السبت، 23 فبراير 2019

دكاكين طبية.. 

  السبت, 23 فبراير, 2019 - 09:38 مساءً 

 نور ناجي 

  للحرب في صنعاء شكل مختلف، بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية التقليدية. فهي أقرب لكائن رمادي شفاف أحاط المدينة وتسلل اليها ببطء، زحف بين شقوقها والتصق بأبوابها ونوافذها حتى ابتلعها بألوانها القديمة، ونسخ نفسه عليها..  

 كنا نسخر من المتشائمين، الذين كانوا يحذرونا من نية الحوثي وجماعته اعادتنا لعصر ما قبل التاريخ. ليس ثقة في الحوثي، بل لاستحالة العودة للماضي في مثل هذا العصر المنفتح، متناسين أن مؤشر الحضارة كما يصعد يهوى للقاع بمنتهى السهولة. وتم للانقلاب ما تمنى، وهوت اليمن تحت ثقله لقاع لم يسلم فيه شيء..   

المضحك، أننا وصلنا الى نقطة الّلا شكوى، فلن تعيد الهتافات والمناشدات شيء لسابق عهده..  

  ككل الخدمات في صنعاء، تردت حالة الخدمات الطبية. نستطيع القول بأنه لم يعد هناك من طب حقيقي في المدينة الفارغة الجيوب سوى للقادر، والقادر جدا. أما غالبية الشعب فقد ترك لها خيار الموت البطيء، أو تحمل ما لا تطيق من ثمن خدماته الباهظة..   

وحتى لا أكون جائرة، لم تغلق على المواطن جميع الابواب، بل منح لنا خيار مغامرة دخول الدكاكين الطبية المستحدثة، والتي لا تختلف كثيراً عن صور الماضي الرمادية التي سخرنا من فكرة عودتها..  

 لن تدهش حين ترى الازدحام على عيادات، أو دكاكين الطب الشعبي، أو النبوي، أو ذلك المتشعب في علم الجان وسحر المارد "مرجان"، أو حتى الاحواش الخاصة بعلاج "الونش". نعم الونش والذي يقال بأن تجربته لا تخلو من الإثارة!! وستجد الزائر لتلك الدكاكين، بعد أول زيارة لها، يتحول إلى أكبر المدافعين عنها، وكأنه يزيح عن نفسه حساب ضميره لقبوله أن يُحتال عليه بمثل تلك الكذبات..  

 وكان لي، للأسف، نصيب في تجربة أحد تلك الدكاكين. قبضت ذلك النهار على يد "شهد"، في محاولة لمدها ببعض الشجاعة بعد أن سبقتنا والدتها إلى طاولة الاستقبال في "العيادة"، إن كان بإمكاننا إطلاق لفظ العيادة على بلاط ذلك البدروم المظلم برائحته الموبوءة!..  

 كان المكان مزدحماً، لدرجة أنك لن تجد موضع قدم "لزبون" إضافي، لكن أبوابها كانت مازالت تستقبل المزيد. اختنق المكان بالبكاء والزفير الخانق، إلا أن المذيع كان يقبض على ميكرفونه ومصمم على نقل أخبار المعارك من قلب جيزان ونجران عبر الشاشة المغبرة بكل حماس. يدهشك المدى الذي يصل إليه اعلام الانقلاب في الحفاظ على مثل هذا الثبات الانفعالي، رغم مرور السنوات على ذات الخبر!!.. 

  لمحت شيخ كبير يلوح بعصاه في وجه الممرضة البارد:"إنكِ تخالفين الطابور، وتحابين صديقاتكِ أو من يدفع لكِ، رأيت ذلك بأم عيني" صاح بعصبية وهو يرغي ويزبد، مؤكداً لمن حوله أنه يقف على نفس المسافة من الطابور منذ ثلاثة أيام دون ان يُجري العملية. سالت نفسي بين تشنجاته: هل من المعقول بأنه لم يُزِل الّلوزتين بعد هذا العمر؟!. لعلها ليست الُلوز على أي حال، فمثل هذه الدكاكين لا ترفض مريض أو تعجز عن شفائه!..   يبدو أن الشيخ لم يكن جائرا كما اتهمه البعض، فقد احتفظت والدة "شهد" بالحجز الذي تأخرت عنه يومين كاملين، وتخطت الطابور و"مخاط" الاطفال ولعنة الشيخ، بمنتهى البساطة، باتجاه "غرفة العمليات"!!..  

 تلمسنا الطريق بصعوبة: "لا يجوز أن يكون في غرف العمليات نوافذ"، هَمَسَتْ لي قبل أن تتعثر بجسد سيدة افترشت البلاط. قد تكون والدة شهد محقة في مسألة عدم وجود نوافذ، لكن ذلك لا يعطي الذباب الحق في احتلال مثل هذا المكان واتخاذها مسكناً له. اعتدنا الرؤية بعد لحظات، ليطل علينا بوجهه البشوش. لا يعطي البالطو الابيض الإيحاء دائما بأن من يرتديه طبيب، وهذا ما شعرت به من حديث "الطبيب"، الذي يبتلع نصف حديثه وكأنه يخشى التورط في كلمة تُدينه!.. 

  تجعلنا الحرب أنانيون بعض الشيء، وتخرج أسواء ما فينا. وقد كنت أنانية، بمقدار ولو بسيط، وأنا أزيح بعض الأطفال عن السرير المزدحم، بعيدا عن أعين أمهاتهم بالطبع، لأواجه شهد بابتسامة مشجعة وأنا أسد أذنيها الصغيرتين عن الصراخ المحيط بنا. لا يجدر بها أن تضعف جرّاء انهزام اللحظات الأخيرة. لن تتلقى ابتسامة رضى نتيجة ذلك، فقد أخرجت الحرب أيضاً أسواء ما في والدة "شهد" وحولتها لكتلة من العصبية..   

 استوعبت الطفلة محاولتي، فأبعدت كفاي وعلى وجهها ابتسامة واثقة: "اطمئني يا خالة، إن خلع اللوزتين بهذه الطريقة أسهل وبدون وجع تقريباً. كما أن أكثر وفيات المستشفيات نتيجة للمخدر الذي يستخدمه الأطباء، وأنا لا أريد أن أموت". لم أكن بحاجة لذكاء خارق لأدرك من الذي وضع لشهد تلك المعلومة. لم يتعلم الأطفال شيئا من الحرب، ومازالوا في منتهى "السذاجة" !!  

 كنت حريصة على أن يستبدل الطبيب المحتال قفازيه الطبيين بأخرى جديدة. فأن يستخدم ذات الزي المتسخ وسرير العمليات المرصوص بالصدى والمرضى شيء، وأن يبدأ عملية جديدة بنفس القفازات شيء لا ينبغي السكوت عنه ابدا، ولن اسمح به..  

 اصابتني نوبة شديدة من الغثيان بعد صرخة شهد المدوية، وخروج الكماشة الملطخة بالدماء من حلقها. يبدو أن علبة البخاخ التي رشها على حلقها لم تكن كافية، أو ربما منتهية الصلاحية، حتى بعد أن هزها مرارا بحاجبين مقطبين وانحني مرة أخرى "لنتع" اللوزة الثانية.   من نعم ربنا سبحانه وتعالى أنه اكتفي بلوزتين في الحلق. لم تكن الطفلة لتقبل بجولة ثالثة حتى وإن ماتت اختناقا بمخدر المستشفيات، أو هددتها والدتها بسلخ جلدها..  

 لم أكن اعلم أن شهد تحمل ذلك القلب الأسود حين قاطعت العائلة، محملة إيانا مسؤولية الصدمة التي اصابتها. إلا أني استطعت بعد عدة محاولات اختراق الجبهة المنيعة التي حصنت نفسها بها، وشرحت لها ظروف والديها التي أصبحت في منتهى السوء بعد انقطاع الراتب: "إنها الحرب يا شهد، غادرت الشوارع فعلاً لكنها لم تختفي بعيداً، مازالت هنا ملتصقة بلونها الرمادي على جلودنا"..  

 هتفت الطفلة بحنق وهي تحاول كتم نشيجها: "يا رب اقطع لوز الناس اللّي عملت الحرب، واقطع لوز اللّي قطعوا راتب أمي وأبي!".    
هززت رأسي دون أن أردد حروف دعائها أو أؤمن عليه. فكما يأسنا عن الشكوى، توقفنا عن الدعاء حتى نستحقه أو نحقق شروطه. كل ما كان يشغل تفكيري: هل ستواصل حياتنا التدهور عن ما وصلنا إليه، أم سينالنا الحظ ونتوقف عند محطة البخاخ المخدر؟!..  

السبت، 16 فبراير 2019

قطعة نرد 

 السبت, 16 فبراير, 2019 - 08:59 مساءً

 نور ناجي 

 ألقت امريكا قطعة النرد خاصتها ليكون القرن العشرين قرناً اسرائيليا بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، بمساراته، تاريخه وأحداثه، سواء تلك التي وقعت بنية سليمة، أو الأخرى المُبيّته بمؤامرة كونية خطط لها جيداً، أو بتزاحم مصادفات مدهش. لكنها، وكما أرادت، ازاحت خرائط العالم ببرود لتفسح مجالا للدولة الوليدة..   

لا يعني وجودك بالضرورة استمرار بقائك في ظل وجود مغامرات على شاكلة محاولة إغراقك في البحر. لذلك كان لازما على امريكا إضافة قرن جديد ألقت على أيامه الأولى قطعة النرد مجدداً، لإعادة صياغة العالم وترسيخ وجود ذلك الكيان بثبات وقوة.  

 ماذا عنا نحن؟ ما دورنا في كل ما يدور في العالم؟!   

نحن في أفضل حال. مازلنا نحتفظ بالنفط، السائل المقدس الّلزج، الذي يمدنا بكينونتا. الاهنا وصنمنا المعبود، هويتنا، وصك بشريتنا، الذي لولاه ما كنا ولا أثبتنا للعالم- مع مرور كل ناقلة نفط- بأننا كائنات حية، وسيتم استمرار الاعتراف الدائم بنا حتى نضوبه، لنعود بعده لسيرة معاركنا الأولى بالقوس والنشاب، والربابة والمزمار- إن افُتي لنا بجواز سماعه بالطبع..   على الرغم من ندرة التساؤلات الحماسية الا أنها مازالت تُطرح: ما مدى قبول المواطن العربي بمثل هذا الكيان؟ أين رفضه وتنديده؟! اناشيده الحماسية؟! ماذا بالنسبة عن المقاطعة الفعالة؟ المظاهرات الحاشدة؟! لينظر إليها الغالبية باستغراب، فلم يعد قلب العربي قادر على تحمل مجهود مثل هذا الطرح، أو يملك الرغبة في اجاباته.  

 كانت أكبر الأخطاء التي وقعت فيها امريكا ومدللتها إسرائيل، مواجهة العرب كقوة وعدو واحد. ورغم الهزائم التي لحقت العرب إلا أن تكلفة الحرب كانت باهضة حين فاقمت من كراهية العالم الحر للكيان الصهيوني، وألهمت العرب- في لحظة فارقة- بمنع تصدير الكنز الشهي المدفون في أرضها، وهو الأمر غير المقبول بتاتاً!!..  

 لذلك تم اعتماد الخطة (ب)، والتي لا تستدعي فتح الجبهات أو إطلاق النيران. لن تكون حدود العرب مع إسرائيل آمنة، حتى وإن عمّقت من حفر الأخاديد حولها. إلّا في حالة مضاعفة وتجزئة الحدود العربية-العربية، لدرجة اقامتها ما بين مواطن وآخر، بعد تمزيق جميع ما كان يربط بينهما. 

  لا ينبغي الظهور العلني لإبعاد أصابع الاتهام. لذلك كان من الأفضل استخدام عدو تقليدي قديم. وتبرعت إيران للقيام بذلك الدور لتقاطع مصالحها ولدغدغة حلم السيطرة القديم. وبحكم معرفتها التاريخية بالمنطقة، كانت الاطول نفساً والأقل في نسبة الخسائر.    

فلسنا أمام حرب مباغتة قصيرة، بل أخرى شاملة، تبدأ بقطع الرؤوس ولا تنتهي بتسوية الاوطان بالتراب. كانت الفتنة الطائفية فعالة وتدميرية على مر الحروب التي استخدمت فيها. وكان لها ذلك وتحولت الأوطان إلى كينونات متناحرة، مارست الإرهاب بينها البين بأسوأ اشكاله. حتى أصبحت إسرائيل كلمة لطيفة وربما مطمح ديمقراطي للمقهورين.   

تحولت إسرائيل من عدو إلى دولة تتمنى أي دولة شرق أوسطية صداقتها. على الرغم من معرفة الجميع بأن الدماء التي سالت في المقام الأول كان لأجل تثبيت وجودها. إلا أن الانهاك والخوف أصاب الجميع، وصار خيار السلم في الحارة والشارع هدف وجودي بالنسبة للدول المنكوبة، وأولوية لتلك التي تخشى سقوطها.   

تقلصت قضية العرب الأولى، ولم يعد تحريرها سوى حوار ساخر، يدار بين خيار تحريرها عن تحرير صنعاء أو بغداد مثلا. لم يعد المواطن اليمني يهتم لما يحدث في رام الله قدر اهتمامه بحجور. يتابع الفلسطيني أخبار غرقى سوريا على شواطئ العالم وهو يشكر الله على سلامة أبنائه. يزمّ الليبي شفتيه حين يحدثه سوداني عن مظاهرات تزمع إسقاط النظام.  

 ما الجديد إذن؟! ربما كانت صياغة السؤال خاطئة، وتصحيحه هو: ما القديم الثابت على الساحة؟!   

من المضحك ان تكون وجوه مسؤولينا وملامحهم هي الثابت الوحيد، رغم معرفة الجميع بزيفها، وانكشاف مقابلاتهم السرية التي لم تعد مزعجة لنا. إلا أنهم مصممون على إثارة اشمئزازنا وهم يرسمون ملامح الامتعاض على ملامحهم لحظة مشاركتهم طاولة الاجتماعات مع مسؤول إسرائيلي "مندهش لتصرفاتهم العلنية"!!  

 مازال القرن في بدايته، وساحة اللعب مفتوحة بخياراتها. هل مازال العربي قادر على انتزاع نفسه من واقعة المزري، أم سيبقى حجر نرد بأوجه صماء لا قدرة لها على التنبوء؟!   

الخميس، 14 فبراير 2019

تراث مغبون ..

افترش سطح داره مهموماً وراح يراقب النجوم بعد فشله في إيجاد ما يسد رمق نسائه وأبنائه، لا أعلم لمَ كان على أبطال قصص التراث استراق السمع على الأحاديث الدائرة عنهم، على الرغم من أن ما يُسمع في الغالب ليس لطيفاً، فما وصل مسامع "علي ولد زايد " شاعر اليمن وحكيمها تلك الليلة لم يكن بعيداً عن ذلك، وهو يدافع باستماتة عن نفسه باستنكار: "أمسيت من فقر ليلة سارق وزاني وحلاف!".  ‏

انتهت القصة بتطليق الرجل لزوجاته، والتي قد يبدو أن فيها عقاب مبالغ اقتضته الحبكة الدرامية المتداولة عبر السنين، فلم يكن تعدد الزواج في زمن ولد زايد رفاهية أو مزاج اختص به دون غيره، بل ضرورة فرضها المجتمع العامل. 

 ‏لم يكن من السهل على الفلاح افتتاح موسم زراعي منفرداً، لذلك كانت الزوجات - أيدي عاملة - لا تكلف سوى القوت والحماية مقابل مساعدته في "بتل" الأرض "وذريها"، ومن ثم القيام بعملية "الفقح"، "والحجن"، حتى يطل شهر آب "ليحوط" زرعه في انتظار ظهور الثمرة، ليتم بعدها قطع "المحاجن" حتى موسم "الصراب"، ولا يستطيع اعتبار نفسه قد أنهى موسمه فعلياً حتى يفصل الحب بما يسمى "بالدويم".  ‏

لا يمنح التراث شيئاً، لا جدوى منه في الغالب من الناحية العملية، لم يوقف حرباً أو يحمي ضحية، وعلى حد علمي لم يتوقف ديكتاتوري عن مزاولة إجرامه حياءً أمام بيت شعري أو حتى قصيدة، إلا أنه وبينما يمنحنا هويتنا كبشر يعطينا فرصة للهروب عبر بوابته لعالم أجمل، فسحة ما بين الوقت والآخر، دون أن يدرك بأن الحاضر أحياناً قد ينسخه للاقتصاص منه.

 ‏على الرغم من قوله : 

 ‏ما يجبر الفقر جابر غير القلم و الدفاتر ‏إلا أن "علي ولد زايد "..

 لم يحظَ بميزة كتابته، وبقي شخصية أسطورية لم تُمنح حق وجودها الحقيقي بين صفحات التاريخ، فقد كان التدوين رفاهية لم يمتلكها الغالبية، كما أن انتفاء وجود شعب قاريء- في ذلك الوقت-، أحيا النقل الشفهي المفيد في حياة الفلاح والذي لن يفيده حال بقاء حكم الرجل وتعليماته على أرفف المكتبات الأنيقة.  ‏


لعل البردوني أخطأ حين وصف الشاعر ولد زايد: "بأنه كل الشعب اليمني، وليست الحكايات التي تنطلق منه سوى بعض يومياته"، فجمع كافة فئات المجتمع في صورة "علي ولد زايد" مجافً للحقيقة، لوجود السلالة الهاشمية المرفهة والتي دَوَّنَت على الدوام "عطساتها" بكل أريحية..

 ‏لم تلطخ تلك الفئة يدها بحبر أو طين؟!، لم تشكُ يوماً من جور جوع بطون نسائها بقدر ما دافعت عن مغامرات العشق التي أتاحتها لها الحياة في القصور والحصون، لتجد نفسها عاشقه تقسم بأيمان مغلظة براءتها من تهمة الغرام الملقاة عليها: ‏حلفت ما احبك فكذبوني وقبل ذا كانوا يصدقوني..  ‏

وجروا المصحف وحلَّفوني  وقصدهم بالنار يحرقوني.. ‏لم يكن ما حمل إلينا من ميراث علي ولد زايد بعيداً عن جغرافية هذه الأرض، لذلك ستجد حروفه قاسية تلهث من التعب وهو يغرس معوله في طينتها الخصبة، وبرغم ولعه الشديد بها إلا أنه هددها وبكل صرامة بالرحيل إن هي ضنت عليه: ‏عز القبيلية بلاده ‏ولو تجرع وباها.. ‏يفر منها بلا ريش ‏ولا اكتسى ريش جاها.. 

 ‏وبالرغم من قصر الأبيات، وصرامتها إلا أنها تشعرك بارتعاشة واجفة للأرض، مقارنة بغنجها وهي تتمايل على وقع أبيات من قبيل: ‏ياكحيل الرنا ماذا الورش من نقش بالذهب خدّك ورشّ.. ‏من جلى بالحلا حسنك ومن علّمك ذا المجانه والشوش.. ‏من رقم خدك الوردي رُقم  لازوردي ومن ذا له نقش.. 

 ‏لن تخرج بعد تجوال قصير بين أبيات "علي ولد زايد إلا وقد اصابك الإرهاق، لن تتركك هواجس الجوع والفقر والمرض دون أن تلاحق جبينك بصفعاتها الموجعة، ستتوه بحملك اليابس من الزاد وانت تبحث ليلاً عن سهيل وبقية نجومه، هل سيتمكن نداء الدم فيك من فك طلاسم مواسم "المزارع علي ولد زايد" الزراعية التي كانت ومازالت المقياس الدقيق للفلاح اليمني: ‏

ما ينفعك ليلة ولا شي نصف السنة تسعة أشهر والنصف الاخر ثلاثة..  
التسع والسبع والخمس تبان فيها العيافه.. 

لا سمن فيها ولا بر  الله يجمل ويستر..

 ‏إلا أنك قد تكتشف وأنت تقلب صفحات شعر الطيرمانات نوعاً مختلفاً من المعاناة، والتي ربما سيكون التغني بها أكثر متعة من جلافة ولد زايد:  ‏
هو يرحمه قلبي لصُغر سنّه
 ما هو شفق في مبسمه وعينه.. 
 ‏وانتم تقولوا اعشقه لحسنه 
وأنّ قدّه غرَّني بغصنهْ..  
حُسنه‏ لنفسه وايش عليَّ منهْ
 ‏كيف اعشقه والهجر صار منهْ.. 

 ‏لم يتخصص " الفيلسوف علي ولد زايد" في الزراعة والفلك ووَصْف أرض اليمن التي بدا أنه تنقل بين جنباتها وحسب، بل امتدت المواضيع التي تطرق إليها لتشمل كافة مناحي الحياة الإجتماعية اليمنية في ذلك الوقت، أفراح الناس وأحزانهم، قيمة الصداقة وأحقية الجيرة، روح الجماعة وأهمية تكافلها، حتى الحرب حذر منها بحزم وهو يشبهها بما لم يسبقه إليها أحد:
 ‏حربي وحرب إبن عمي
 مثل الوجع بالصوابر..
 ‏أو مثل مقرانة السبع  
ما بين بجما وعاصر..

 ‏قد تشعرك نوعية الحياة التي خاضها المعلم ولد زايد بنوع من خيبة الأمل، فلا وقت مستقطع لديه للراحة، ولا فسحة بين مواسمه إلا لشقاء جديد انتهجه، لن تجد منه ما يشفي الغليل كالذي تتذوقه وانت تقرأ قصيدة يكتبها "سيد مسترخي" يأكل من خيرات تصل إليه في طير دون أن يمس تراب الأرض- التي لا تنسى بأي حال من الأحوال تذكير وجوب اتباعك للملة والمذهب المناسبين، كالقصيدة التي نسجها محمد بن عبدالله بن الامام شرف الدين:
 ‏المعنِّي يقول يامن سكن في فؤادي واحتجب في صدوده..
 ‏كم يكونُ الجفا يافاتني والبعادِ لا جزى من يعوده.. 
 ‏إنَّ جسمي نحلْ من جور هذا التمادي يا مطول صدوده .. 
 ‏ان شرط الوفا، في الحب ترك البعادِ للمُعنَّى وسيده.. 
 ‏فالتزم مذهبي واسمح برشفه لصادي من حُميَّا بروده ..

 ‏لعل الجزء الكبير من تراث اليمني قد تم الاستيلاء عليه قبل أن تغادر حروفه حلق صاحبها حين تمت تجزئة المجتمع عبر السلالة لطبقات اجتماعية غرضها امتصاص دماء غيرها، ولم يترك لتلك المغبونة إلا اجترار مظالمها: 
 يا غبنه ثلاثه غبون الغبن
 الاول: من جارت عليه الديون 
الغبن الثاني: من قلت رجاله يهون
 الغبن الثالث: من فارق كحيل العيون..  ‏

لقد تم سلب اليمني حين فرضت عليه حياة قاسية، وكتبت عليه عبر مئات السنين تأجيل الفرحة وإرجاء موعدها حتى موسم الحصاد، تسمح له فيه بقدر محسوب من السعادة، محصور في مجرد استراق نظرة أو لجمع شمل حبيب بحبيبه- إن رافقه الحظ في موسم زراعته- كما قالها الشاعر الكبير مطهر الإرياني في ملحمته بكل صراحة ووضوح:  ‏
ميعادنا وا حبيبي كان لا خير قادم 
 كم قلت ليت الزمن يا خل كله مواسم
 واليوم عيد الجنى بانت له اول 
علايم بشاير اول ثمر في لون ياقوت قاني.. 
 ‏كنت ارسم احلى الصور لموعد اسمى وطر
 يوم القران الأغر  يوم انتصار الأماني.. *

 المقال خاص بالمصدر أونلاين  

الأربعاء، 13 فبراير 2019

نساء في زمن الحرب

 نور ناجي١٤ يوليو ٢٠١٧ "

شاقةٌ هي المهمة.. عندما يولد الإنسان امرأة!" عبارة للشاعرة الأمريكية مايا أنجلو، بمجرد ان قرات العبارة حتى شعرت بثقلها ومشقتها، تمنيت أن أضيف إليها "والأكثر مشقة، أن تعيش امرأة وفي زمن الحرب"..

   الحرب دَين بلا دائن أو مَدِين..  ثمن يتم تحصيله على يد تجارها، لا احد ينجو من الدفع رجل كنت أو امرأة..

 لست من الدعاة للبحث عن حقوق المرأة، مؤمنة تماماً بأن لا وجود لما يسمى حقوق للمرأة في بلد لم يحصل الرجل فيها على أبسط حقوقه. فحين يسلب الجميع حقوقهم تكون المطالبة لحق فئة دون أخرى نوع من العبث..

لكن المرأة تدفع الثمن مضاعفاً، كونها امرأة قدر لها أن تعايش الحرب.. تدفع الثمن حين تودع زوجها أو ابنها للحرب مدعية القوة وهي تعلم بأنهما قد لا يعودا..

لا أحد يعود من الحروب وإن عاد جسده سليماً معافى، تعود الروح مريضة متشظية بحاجة لسنوات طويلة للتعافي، فتأخذ نصيبها من مشقة فقدانه أو مشقة علاجه!

وحين تقف في طريق ذهابه لساحة المعارك، تدخل في معركة قاسية مع نفسها، تخسر فيها حتى وإن انتصرت وهي ترى وطنها يجر للضياع، ما فائدة بقاء الرجل بجوارها وهما بلا وطن؟، وللحروب ضحايا من نوع اخر مختطف، أو مخفي قسرا،ً ومغيب في سجون بلا عنوان، لم أستطع حتى اليوم أن أتخيل كمية معاناة والدة أو زوجة أحدهم أمام السجان، لتطالب بحق رؤيتة سجينها، أو مشاعرها حين تتناقل الاخبار سوء المعاملة التي يلاقونها.

 دفعت المرأة ثمن خروجها ومواجهتها لمجتمع كانت هي حلقته الأضعف لتشارك الرجل ثمن رغيف الخبز قبل الحرب، وتضاعف ذلك الثمن وهي تعود بعد الحرب خالية الوفاض لتشاركه الإحساس بالعجز المرير..

 يتضاعف مجهودها البدني، بعد انقطاع تام للخدمات التي كانت من المسلمات، فتقف نصف نهارها أمام طوابير انابيب الغاز لتتجنب الطهي على مواقد الطين، والنصف المتبقي في معارك طوابير خزانات مياه المساجد كي لا تسطو إحداهن على دورها في التعبئة..

 لم تعد صواريخ الحرب مبعث رعبها وهمها الوحيد، عرفت الكثير من اللواتي يلتمسن نيران صواريخها لتكون نهاية مسلسل شقائهن المستمر، الرعب الحقيقي هو بقائها كمعيل وحيد للأسرة، تتمزق بين جوع أطفالها أو ارسال الذكور للعمل في الشارع كباعة للمناديل أو لمسح نوافذ السيارات، وتتخلص من الإناث سريعاً بزواج يزيح القليل عن كاهلها، وهي تتمزق بين مجهول قد يصيبهم في شارع لا يعرف الرحمة، او معاملة سيئة تتحمل هي إثمها.

 تنزح مع اقتراب نيران الحرب، على كتفيها اطفالها، والأمراض القاتلة تلاحقها بشتات لا يحمل بصيص ضوء لنهايته. لتصبح تحت قماش خيمتها الطبيب والممرض والدواء في غياب شبه كامل للخدمات الطبية والصحية، للوهم أحياناً نتائج فعالة فتلجأ الكثيرات للرقّية كعلاج نفسي لا أكثر.

 تقف بعناد أمام المجتمع الذي زادت امراضه الاجتماعية وفقد المثالية التي كنا نحافظ على بعض قيمها قبل الحرب، مجتمع قد يغفر للرجل كل شيء، ولا يغفر للمرأة كونها امرأة، فريسة سهلة الاصطياد في عينه!!..

وفوق كل ذلك لا تضع رأسها على الوسادة حتى توزع ابتسامات التفاؤل والأمل على صغارها، وقد فرغ رصيدها منه منذ زمن.

 لا أشقى من أن يولد الإنسان امرأة، وفي زمن الحرب..   

السبت، 9 فبراير 2019

ذكرى ثورة فبراير مجددا  
السبت, 09 فبراير, 2019 - 10:09 مساءً 
نور ناجي 

  أتذكر ذلك النهار وكأنه حدث البارحة؛ وقفت "نعمة" أمامي بقامتها القصيرة المنحنية وجسدها الهزيل قبل أن تمرر يدها على ظهر كفي: "وما فعل لنا عفاش يا بنتي؟! امسكي يدي وشوفي فضله عليّ" !!. لم أتخيل أن ألمس كف بمثل تلك الخشونة، وتحوي ذلك القدر الهائل من الشقوق..!!   

كانت تلك "نعمة" العاملة في المدرسة الحكومية منذ عشرون عاما، والتي علّقت حلم توظيفها على صدرها عام بعد آخر، حتى اكتشفت أن سنوات عمرها تجاوزت الحد المسموح للحصول على "وظيفة عامل"، فاضطرت لاختلاس بعض وقت من "دوامها الرسمي"، الذي لم تتلقى عليه سوى الوعود، لتتأكد من سلامة أوراقها في الخدمة المدنية، بعد أن استبدلت حروف "نعمة " غير المحظوظ، باسم ابنتها.   

وتمر الأيام، ليصحو حلم "نعمة" مرة أخرى، وقد ضمت لملف أوراقها حلما، اعتقدت أنه على وشك التحقق حالما تتم ولادة ثورة حالمة، بشّرَ بها فبراير. لا أعلم أين "نعمة" اليوم؟ ولماذا انبعثت ذكراها، بعد سنوات ضاعفت من أعمارنا، وضيقت مساحات ذاكرتنا؟!..  

 إنه فبراير، لا شيء يعيد لي "نعمة" سواه. بعد أن خاطهما خيالي وجمعهما برباط شديد الوثاق. فبراير شهر الصراع السنوي المتكرر؛ الشبح ذو الشجون، ونزاع اطرافه المدافعين عنه والكارهين؛ من يُلقي عليه تبعات الفشل، ومن يُمجد لنجاح لم ينله غير بضعة أفراد؛ ولم يُترك للزمن أخذ دورته الطبيعية، ليلقي عليه حكمه دون مجاملة أو محاباة، فهو الوحيد من له حق انصافه أو ادانته.. 

  لم تتوقف سخرية البعض من ثورة فبراير، التي لن يختلف اثنان على نسخ أهدافها؛ مظاهراتها؛ أو حتى بعض هتافاتها عن ثورات سبقتها بأيام، متجاهلين الحالة السياسية الراكدة والمحبطة لليمني الذي وجد في تجارب غيره ثغرة؛ فسحة من ضوء قد تفيد في حلحلة وضعه البائس، دون ان يتنبه الساخرون إلى أن التجارب الإنسانية، وعلى الدوام، كانت مجال للتدوير والتصدير منذ بدء تدوين التاريخ البشري؛ "قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَ?ذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ"..  

 كانت ساحات فبراير واسعة. واسعة جدا لتحمل بين جنباتها "المزيف" الذي كان ينتظر فرصة لابتلاع مساحة أكبر مما تصوره الشهر الغرّ؛ واستقبلت "الانتهازي" الذي شمر عن ذراعيه وشحذ حنجرته بخطب رنانة ألهبت حماس الثوار ومطامعه التي تُمنيه بمقعد حكومي ذو سلطة..!!   

كما كانت ثورة فبراير مركب النجاة لمن شعر بأن سفينة الرئيس السابق على وشك الغرق. لن يجد ذلك "الانتهازي" أفضل من ارتداء شخصية ثائر لصعود مركبا جديدا يعطيه مكانا بارزا، خاصة مع حاجة الثوار- الساذجة- لسياسي شرب حتى ارتوى في دهاليز الدولة القديمة ومكائدها..  

 ماذا عن الغالبية العظمى التي احتوتها الساحة؟!  

 كان إطلاق صفة "الثورة الشبابية" جائرا على فبراير. فقد كانت ساحاتها تمتلئ عن بكرة أبيها بكافة الأعمار والأحلام. ستجد فيها الفتى المراهق، وتقابل الكهل وهو يصدح بأمنيات لن يتذوق ثمارها، في الغالب، وقد اكتفى بالإيمان بنصيبه الذي سيناله ابناؤه وأحفاده.   

فتحت الساحة أبوابها للجميع، بغض النظر عمن غادرها بعد ذلك؛ سواء امتلاء بمكاسبه الشخصية، أم الآخر المنهك الذي تمنى لو أنها تأخرت حتى يحمل غيره ثقلها على كاهله؛ أم ذلك المكسور الذي جبر خاطره بقوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ"..  

 لكن ماذا بشأن من تمسك بالبقاء خارجها؟!..   

ربما كانت معضلة فبراير أنها لم تتخطى الساحات بالقدر الكافي. مرت على أحلام "نعمة" سريعاً، مربتة على يديها المشققة قبل أن تعود لملجئها بين جدران الساحات، وقد فتر حماسها عن شحذ همة "السلبي" الذي يراقبها من نافذة القنوات الإعلامية طيلة يومه، وهو يرى أن الدعاء والابتهال أقصى ما يستطيع تقديمه للثورة من تضحيات..   

لم تستطع الساحات استدعاء الفئة الرافضة لها بعد تعبئتها المشحونة، واشاحت بوجهها عن الفئة غير المبالية التي مارست حياتها في انتظار التغيير السهل الذي لن يكلفها شيء. ولعلها محقة في ذلك، فأي عاقل لن يدفع ثمن شيء لم يطالب به من الأساس، لتمسي فبراير- مع مرور الوقت- شماعة تُعلق عليها كافة الشرور والآثام، دون أن تخفي الثورة عجبها لمن تقّبَل فساد دولته ثلاثون عاما أو صمت عنها، ويطالبها في ذات الوقت، وهو يلقي عليها تهم التخوين والعمالة، بمفاتيح الجنة..  

 أخطأت فبراير حين لم تسلط الضوء على سبتمبر، بالقدر الكافي. فابتعاد المسافة الزمنية بينهما، جعلها نوعاً ما في غفلة عنه، وسلب منها معرفة الدروس الأولى التي كان ينبغي أن تعطيها لنفسها. لا يعفيها ذلك، كما لا يعفي من كانوا أكثر دراية بالتاريخ والشأن اليمني، والذين لم يجاهدوا لإيصال أصواتهم إلى الساحة.

   إلا أن ثورة فبراير، "بسمعها الثقيل"، لم  تدّعي أنها البديل المناسب أو الجمهورية الجديدة. ولم يكن حلمها بدولة مدنية كفرا بسبتمبر، يستوجب كل ما نالته من عقاب. بقدر ما كانت محاولة منها لتجديد الحركة الراكدة في المياه التي أمست آسنة بأمراض متوارثة عبر عشرات السنين..  

 هل يحق لنا محاسبة فبراير، ومحاكمتها، لعجزها عن تحقيق أهدافها، على الرغم من أنها فعل بشري غير منزه عن الخطأ، خاصة وقد صدها ما لم تقوى على حماية نفسها منه: مطامع الأحزاب وحسابات منفعتها؛ الدولة العميقة بتشبثها برجالها؛ مخاوف دول الجوار واتهامها لفبراير بتبعية خارجية لا تنوي خيرا بالمنطقة؛ بالإضافة إلى مخابرات العالم التي سعت لتغيير ديمقراطي مناسب لضرورات خنوع ما قد تنتج عنه الثورة في صناديق اقتراعها...؟!   

نخطئ، حين نُغفل رغبة الانتقام التي استولت على بعض ثوار فبراير، وجعلتهم يبحثون عن مكان لصب ميراث غضبهم وأحقادهم، والذي لم يجدوا له أفضل من رجال الدولة القديمة، بلا استثناء، غافلين عن الكراهية المجتمعية التي ستنتج تجاه مناقضتهم للمبادئ التي لقنتهم إياها ثورتهم ونادت بها..!!  

 لا أحد ينكر أن خطيئة فبراير الكارثية تمثلت بركوب الحوثي عليها، والسماح له باحتلال جزء من الساحات وبصوت صادح، وكأنها منحته مغفرة "لم يستحقها" عن ستة حروب وقف فيها ضد الدول اليمنية. ومثل الحوثي، تخَفّى الكثير من أعداء فبراير بين ظهرانيها، حتى غدت حصان طروادة عاجز، يقاد إلى طريق لم يتوقع في أسواء كوابيسه أن يسير عليه يوماً..!!  

 هل كان مجيء الحوثي نتيجة فبراير، أم كانت الساتر الذي سرع وعجل من ظهوره- الذي لم يكن خفيا على أي حال؟! 

  قد تكون تلك هي المعضلة التي يقف أمامها ثائر فبراير السابق عاجزاً حائراً، وقد وقع بين أمرين أحلاهما مر: هل سيكون الدفاع العنيد عن ثورته، وتجاهل سلسلة الأخطاء التي جُرّت إليها، هو ما سيزيح عنه تهمها المؤرقة؟! أم أن التبرؤ منها، وصب لعناته عليها وعلى خطايا صُنّاع القرار ومالكي زمام الدولة في عهد النظام السابق وما تلاه، هو ما سيريح ضميره؟! 

  ثم؛ أليس تسريع اسقاط الأقنعة، الذي أدى- بالتالي- إلى تعجيل الحرب، افضل من استمرار ارتدائها، وترحيل دفع مستحقاتها لجيل قادم؟!.. 

  ربما علينا، في المقام الأول، طرح سؤال مهم لن يعفي فبراير من الاعتراف بذنوبها، ولن يغير من الواقع الحالي شيئاً، لكنه سيكون أهم ما وصل إليه اليمني بعد معاناة مريرة، سواء كان من أبناء فبراير أم من بقية فصول السنة: هل أنهى ثوار سبتمبر خطر الإمامة، فعليا، لحظة وقفهم إطلاق النار واسكات أصوات معاركهم؟    

ألم يتغاضوا عن توغل رجال الإمامة، مجددا، في مفاصل الدولة؟ الأمر الذي اتضح، في وقتنا الحالي، أنه كان استعدادا لعودة جديدة !!..  

 لعل تهمة نسخ فبراير نفسها، من ثورات موازية، ليس دقيقا، بقدر ما نسخت الأخيرة أهداف ثورة سبتمبر، التي سبقتها بخمسين عاما، وورثت نتائجها بكل اتقان..!! 

السبت، 2 فبراير 2019

"فِذّاحة" حجور  

السبت, 02 فبراير, 2019 - 08:53 مساءً

 نور ناجي 

 اضطر أمام إصرار الرنين أن يخرج الهاتف من اسمال الجسد الميت، ليجيب المتسائل على الطرف الآخر ببساطة: "ابنكم فذّحت به حجور"..!!   

تقف بنا الحروب بين الحين والآخر على مفترقات طرق. وقد تكون "حجور" المنعطف الذي سيغير مسار الحرب، ويقلب موازين قواها بشكل درامي غير متوقع. فالقوة والصلابة، التي تواجه بها حجور حصار الموت والأسلحة المنهوبة من الدولة، ينبىء باحتمالية كبيرة لثورة قادمة من المناطق التي اتهمت على الدوام أنها حاضنة لجماعة الحوثي والمفرخ الأول لمقاتليها. 

  ما الذي اكتسبناه فعلاً بعد أربع سنوات من الحرب؟!  

 - ثقة تامة بأن القضاء النهائي على فكرة السلالة الكهنوتية وانتهاء الحرب مرهون بنبذ الخلافات القديمة بين اليمنيين وتكاتفهم أمام عدوهم الأوحد.   

- ترك رهان الشرعية وخيار انتظارها، جانبا. فأمامها من الجهد والوقت الكثير لتثبت أنها في موضع نصرة شعب أصر رغم تذوق المرارة على مساندتها أملا في اخراجه من مستنقع الحرب القذر. 

  - النقطة الأهم مما سبق: إدراك الجميع أن تحليق طائرات التحالف لا يعني بالضرورة النجدة والإنقاذ، بقدر ما يكون نذير شؤم يهدد الجندي والمقاتل بنيران صديقة، تقع على رأسه نتيجة "خطأ" لن تعرف أسبابه حتى الانتهاء من تحقيق، لن يتم فتحه!! 

  لم تكن المعركة الدائرة في حجور جديدة عليها. فقد تعاقبت معاركها مع الإمامة مبكراً، ولم يثنها حبس رجالها ونهب بيوتهم وهدمها. استمر ذلك الصراع حتى عاد الوجه الجديد للإمامة في الحروب الستة التي قامت ضد الدولة اليمنية وجيشها، واستمرت بعدها حجور في مواجهة الميليشيا منفردة دون أن تنكسر بعد تسليم معسكرات الدولة عام ٢٠١٤م، ليبقى ذلك الصمود صفعة مؤلمة وهاجس يؤرق الميليشيا حتى اليوم.   

لماذا حجور، وقبيلتها ؟! ما السر الذي حملته ولم تحمله غيرها من المناطق المحاذية لمسقط قوة الميليشيا ومناطق نفوذه؟!  

  لا أعلم إن كانت جغرافيتها صعبة لدرجة استحالة سقوطها، أم أن شدة في أهلها جعلتهم الأقوى؟!   أضاف تاريخ المعاناة الطويل لقبيلة حجور ضد الإمامة، خبرة لا يستهان بها. فهي تعلم قبل غيرها الخدع التي قد يسوق لها الحوثي وما ستفضي اليه معاهدات سلامه الزائف. إلا أن تلك الخبرة ليست السبب الوحيد لتماسكها.   

قد يرجع تماسك قبيلة حجور لارتباطها "بشخصية القبيلة الاعتبارية"، مقارنة بالقبائل التي أصابها الكثير من التشظي.   برغم ما يحمل البعض على القبيلة من مآخذ، إلا أن الخضوع لقوانينها الصارمة والمستمدة من الأعراف والتقاليد، والثقة المطلقة بمحاكمها القبلية، كانت النظام الذي وجد فيه الفرد اليمني عدالة ملائمة له؛ تقبلها وتماهت شخصيته بها، وإن جارت عليه بعض الحين.   

صُبت قوانين القبيلة عبر مئات السنين للحفاظ على مقومات الشرف لديها، والتي ارتكزت حول "العرض والدم والمال". فلن تسمح القبيلة المتماسكة بتفرق أفرادها عبر اختلاف انتماءاتهم السياسية بتهديد ثوابت وجودها وكينونتها، والسماح لذلك الاختلاف لأن يكون ثغرة وعون لدخيل يسقطها رهينة تحت قدميه.   

أدى تمسك حجور بالقبيلة الى عدم انخراط عقدها، بعد وقوع الدولة بين براثن الانقلاب أمام عينيها. جمعت نفسها وأعادت نظام القبيلة الذي لم تكن لتسمح باندثاره لتجعله بديلاً عن كيان الدولة حتى عودتها. ووقفت منفردة في مواجهة الميليشيا دون أن تسمع لها نداء محموم، كالذي يجتاح وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي المطالب بتدخل طيران التحالف للمساعدة والانقاذ. 

  لن يركن "الحجوري"، في خضم معاركه، إلى جانب لا يأمن شر حساباته، للمساندة والدعم أو لتحمل نتائج اخطائه. ستجده هناك بعيداً عن كل هذه الأضواء، خلف مترسه، وعلى كتفه بندقيته التي علق عليها إيمانه وشرف قبيلته الذي لا ينفصل عن شرفه؛ بحواس متأهبة صامتة، ينتظر فرصة دحر عدوه وقنص "تفذّيحة" يومه منه. 

الجمعة، 1 فبراير 2019

ما بيعرفش يوقفها !! .. 

من منا لا يعرف الفنان ممدوح عبدالعليم رحمه الله، بطل مسلسل الضوء الشارد " رفيع بيك "، أو " علي البدري " في ليالي الحلمية الذي ساندته النسوة بمفارقة غريبة تخالف مبادئهن حين خان زوجته وجلب لها ضرة لا يستهان بها " زهرة بنت نازك السلحدار "، اخبرتكم سابقاً أن لا أحد سوى الله سبحانه وتعالى قادر على فهم النساء!!... 

لم ينل الفنان ممدوح عبد العليم حظه من السينما، ربما لأنه لم يرقى لمواصفات البطل المطلوبة في تلك الفترة، فلم يمتلك كوميديا عادل امام، أو قدرة ابتلاع غيره من الفنانين ببساطة الاداء كمحمود عبدالعزيز ، لكنه وبرغم المنافسة الشديدة ترك أفلام لن تمر من أمامها إلا لتتوقف متابعاً لها، كفيلم " بطل من ورق " التي جسد بها شخصية " رامي قشوع "، السيناريست القادم من القرية مع موهبته ليبحث عن حظه في القاهرة .. 

يشدك الفيلم من أولى مشاهده حين تكتشف وجود لص فريد من نوعه، لا تحمل مسروقاته المعايير المادية المتعارف عليها، تفوق على نفسه وهو يجسد سيناريو قشوع وجرائمه المكتوبة على السطور ، كان مبتكراً عظيماً في عالم الإجرام يجبرك على إحترامه ومتابعته لنهاية الفيلم.. 

يتأرجح الكاتب " رامي قشوع" بين متابعة أحداث روايته وبين محاولة إنقاذ الضحايا الذين كان دقيقا في وصف تساقطهم على الورق، وتماهى معه اللص في ذلك السرد ولم يحاول أن يضيف إليه جديد وقد شعر بأنه أمام سيناريو مثير مكتمل الأركان .. 

تتوالى الأحداث ويلتقي رامي قشوع بالقاتل المتفاجىء بعدم وجود نهاية مكتوبة للرواية ، فيعرض عليه وسط هرج القطار المزدحم إيجاد نهاية لروايته وللفيلم ترضي الجميع!! .. 

يطل علينا قشوع قبل إنتهاء الفيلم من باب ذلك القطار مستنجدا بالشرطة التي لا تخالف واقعها الحقيقي في الوصول المتأخر، وهو يلوح لها ويندب حظه وحظ تواجده مع قنبلة موقوتة : " ما بيعرفش يوقفها، ما بيعرفش يوقفها !!.. 

دعونا نتوقف عند ذلك المشهد، والتلويح الجزع لرامي قشوع، هل تتكرر أحداث الفيلم منذ البداية، أم أن الحظ وضعنا أمام نفس الأحداث ونفس اللصوص بنهاية ضائعة ؟!، لا يختلف سيناريو ذلك الفيلم عن حالنا في هذا الوقت، لأكون أكثر دقة وتحديداً، لا يختلف ذاك الفيلم عن ما أصاب اليمن وغيرها من الدول العربية على مدى السنوات الأخيرة الماضية.. 

تطابق في سيناريو تفتيت الأوطان يصل لحد الذهول للصوص ومجرمين لم يبالوا بتغطية وجوههم وهم يزرعون الاوطان بقنابل والغام مؤقتة بدأوا تفجيرها البارحة ولن يتوقفوا في الغد القريب، ونحن نراقب من بعيد كشرطي عاجز لا يملك القدرة أو المهارة لنجدة وطن يلوح له بصراخ ملتاع :" ما بيعرفش يوقفها، ما بيعرفش يوقفها !!".. 

نور ناجي

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...