي الأخرى من الازدحام أو من ضيق الأفق. حوار قصير دار بين الراكب وسائق الباص بسبب الأجرة، صعد أثرها بعد أن اتفاقا على دفع نصفها.. هل خيب ذلك ظني؟! ربما كنت آمل في بذرة حكاية على غرار: "وثار السائق اخيرا".. 

  تركت سائق الباص، فلا فائدة تُرجى منه، واختلست النظر إلى الراكب الذي دلت هيئته على موظف حكومي تقليدي بثياب رثة أصبحت هي الصفة المميزة لغالبية موظفي الدولة، بعد توقفهم منذ أكثر من ثلاث سنوات عن قراءة رسالة نزول الراتب في حساباتهم البنكية. في هذا المشهد "حكاية"، قد تكون مثيرة في الظروف العادية، إلا أنها غدت بالنسبة لي ولغيري حكاية سمجة لا تثير المشاعر أو تحركها، فاعتياد المهانة واقتسامها بين شعب بأكمله يجعلك تفقد الشعور بها مع توالي الأيام..!!  

 لم يُطِل الباص السير، حتى توقف مرة أخرى. كانت هذه المرة سيدة تجاوزت الستين من عمرها. لم تحاول تخفيض الأجرة بل دخلت الباص بنظرة حازمة قبل أن يعترض أحدنا على "الشوالة" التي تحملها !! كنت أريد أن اطمئنها بأن لا معترض منا، إلا أني توقفت. يجب أن تأخذ الأحداث مجرياتها دون تدخل مني ..!!

   أخذني الفضول لمعرفة ما تحوى تلك "الشوالة"، فسرقت لمسة خفيفة ميّزت عبرها الخبز الناشف. لابد وأنها تربي بضعة اغنام وليس الخبز سوى طعامها، متى ستتحدث عنها؟!.. 

  طال الوقت دون جديد. لماذا لا تبادلني الكلام كما تفعل النساء عادة؟! قد يكون انتظار الحدث، إفراغ واضاعة له، قلت ذلك في نفسي وأنا أخالف قواعدي وألقي عليها التحية. شَعرتُ بالدماء تتدفق إلى رأسي ساخنة، حين أجاب الصمت تحيتي !! هل اعتبرت السيدة إشارة رأسها الخفيفة، والتي بالكاد لمحتها، ردً كافٍ عليّ؟!..   

ما الذي حدث لسكان مدينتي؟! ما هذا الخرَس الذي ران على قلوبهم؟! ربما أخطأتُ ببحثي عما يحرك البركة الراكدة في وجوه تعطلت منها لغة الكلام !!..  

 كانت صنعاء، ومازالت، منبع لا ينبض، لذلك غادرت الباص الفاقد للحكايات سريعاً، وترجلت للسير على أرصفة المدينة. اشتقت لصنعاء، المدينة الجميلة التي مهما حاول الزمن إخراجها عن مسارها التاريخي تعود رغما عنه. حاولت السير أطول فترة ممكنة، لعل الوجوه ليست باردة غير مبالية كما توقعت، أنها أقرب لوجوه اعتادت على الكلام حتى لم يعد بإمكانها منحه..!!   

ربما عجزت عن إيجاد إلّهام في وجوه ساكني صنعاء، لكنني كنت خبيرة في تقصي أخبار المدينة ومعرفة أحوالها. مازال نبضها، بالنسبة لي، هو المؤشر الحقيقي الذي أعتمد عليه. رفعتُ رأسي إلى الجبال المحيطة لخصر المدينة، والتي لم أعد اسمع ترانيمها الصباحية منذ فترة ليست بالقليلة. هل تغيرت صنعاء كما يقول البعض؟! ..   

"معك حق الصبوح يا عمة"؟!، قاطعني ذلك الوجه الذي لم يتجاوز سنواته الخمس. من المفترض أن يؤلمني ذلك الطلب، إلا أن ذلك البريق المحتال الذي بدى في عينيه، جعلني ابتسم. قبَضتُ على كفه التي استسلمت لي وأنا أسأله مرافقتي بضع دقائق، ليحكي لي، خلال دقائق قصيرة، كيف سيصبح طبيبا بيطريا يعالج قطط الشوارع التي يعطيها جزء من طعامه كل يوم..   

ما الذي توقعته حقاً من المدينة؟ لن تحبذ مدينة نفسها حين تكتظ بالفقر والحاجة والمهانة! لن تستقبل طالبي النسيان بالابتسامات والهزل! لن تكون سعيدة حين ترى توقف سكانها بفعل جماعي عن الكلام! ستصاب بخيبة أمل قاسية نتيجة خذلان فاق الأربعة أعوام من وعد بنصر لم يوفى..   

ليست صنعاء أو ساكنيها كما يظنه البعض؛ وليس الصمت وتعطل البوح والشكوى تبلد وبرود؛ فهناك نبضات غاضبة قد لا نستشعرها على الوجوه، إلا أنها تصل عبر نبض الأرصفة والطرقات؛ غضب هادر، قد تكون مفارقة ابتسامة ذلك الصغير شعلة إيقاده، بعد أن استقت المدينة وقود الغضب، من ذلك السائق والموظف البائس والسيدة ومني؛ نبضٌ، يجعلني لا أخشى على صنعاء مهما طالت مدة الانقلاب الجاثم عليها..  

 ستعود صنعاء كما كانت، إن لم تكن عودتها للأفضل. فبعض المدن لا يمكن للحياة أن تعطيها ظهرها بسهولة..    

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...