الأحد، 28 أبريل 2019

تجارة خاصة..


نور ناجي


كان ذلك في صنعاء، ومنذ ثلاث سنوات تقريباً، حين جلَست أمام الجميع متباهية بأن رأس مال مؤسستها تجاوز المليون دولار. هززت رأسي للهراء الذي تقوله وتجاهلتها، كيف لمنظمة جل فعالياتها إلقاء الدورات التثقيفية في فوائد الرضاعة الطبيعية- مثلا- أن تملك هذا المبلغ، خاصة أنها مجرد موظفة بلا راتب ولم ترث عم اغترب جل سنوات عمره في البرازيل، حتى اكتشفت سذاجتي وأنا أقرأ كشوفات المنظمات المتعاونة مع الأمم المتحدة والمبالغ التي تحصلت عليها!!..    

‏يقول إبن خلدون: "أن الإنسان اذا طال به التهميش، يصبح كالبهيمة؛ لا يهمّه سوى الأكل والشرب والغريزة"، كثيرون اعتبروا أن استمرار الحرب في اليمن بالتجويع المتعمد لشعبه، ليس سوى عملية منظمة تستهدف كسر إرادته، وفرض ما يريده الآخرون عليه، وليس من وسائل إخضاع أشد من الحرب والجوع إذا اجتمعا..

‏قد يكون في ذلك الرأي الكثير من الحقيقة التي تملك أوجه عديدة..
‏حين تشتعل حرب في منطقة ما تزدهر معها تجارة من نوع خاص. كان السلاح والمخدرات الصورة النمطية القديمة لنوعية بضائع الحروب، حتى تغيرت الصورة وانضمت سلع جديدة إليها باقنعة براقة تجلب أرباح تتخطى حدود الخيال وبلا مخاطر..

‏تجارة تحمل واجهة ومبادىء إنسانية زاهية المنظر، تترأسها الأمم المتحدة ومنظماتها التي تسعى لإنقاذ العالم من الشر، الذي قد يكون أحد أعضائها الدائمين المتسبب الفعلي له، وكان لانضمام دول التحالف دور في إنعاش تلك التجارة التي أغلقت على مصالح المشاركين فيها..

‏دول غنية تواجه العديد من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في اليمن، وجدت ربما أن دفع المال خيار ملائم لها على الرغم أن ذلك لن يعفيها من التهم إن صحت على المدى الطويل، وتجاهلت أن التحقيق في تلك الاتهامات والجرائم- وإن كان صوريا- خيار انساني أفضل من صرف مليارات لا يدقق في مسارها، لتصبح مشاع "للشاطر والفهلوي". على عكس دول أخرى ترى مشاريعها النور دون الحاجة لدعاية أو لهدر أموالها عبثاً، وقد أدركت ان المال السايب يعلم البعض النهب.. 

‏لم تمنع تلك الاتهامات الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة من استلام الأموال الممنوحة لليمن، رغم علامات الاستفهام التي تحوم حول مانحيها. وكأن اقتطاع نصيبها وحقها المتعارف عليه جب ما قبله، وأصبح هو النقطة المحورية للعملية الإنسانية المفترضة، قبل أن تقوم بتوزيعها على المنظمات العاملة على الأرض..

‏سمح الإنقلاب وقادته لتلك المنظمات بالعمل شريطة التزامها بالأنشطة التي تناسب حالة الحرب التي يخوضها والاشراف المباشر عليها. وقد وجد في ذلك المال مصدر دخل لا ينقطع وحق مباشر له يطفىء بعض من نار الثار الذي يحمله ضد دول التحالف والشعب الرافض لهم رغم خضوعه وصمته..

‏رفضت بعض المنظمات العمل وفق شروط الحوثي، فأغلق أبوابها دون أن يخشى نقمة الأمم المتحدة وعقابها. فهو مدرك أكثر من الجميع أن الابقاء على ذلك السوق أكثر أهمية للمشاركين فيه من عقابه. 

يعلم الانقلاب قبل غيره أنه كائن لا إطار له ولا شرعية تلزمه بتطبيق القوانين الدولية، أو تجبره على تنفيذ عقوباتها، فمن الصعب محاسبة الاشباح!.. لا بأس إذن من بعض التنازلات الأممية مقابل استمرار تدفق الأموال ..

‏لم تكن لعبة المنظمات الإنسانية خفية على اليمني، لكن الشعوب تتعامل بسلبية ولا مبالاة عندما لا يسير أفرادها وفق عمل منظم، لم يمنع ذلك احساسه بالخديعة التي أصابته، وهو يقراء كشوفات المنظمات "التنموية، البشرية، الاغاثية الطارئة"، والمبالغ المهولة التي حصلت عليها..

‏من الصعب مواجهة حقيقة أنك كنت لعبة طيلة سنوات الحرب، مطية أُستخدم فيها إسمك ليبتلع غيرك المليارات، مقابل بضعة أكياس من القمح وعلب الزيت الموشكة صلاحيتها على الانتهاء، وربما القليل من العدس الذي لم يحل أي من مشاكلك ولم يمنحك الأمان..

‏أين الفلوس؟!، سؤال تداوله الكثير من اليمنيين ولم يجدوا له إجابة، هل صمت المنظمات عنه دليل إدانة لها، ام أن اليمني في نظرها لا يستحق أن يعرف مصير تلك الأموال كما لم يستحقها منذ البداية..؟!

‏نور ناجي ..

السبت، 20 أبريل 2019

‏سرقة الأحزان..


نور ناجي

استقبل الكف التي أوشكت على أبتلاعه بعبارات جوفاء غريبة عنه. من الصعب أن تتلقى العزاء في إبنك، هذا الأمر مخالف لما توقعته طيلة حياتك. الصورة العكسية هي الأقرب للمنطق؛ لكن الحرب يمكنها أن تخلق سياقات غير متوقعة.. تغير الكثير من القناعات والثوابت ..

‏يتقبل القلب الصفعات مهما كانت قوية. من المؤكد أن ذلك الموظف البسيط توقع خبر استشهاد إبنه في الجبهة منذ التحاقه بها. لابد وأن مثل ذلك الخاطر كان هاجس لا يفارقه، لعله فتح باب العزاء في خياله قبل أن يأتيه الخبر بكثير؛ لكنه لم يعتقد في اسوأ كوابيسه أن يخشى إقامة ذلك العزاء..

‏يعيد الكذبة الجوفاء على نفسه كل لحظة، فعليه أن لا ينسى اي من تفاصيلها؛ ابنه لم يذهب للجبهة، ولم يلتحق بالجيش الوطني يوماً.. كل ما في الأمر أنه كان في طريق سفر معتاد، قبل أن يهاجمه مسلحون ويقضوا عليه بعد نهبه. وحتى تكون الكذبة مقنعة، ولا تقود لأضحية جديدة، يجب أن يكون القتلة من المرتزقة المنافقين أعداء الله والوطن..

‏للأسف، هذا ما يحدث لك حين يستشهد إبنك على إحدى جبهات تحرير اليمن، بينما تقطن في مركز تواجدهم وقوتهم..

‏من الصعب على من تابع احداث تلك الواقعة أن يتقبلها. بعض الكلمات أثقل من الحجارة. مجرد ترديدها يجعلك تشعر بأنك تبتلع اعشاب سامة، فكيف إذا حاولت للحظة أن تتصور نفسك هذا الأب..؟!

‏لا تبقى القلوب الثمينة لوقت طويل، والفراق نذر، يجب علينا دفعه؛ لكن تلك العائلة وللاسف حرمت من حق الحزن، وهي تتلفت حولها خشية انكشاف امرها. ليس ذلك وحسب، بل حرمت من الفخر الذي يؤنس قلب من فقد شهيد في الحرب: "لم يذهب دم أبني هباء.. لقد ضحى بنفسه وبكل رضى من أجل كرامة هذا الوطن وكرامة أهله"!!..

‏ما الذي تركه الانقلابيون لنا؟ اعتدنا على جرائمهم وظلمهم، اجبرونا على الصمت المر واختيار الخرس كتكلفة أقل؛ لكن أن يصل بهم الشر إلى حد سرقة احزاننا ومصادرتها؛ اقتطاع الجزء الذي ينبغي علينا أن نبكيه بخشوع لنتمكن من مواصلة ما تبقى لنا من أيام؟!..

أي قبح، وأي جبروت ؟!..

‏من المستحيل وضع نفسك مكان ذلك الوالد!! هل واجه صورة إبنه، الذي لم يتجرأ أن يطلق عليه لقب شهيد، أم أن ما يشغله هو الانتصار على نفسه واجبارها على مصافحة أكف أدت لاستشهاده؟! ترى ما العبارة التي رددها أمام مشرف الحارة الذي يحوم حول بقية شبابها للزج بهم إلى الجبهات المقابلة؟!..

‏في يوم ما ستتوقف الحرب، وقد يعتبر ذلك الوالد نهايتها ثمن مناسب لخسارته، على الرغم من غصة عدم حصوله على عدالة تخصه وتنصفه..
 

السبت، 13 أبريل 2019

‏هروب من الياس


نور ناجي

كنت قد توقفت عن التوقعات المتفائلة، التي تندرج تحت حقيقة أننا أمام حرب. واي حرب تصاب بالتعب وتستسلم في النهاية، وتحولت عنها إلى توقعات واقعية واسئلة منطقية، يخشى الغالبية من مجرد نطقها!!..

‏لم لا تكون السنوات الماضية مجرد بداية، وتمهيد أولي لساحة حرب حقيقية شاملة. لم نملك القوة لصد ما مضى فكيف نقف لما سيأتي ؟!، ألقيت بسؤالي عليها قبل أن تطرق رأسها للحظات وترفعه بنظرات غاضبة: "كُفّي عن الهراء، لقد اصبحتِ في قمة التشاؤم، هناك شيء ما يخطط، لا يمكن أن يكون ما يحدث عجز حقيقي، ستتحرك الجبهات قريباً، وسترين ذلك، أنهم في انتظار شيء ما لا أكثر"،..

‏زممت شفتي وأنا اهز كتفاي بلا مبالاة، لينتقل حديث صديقتي من حرب اليمن إلى أخبار الابراج وحظك اليوم. كانت الفلكية "ماجي فرح" هي المفضلة إليها، لذلك لم انبس ببنت شفة حين اشتغل الفيديو ..

‏لا أتذكر أين قرات مقولة: "هناك طريقتين لكي تُخدع، الأولى إيمانك بما هو وهم؛ والثانية انكارك للحقيقة!". وهذا ما تفعله القابعة جواري، كانت تعلم يقيناً أن بعض التوقعات لا تحتاج لمتنبيء حاذق بقدر ما هي نتيجة طبيعية لمجموعة من الحقائق والمسلمات التي ستقود لنتيجة محددة على أرض الواقع، إلا إذا صادفها ما يغير مسارها، لكننا أحيانا لا نقبل بالنتائج القاسية فنقوم بالبحث عن حلول وهمية بإحدى الطريقتين السابقتين ..

‏اتذكر حادثة لم يمر عليها وقت طويل، جارتي الحوثية تقف على درج العمارة، تشكو الغش الذي وصل إلى حد لا يطاق في المعاملات بين البشر، لم تعد تثق حتى في السحرة المعتمدين في مدينة صنعاء، بعد أن أصبحت حروزهم مجرد أوراق لا يعول على مصداقيتها. فهاهو  زوجها يعقد قرانه للمرة الثالثة على الرغم من تنفيذها لكافة تعليمات الساحر، وارتشاف زوجها للجرعات المنصوص عليها بكل دقة.

‏كان بإمكاني اخبارها بأن المال هو "المقذي" الذي عكس به زوجها أعمالها السحرية. "الزلط" التي أصبحت متوفرة لديه بعد أن نهب هو وجماعته أموال الشعب، لكني أمسكت لساني. لا بأس أن ابتلع أفراد عصابات الحوثي المزيد من السوائل المغموسة بدم الضفادع، وأظافر التماسيح..

‏لم أكن الوم الهروب اليائس للبعض وبحثهم عن حلول سحرية، بعض التوقعات تكون متشائمة لدرجة لا ترضي طبيعة البشر، وإن كانت قريبة من الحقيقة. على سبيل المثال لم أكن راضية عن  توقعات ماجي فرح لبرج القوس التي التقطتها في تلك اللحظة، ألم يكن مواليده موعودين بحظ وافر هذا العام، لتعامد المشتري على مسار الجدي أو زحل، لم اعد أتذكر ؟! ..

‏تركت توقعات ماجي فرح وعدت لما يحيط بي، من السهولة معرفة ما يحس به اليمني في الوقت الراهن، خاصة ذلك الواقع تحت سيطرة الميليشيا. فقد مر عبر سلسلة لا بأس بها من المشاعر ارتبطت بعضها ببعض. تجاوز اليمني منذ فترة معقولة مشاعر الخذلان، بعد أن رافقه الاستنكار والغضب شهور طويلة. كانت حالة الترقب والانتظار قبل ذلك هي المسيطرة عليه بعد أفول مرحلة التفاؤل الأولى للحرب، ليدخل الآن، وبعد أربع سنوات عجاف، في مرحلة اللامبالاة والتبلد اليائس..!

‏ربما سيكون التبلد مفيداً لنا خلال المرحلة المقبلة، فالجميع يعلم، وإن ادعى العكس، أننا حتى الآن لم ندخل المعركة الحقيقية، وما مر لم يكن سوى اظهار للعضلات لا غير. اتمنى ان لا يصاب أحدكم بالدهشة، أو يلقي عليّ الاتهامات جزافاً. انطفاء الحروب بحاجة لأسباب كما كان لاشتعالها. ولك أن تقف أمام أي مرآة تجدها لتلقي سؤال بسيط على الوجه الذي سيطل عليك عبرها: ما الذي تغير فيك منذ بداية الحرب؟!..

‏لا أقصد بذلك اللون الابيض الذي صبغ شعرك، أو الخطوط التي لم تكن سابقاً مغروسة على وجهك، لا اشير ايضا إلى تغيير حجمك، اما بالهزال الذي أصاب البعض من تخفيف وجبات غذائه أو السمنة المفرطة جراء الجلوس الطويل في المنزل، بل أعني بالتغيير الذي وقع على مشاعر انتمائك الحقيقية؟!..

‏ما الذي تغير فيك فعلا؟! هل مازلت تتبع ذلك الحزب وتمجده وترفع السلاح من اجله، مهما أضر ذلك باليمن؟!، هل توقفت عن صب لعناتك على يمني آخر، برغم ملاحم امتزاج دمائنا على ذات الأرض وعبر عدو مشترك؟!، 

مازلت تحارب طواحين الهواء الوهمية دون أن تتزحزح مواقفك قيد أنملة، عملا بمبدأ أنك لا تغير مبادئك مهما تغيرت الظروف، أو توضحت لك ما خفي من صور؟!

‏لا أحب إلقاء المواعظ الدينية إلا أني مضطرة لذكر الآية: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَ?كِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"..

‏هذه هي الحقيقة البسيطة التي يرددها كل يمني، ولكنها للاسف لا تطبق عملياً برغم ادراك الجميع أن اختلافنا هو ما أدّى إلى وقوع الظلم علينا، واستمرار ذلك الاختلاف يبقينا في نقطة ما قبل الصفر..

‏لم يعترض أي من البريطانيين على رد تشرشل للمعترضين على معاهداته ?? ??????: "سأ????? ?? ??????? ?? ??? ?????? ?? ????"، من حسن حظنا أننا لسنا مضطرين للتحالف مع الشيطان، أو عقد صلح مع روح  ستالين، فقط تناسي الخلافات القديمة والالتفات للعدو الوحيد الذي يهدد وجودنا سيكون كاف..

‏قبل ذلك لن تتوقف الحرب، فاستمر في حربك ضد طواحين الهواء، ابقي اشباحك القديمة ما شئت، لن تجد لنفسك حلولا مرضية سوى في قعر فنجان أو من خلال متابعة توقعات الأبراج وحظوظها، وقد تكون زيارة للساحر الذي لا تتوقف جارتي عن استشارته، عرض مناسب للباحثين عن الوهم

الأحد، 7 أبريل 2019

رهان الزبيري..


نور ناجي

لأبطال سبتمبر وما سبقها من محاولات تغيير سحر خاص؛ شغف يجعل القارئ لا يكاد يترك صفحة مما نقل عنها حتى يبحث عن أخرى. أقصد هنا الحكايات والقصص الحقيقية، وليس تلك المزورة التي دست لتشوية أكثر لحظات تاريخنا اشراقاً.
 
في مكان ما، وعند البعض، تيقظ الرغبة في التغيير قنوط النفس.. وعند البعض الآخر، تنبت شيء من نبوة. قد تقابل ثائر مقطب الجبين يقاتل، مع تشاؤمه، ليال حالكة، يصرعها حين من الدهر؛ ويقف مستسلما لها حينا اخر. وفي الطرف المقابل، ستجد آخر، لا يخلو من تصميم وإرادة حالمة، يستمع لتنهيدات الطيور في السماء، رغم القضبان التي تقيده، لتسمعه يتغنى في وطنه:

الشاعرية في روائع سحرها
أنت الذي سويتَّها وصنعتَها
مالي بها جهدٌ، فأنت سكبتَها
بدمي، وأنت بمهجتي أودعتَها
أنت الذي بشذاكَ قد عطرتَها
ونشرتَها بين الورى وأذعتَها
وقَفَتْ لساني في هواك غناءَها
فإذا تغنت في سواكَ قطعتُها
 
حلّت قبل أيام الذكرى الثالثة والخمسين لاغتيال ابو الأحرار الشاعر المناضل "محمد محمود الزبيري"، بعد حكاية كفاح مثيرة، سعى فيها نحو ما رءاه البعض جنون في ذلك الوقت، واعتبره هو "بركة" يستحق أن يحيا ويموت من أجلها..
 
وُلدّ الزبيري بحي البساتين في صنعاء، عام 1911. نشاء في المدينة يتيمًا وتعّلَم القرآن وحفظه صغيراً؛ تنقل في تلقي العلم بين المدرسة العلمية والجامع الكبير، ومكة المكرمة بعد أداء مناسك الحج فيها، قبل أن ينتقل الى مصر عام 1939.
 
بقي الزبيري بضع سنوات في القاهرة، مؤسسا مع رفاقه "كتيبة الشباب اليمني"، الحركة المعارضة الأولى لحكم الإمام، قبل أن يقطع دراسته ويعود إلى اليمن، التي كانت- كما يرى- بحاجة إليه ولغيره، عام 1942، وما أن وضع قدميه عليها حتى هتف:

ماذا دهى قحطان، في لحظاتهم؛
بؤس، وفي كلماتــهم آلام؟..
جهل وأمراض وظلم فادح؛
ومخافة ومجاعة و"إمام"..
 
لكل ثائر حكايته الخاصة؛ طريقته في إيصال صوته للناس. يختار البعض الاجتماعات السرية، والآخر يفضل استقطاب النخبة، والأقل هو من يجاهر بما في نفسه. وقد اختار الزبيري المجاهرة بالكلمة والأدب. استرجع هنا إحدى مقولاته: "كنت أحس إحساسا أسطوريا بأنني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان".
 
أدرك شاعرنا مبكرا أن الكلمة هي الحلقة المفقودة بين اليمني وشعبه، بعد أن سطا جهل الإمامة على اليمن مئات السنين وصنع خلالها دين يناسب بقائها. وما أن وصل الى صنعاء، حتى بحث عن منبر لينشر كلماته وأدبه، ولم يجد أفضل من خطبة جمعة في الجامع الكبير ليلقيها دون خوف؛ لكن ذلك الفعل لم يمر على الداهية، القابع بالقصر، مرور الكرام. فأمر بحبس الزبيري بتهمة إثارة التفكير، وتهديد الجهل العام وازدراء الحماقة.
 
ربما كانت ليال السجن، مفترق طُرق لإفراز الثائر القوي. لا يغادرها للحياة سوى شخصان؛ أحدهما خلَعّ ثوريته واختار طريق السلامة بعد أن تلاشت ثقته مع لياليها المظلمة وانتابته الهواجس من جدوى ما يقوم به؛ وآخر يرفع عن قاعها ما سقط عن غيره، ليضعه على كتفه همة وعزم، تساعده على إكمال طريقه.
 
وقد أفرزت سجون الإمام الكثير من الأبطال الذين استمروا في محاولة التغيير. فلم يكد الزبيري يخرج من السجن حتى هتف متحديًا:

خرجنا من السجن شمّ الأنوف،
كما تخرج الأسد من غابها..
نمر على شفرات السيوف،
ونأتي المنية من بابها..
 
أعاد الشاعر، ورفاقه، النظر في ولي العهد، بعد أن بدى لهم سيره على نهج والده. فل الزبيري ببعض رفاقه في مدينة عدن، منبر الحرية، ولم تتوقف دعواته عن التغيير. فهناك ثورة قادمة، ينبغي أن تكون، مهما وزع الليل عزلته وكوابيسه، وقامت ثورة الدستور عام 1948، ليعود الزبيري إلى صنعاء غير مصدق للإنجاز الذي تم.
 
كان الزبيري يتنقل فوق طائرته من بلد إلى آخر لطلب العون، والاعتراف بالجمهورية، التي حلم بها طويلا، قبل أن يُخذل من الخارج، وتقتل ثورته الوليدة على يد الإمام أحمد، الذي حاصر صنعاء مع القبائل، قبل أن يستبيحها ويجز رؤوس المشاركين بالثورة والمؤيدين لها على حد سيوفه.

أنا راقبت دفن فرحتنا الكبــرى،
وشاهدت مصرع الابتسامة..
ورأيت الشعب الذي نزع القيــد،
وأبقى جذوره في الإمامة..
وإذا بالطبوب عادت طبولاً،
وإذا بالفطيم يلغي فطامه..
وإذا بالدستور يصرعه البغــي،
ويلقي كصانعيه حِمامه..
وإذا الشعب بعدما حطم الأصفاد عنه،
 لم نلق إلا حطامه..
نحن شئنا قيامه لفخار،
فأراه الطغاة هول القيامة..
 
حتى هنا، تبقى الحكاية تقليدية، وليس على ذلك الشريد المطارد سوى إفراغ غضبه، أو البوح بأوجاعه على أقل تقدير؛ فما مر به لم يكن سهلا أو هينا، بعد أن ذابت أحلامه وقطعت به السبل وفقد كل شيء، إلا أنه يفاجئ ساردي الحكايات وهو ينشد:

كفرتُ بعزمتي الصامدة،
وقدسية الغضبة الحاقدة..
وانّات قلبي تحت الخطوب!،
وأحلامه الحية الصاعدة..
وعمرِ شبابٍ نذرت به،
لشعبي واهدافه الخالدة..
وبالشهداء وأرواحهم،
تراقبني من علٍ شاهده..
إذا أنا أيدت حكم الطغاة،
وهادنتهم ساعة واحده..
 
ما هذا الرجل، غريب أمره؟!، مازال، رغم ما حدث، ينذر بروحه فداء لهذا الشعب؟!
 
لماذا لم يصرخ؟!، أو يخرج جزء من الغضب، الذي ولابد أن يكون قد سكن روحه؟!
 
لم يلم أحد من قارئي التاريخ، الثلايا، الذي صب لعناته على الشعب من وسط ساحة الإعدام، حين هتف: "لعن الله شعب أردت له الحياة وأراد لي الموت"؛ لكن الزبيري استبدل تلك اللعنات بلغة مختلفة، لعل من يأتي بعده يفهم الدرس ويعيه:

ورؤوس الأبطال، يلهو وليد القصر،
لهواً بها، وتلهو وليده..
والمحاذير والمخاوف تغتال،
الضحايا المفجوعة المفؤوده..
والقنوط الوحشي يفترس الأحرار،
في ظلمة السجون البعيدة..
ألمح الشعب قابعاً يدرس الثورة،
كيما يأتي بأخرى جديده..
يتحرى الأخطاء ويغفر للأحرار،
أخطاءهم ليبقوا جنوده..
 
أي حالم ساذج كان، برغم المآسي التي شاهدها بأم عينيه، إلا أنه رأى الشعب، المهلل للظلم، يعد العدة لثورة جديدة. على ماذا كان يراهن؟! وما هي الاساسات التي بنى عليها تلك الثقة؟! هل امتلك عين ثالثة، أم أن ما تنبأ به لم يكن سوى هذيان حالم يرجوه؟!
 
لم يتوقف الزبيري عند هذيانه، بل قام بتحويلها الى أفعال، بعد قيام ثورة يوليو 1952، وانتقاله من باكستان الى مصر، ليقيم الرجل منبرا جديدا، يوصل بها القصائد تلو الأخرى، والمقالات التي تليها مقالات، عبر الإذاعات المتاحة أمامه، حتى أمسى للمعارضة، أخيراً، صوت مسموع، ومطالب حقيقية لمن كان يجهلها.. ومرت السنوات سريعاً، وكسب الزبيري الرهان، وقام الشعب بثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة.
 
وانتهت الحكاية!!
كلا، لم تنتهِ بعد...
 
يبدو أن الزبيري كان صعب المراس. لم يقبل أن تفقد كلمته بريقها تحت سقوف المكاتب والوظائف الرسمية، خاصة بعد انحراف الثورة عن مسارها، وانشغال الثوار عن الشعب بأمور الدولة، فقدم استقالته من وظيفة الحكومة، التي كانت كافية لختام حياته بطريقة مُرضيه، وعاد ليواجه معركة تثبيت الجمهورية بخطابات أهابت بالشريعة والعروبة، وحددت مكمن الوجع في عقر دار الامامة، والمناطق التي تدين لها بالولاء:

"إن الذين يؤمنون بالعنصرية، هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات، التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب لا طبقاته، ويصرون على أن يتميزوا على الشعب وينفردوا عنه بحقوق سياسية واجتماعية، كأنهم لا يقبلون أن يكونوا في عداد أبنائه، ولا في مستوى إنساني كمستوى إنسانيته. هذه النزعة المغالية هي النزعة العنصرية، وهي أخطر شيء على الهاشميين وعلى مستقبلهم، سواء عاشوا في اليمن، أو في أي قطر عربي آخر".
 
لم يكن الإنصاف، يوماً، من شيم النهايات، خاصة بعد شعور أعداء الثورة بخطر الزبيري، الذي اوصلهم إلى الاختباء في الجبال، فكان لابد أن تنتهي حياته ليتخلصوا من عبئه. وتم اغتياله ضمن أحد جولاته للمصالحة بين القبائل، في يوم أسود، مازالت اليمن تبكيه حتى اليوم على لسان البردوني:

من مات؟ واستحيا السؤالُ..
وأطرق الردٌّ الخجولُ..
أهُنا "الزبيريُّ" المضرّجُ؟،،
بل هنا شعب قتيلُ..
وأعادت القممُ الحكايةَ،
واستعادتها السهولُ"..
 
ما الذي جعل الزبيري مختلفاً عن غيره حتى اليوم، لتلتحق الدعوات له بالرحمة عبر لسان كل يمني، رغم أنه لم يكن الأقوى أو الأكثر بلاغة وجاذبية؟!
 
أعتقد بأن ما ميزه عن غيره، كان إيمانه المطلق بهذا الشعب. حتى وهو يعاتبه، ستجده ليناً لطيفا في عتابه، وكأن الشعب حبيبته التي يخشى حزنها وبكائها، وبرغم سلبيات تلك الحبيبة، التي ورثتها عبر ألف عام من البؤس، مازالت في عينيه الجميلة، أمُّ الحضارات التي ستعيد مجدها، ما أن تنتفض.
 
من سخرية الأقدار، أن صورة اليوم لم تختلف كثيرا عن الماضي الذي غيره الزبيري ورفاقه، إلا من مفارقات بعض الظلال. فالشعب، في وقتنا الحالي، هو من يبحث عن قائد أو ثائر يؤمن به، يستجدي الصدق ويرجوه، بعد أن أحاطته ضجة زائفة لا حقيقة فيها.
 

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...