السبت، 25 مايو 2019

صمت شعب..


نور ناجي

 يُحكى أن أحد الحكام أمر بزيادة في أموال الجباية المفروضة على أفراد مملكته بعد أن استثنى الأموات، لشبهة عدم قدرتهم على الدفع. لم يكن القرار غريب، فقد كان كافة الشعب على علم مسبق بأن إقرار الضرائب، ودفع الاتاوات، هي الوظيفة الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة ربما للحكام والملوك آنذاك. فالمملكة، على مر الزمان، بحاجة للمال من أجل حماية نفسها، ورسم خطط تنميتها، وتسهيل أمور حياة من يديرها..
 
"طفح الكيل"!.. هتف المواطن الذي لم يقبل بذلك المرسوم. فلم يكن قد أزاح عن كاهله بعد، مجهود تسديده فواتير العام المنصرم..
 
أغلقت الحوانيت أبوابها اعتراضا على جور المرسوم، ولم تتوقف ألّسنة الشعراء المعارضين عن الشجب والتنديد، عمت المظاهرات أرجاء البلاد، وجابت الطرقات والأزقة، بل وتجاوزت حدود الأدب، حين تعمدت اقترابها من حدود شرفات قصر الحاكم ونوافذه..
 
استمع الحاكم لتلك الهتافات، زمّ شفتيه بغضب، لن يتراجع عن قراره أبدا، فأي تخاذل منه سيعتبره الغوغاء انتصارا لهم.. ومن يدري ما الذي قد يحدث إن أظهر لهم ضعفه !! "سيرضخون لي في نهاية المطاف"، قالها وكان على حق. فلم تمضِ بضعة أيام حتى عادت الحوانيت لفتح أبوابها، وتلّهى شعراء المملكة وقصاصيها بحربهم ضد المسلسلات التلفزيونية التي بدأت تسرق اضوائهم، ليفقد بعد ذلك الشباب الثائر عزيمتهم..!
 
ودفعت تلك الزيادة في الضرائب، في نهاية المطاف..!
 
لم يكد يمضِ العام، حتى عاد الحاكم لإصدار مرسوما جديدا بزيادة مستحدثة لأموال الجباية. وقد كان مبرره هذه المرة: سقوط قيمة "الدينار" امام بقية العملات الأجنبية، ولا ينبغي له- كحاكم حريص- استنزاف احتياطي المملكة. عادت التظاهرات مرة أخرى، وهذه المرة على نحو أشد، خاصة مع ارتفاع أسعار السلع. واستمر الاضراب بضعة أيام، قبل أن ينهزم الشعب، ويدفع الزيادة الضريبية مجددا..
 
وهكذا.. على مدى أعوام؛ تبادل كلٌ من الملك وشعبه التحدي: زيادة في الضرائب، مقابل مظاهرات صاخبة منددة، لا تلبث أن تتوقف، حتى جاء ذلك النهار المحدد فيه إقرار الزيادة الجديدة. وضع الحاكم ختمه على مرسومه، قبل أن يجلس على شرفته، ممسكا بكيس من "الفشار" المستورد، باهض الثمن، يسليه لحظة مرور هتافات شعبه..
 
مر الوقت، وأنهى الحاكم حبات "الفشار" دون أن يحدث شيء..!! هل كان ازدحام المرور هو من أعاق تسيير التظاهرات الشعبية وعمل على تأجيلها، ربما؟! أم كانت حرارة الصيف هي الفاعل؟!- سأل مستشاريه دون أن يجد جوابا..!! ومنعه الأرق تلك الليلة من النوم، فأخذ يتنقل بين الشرفات باحثاً عن فوضى، أو شغب ما، يريحه ويزيح عن كاهله هذا الأرق والهواجس.. أصاخ سمعه مجددا، علّه يسمع شاب ضال يقذفه بالشتائم، ولكن دون جدوى. ما الذي حدث للشعب؟! كان يفضل الشتائم على ذلك الصمت المريب!!..
 
مرت الأيام دون أن يسمع الحاكم دبيب نملة على الطرقات، وتوالى أرقه وسهره مع الصمت والهواجس: "هناك ما يحاك ضدي؛ لكن ما هو، وما الذي يتوجب علي فعله"؟! لم يكن التوقف عن الكلام  من ضمن جرائم المملكة، كما لن تتسع سجونه لكافة أبناء الشعب..
 
 فجأة انتابته موجة من الجزع، وأسرع لأوراقه، وخط عليها مرسوما الغي فيه كافة الضرائب التي كان قد أصدرها منذ توليه الحكم، وحتى تلك التي سبقه إليها حكام قبله، ليستيقظ النهار على ضجيج المارة. تنفس الحاكم الصعداء؛ لكن ذلك لم يعفه من ضريبة وقعت عليه بفقدان نومه المطمئن، وقد امسى غير آمن من مكر شعبه..
 
وانتهت الحكاية.
 
هل انتهت فعلا، أم أن فصولها مازالت تدور في أرجاء صنعاء، التي قررت منذ فترة ارتداء الصمت. صمت غريب، لا تعرف ما الذي يخبئه أصحابه، عدى نظراتهم التي تطفح بين الحين والآخر بالقهر والغضب. قد يقول البعض إن صمتهم مجرد خنوع يائس، وقد يرى الآخر أن القلوب مغلقة على ما تحمل، وهناك ما يحاك في ثناياها وينتظر فقط لحظة انطلاقه..
 
كان الحاكم في الحكاية الأولى ذكياً، ليتجنب مرحلة ما بعد الصمت، التي لا يكون السكون هو ما يتبعها غالباً. هل تنبه حكام صنعاء- من الانقلابيين- للشعب الغارق في الصمت، وبدأوا بالترويج لصراع محتمل، بين كل من المشاط ومحمد الحوثي؟! ربما أرادوا بتلك الشائعات كسر سكون الشعب المقلق، واشغاله عن المظالم الواقعة عليه بأمل كاذب يطمئنهم بقرب الخلاص منهم!..
 
وقد تكون تلك المعركة حقيقة، وتنبئ عن قرب- ووجوب- التخلص من إحدى الرؤوس المتصارعة !! فلم يبخل علينا تاريخ الإمامة من صراعات دامية بين أبنائها، وليس ما يحدث سوى حلقة جديدة منها!! يدعونا هذا الاحتمال للتساؤل: هل امتلكت أذرع الحوثي أمان البقاء في الحكم والسيطرة عليه، لتنشغل بمعارك جانبية، مازال الوقت مبكرا عليها، أم أن آفة الطمع هي من تحرك قادتها؟!..
 
المدهش؛ أنه، وبالرغم من كل الاحتمالات، لم تستطع الاشاعات الصاخبة زحزحة المواطن الواقع تحت سيطرتها عن صمته، ولم تترك أنباء تلك المعارك أدنى أثر عليه. وكأن ما يحدث يخص شعب آخر، لا يمت له بصلة. هل فقد المواطن إحساسه بما حوله حقاً، أم أنه متمسك بحالة الغضب المغلفة بالسكوت، وخشية افراغها، ما أراده لها من نهاية ؟!..

الخميس، 23 مايو 2019

خلاف جوهري

توقفت عن التهام تلك الذراع حين التقطت عيناي مقال عن نوبل، مخترع الديناميت والأب الروحي لجائزة نوبل، الذي اشتعل ضميره فجأة قبل وفاته وقام بالمصادقة على تلك الجائزة السنوية في وصيته التي وثّقها في 27 نوفمبر 1895م..

لم أجد من هو أكثر وحشية من " البشري المتحضر"، حتى الكائنات الأسطورية التي احتلت الكوكب في عصر وزمن سحري لم تصل لما وصل إليه من وقاحة، يستطيع القيام بأكبر المذابح سواء كانت في حق الكائنات الأخرى أو في حق بني جنسه بمنتهى البساطة، لا شيء يقف بينه وبين قشعريرة اللذة التي تلبسه وهو يخطف الروح من غيره ليقوم بإعادتها للسماء، وكأنه مجرد طفل يلهو ببالونات ملونه يهديها للريح ويتابع رحلتها بفرح حتى تغيب عنه.
لا شيء يفوق وقاحته !!..

نزعت الاصبع المعلق بين شفتي لامسح عن فمي آثار وجبتي، وأنا أفكر في الحال الذي وصلنا اليه، أتقبل تماما كأنسان يحمل موروثات خفية من تاريخ بشري بدايته مليئة بمثل الوجبة التي تُُهضم في معدتي، أن يكون الجوع هو المحرك الرئيسي لعملية قتل بسيطة لا تؤذي أحد، أبجدية من إنسانيتك الأولى لا خلاف عليها..

قد لا يكون الجوع فقط من يفتح شهيتك لرائحة اللحم البشري، حبك لاحدهم يجعل من عملية بلعه الطريقة الفضلى للتخفيف من حدة الشوق الذي يعتريك تجاهه، ففي الحب غموض لم يستطع أكثر الشعراء رومانسية فك أسراره، الا يتركنا حين يمسنا أشباه مجانين؟!، أعرف أم ابتلعت خمسة من أبنائها، في اللحظة التي نطقوا بها كلمة " ماما"، لا أتنازل عن صداقتها ولو " بدبة بنزين " فهي من أرق واروع صديقاتي، مجرد تذكرها يعيد لي شهيتي لأكمل قرمشتي للاصبع المتبقي بكل تلذذ..

لا تدعي الاغماء يا عزيزتي، اراكِ من مكمني المنعزل وقد الجمتك الصدمة مما اقوله، هناك خلاف جوهري بيني وبين الفريد نوبل" مصّنع البارود، فأنا على الأقل لا أجّمل وجبتي للغداء بحفلة أنيقة أدعو اليها علية القوم للتخفيف من حمل ضميري، أختلف عنه بتقديري لكل لحظة عاشها الإنسان الذي التهمته قبل قليل، لم التهمه وأنا أعزف موسيقى صاخبة، بل ودعته بذلك الحزن اللذيذ، الشهي، الذي نحتاجه كبشر بين الحين والآخر، وسأقيم على روحه الصلوات، وقد أولف أبيات شعر مخصصة بإسمه أن زارني يوماً هاجس الشعر، سأكون وفيه له بحيث أني لن انسى طعمه مدى حياتي..

على عكس صانعي الأسلحة الذين يقومون وهم بكامل قواهم العقلية بالتفنن في صناعة النيران التي تحصد الآلاف بل الملايين من الأرواح بضربة واحدة، يتخلصون من الحياة بأسرع الطرق دون أن يلقوا بال لجودة اللحم أو لرائحة الدم المسكوبة على قارعة المعارك، لتتعفن بكل غباء وجهل..

عملية نزع للحياة بلا هدف سوى لزرع الخوف لبقية الاحياء، لفرض الرأي الخاطىء بكل تأكيد، لن اقتل إنسان لمجرد إثبات وجهة نظر صحيحة لا شائبة فيها..

ستنتهي السلالة البشرية يوماً ما بسبب وجهات النظر المختلفة، بسبب من هم على شاكلة نوبل وغيره، ولن تجدون منها شكوى ضدي أو ضد وجبات الشواء التي أقيمها بين الحين والآخر..

الإنسانة : نور ناجي..
أكبر الكذبات هي تلك التي تدعي أن اينشتاين تنبأ بزوال البشرية بعد انقراض النحل بأربع سنوات !!!

 لقد كان الرجل عالم فيزياء ولم يفتتح على حد علمي محل لبيع العسل في الدائري ، فلا تصدقوا كل ما تقرأونه، وامسحوا من ذاكرتكم "النحلة زينة وصديقها نحول"، نحن الآن في عصر الدبابير !!...

 تعلمت من تجربة حية عشتها قريباً أن النحل من أشد الحشرات فتكا بالبشر ، أشد شراسة من الدب القطبي، بوحشية عنيفة تفوقت فيها على انثى الذئب الرمادي، كما أن النحل يملك مكراً ودهاء يلاعب به الأفعى الإستوائية الأكلة للحوم دور شطرنج وينتصر عليها بكل بساطة..

 لكم أن تزوروا صديقتي الحوثية الراقدة في العناية المركزة لتتأكدوا من صحة كلامي، حين يسمح لها الطبيب بالزيارات بعد أن تعود لها ذاكرتها !!.. 

 كنت مع صديقتي في خضم حوار ساخن كعادتنا، حتى قاطعتنا فجأة نحلة شريرة تحوم حولنا بوحشية وعداء واضح، سمعت ازيزها وتوعدها وهي تقترب مهددة ببلطجة سافرة، وقد أخرجت سنها الحاد من غمده..
 اززززز
     اززززز
        اززززز 
 هجمت النحلة وهي تردد " زامل " حماسي يجعل الدماء تتجمد في العروق من الهلع، لا تعجبوا من ترديدها للزامل فهذه أبرز مشاكل العولمة التي تصلنا..

 لم أنتظر وقوع الجريمة ، ولن اسمح بضحايا بريئة في منزلي حتى وإن كنت مختلفة مع الضحية المرتقبة في وجهات النظر!!، "لست أنا هذا الشخص"، بحثت حولي عن سلاح يساندني في تلك المهمة وقبضت عليه بشدة متأهية للحظة استخدامه والقيت العلبة الزجاجية الثقيلة التي استطعت الوصول إليها في وقت قياسي يحسب لي ... 

 من سوء الحظ أن النحلة الجبانة شمرت عن ساقيها ولاذت بالفرار من الشباك المفتوح، البعض يدعي الشجاعة حتى يوضع على المحك فينكشف سره.. 

 حملت سيارة الإسعاف صديقتي العزيزة التي تتلقى العلاج أثر ارتجاج شديد في الدماغ، أدعو لها بالشفاء السريع، وارجو منكم ذلك .. 

 كعادة الشرطة التي تصل دوماً متأخرة قيدت الحادثة ضد مجهول !!.. لكن ،،، أين ستذهب مني تلك النحلة..
 " أنا وانتِ والزمن طويل "..

 نور

الأحد، 12 مايو 2019

حرية منقوصة.. سجن بلا قضبان


نور ناجي

 سواء كنتَ من مؤيدي فكر "عائض القرني" أو من المخالفين له، سيثير فيك استجوابه، عبر محاكمة التفتيش الفضائية التي نصبت له، الكثير من الشفقة، إن لم تستفزك مشاعر الغضب أو السخرية..
 
ليس من السهل رؤية رجل يحاول الدفاع عن نفسه، بجمل متعثرة مرتعشة، من اتهامات لم يكن هو صانعها، بقدر ما كان نظام دولته، الذي وضعه حالياً في قفص الاتهام، هو من سعى لترسيخها، وبموافقة من "العالم الحر" الذي استفاد منها حيناً، حتى انتهت فترة احتياجه لها..
 
ما الذي شعر به "القرني" في طريق عودته من تلك المقابلة؟ ما الذي قاله لنفسه؟! هل كان مقتنعا حقا بما تبرأ منه؟ أم أنه وجد في انحنائه طريقا مناسبة للبقاء حراً طليقاً؟!..
 
لم يكن عائض القرني الوحيد الذي حوصر باتهامات دعمه للإرهاب، ونشر الفكر المتطرف بين شباب الأمة؛ فقد سبقه الكثير الذين نفوا عنهم تلك التهم مرارا وتكرارا، وبشكل مبالغ فيه، حتى جعلنا نتساءل: إن كان ذلك الإنكار تبرؤ حقيقي لما دعوا إليه سابقا، أم خشية فقدان ثراء لا ينبغي "للمُصلح" من الأساس أن يملكه؟!..
 
لعل الخوف من مصير مجهول، كمصير "سلمان العودة"، كان الدافع الرئيسي لذلك الانكار؛ فمن السهل تفضيل الانحناء لمؤامرات حكومية، وفضائح كاميرات فضائية، على أثقال القيود..
 
لست في صدد مناقشة أسباب الفكر المتطرف، الذي لا ينكر أحد وجوده على أرض الواقع.. ولا يهمني حقيقة البحث عن طريقة لإنقاذ معتقل ما، أو آخر اختطفت روحه.. لدينا في اليمن مخزون لا ينضب من المعتقلين والمختطفين، ولا نملك كشعب مقهور رفاهية الاهتمام بالأوضاع السياسية لبلد جار؛ على الرغم أن هذا الجار أمسى وصي علينا بين ليلة وضحاها..
 
إلا أن الفضول يجبرنا احيانا على الوقوف أمام نموذجين من البشر، وقعا تحت نفس التجربة، واختار كل منهما طريقا مختلفا عن الآخر؛ طريق المهادنة والرضوخ الذي فضله "القرني"، مخالفاً بذلك "العودة" الذي كان السجن أحب له مما يدعونه إليه؟!..
 
ألا تدعونا هذه المفارقة الى تذكر رجل آخر؛ نبي رفض الحياة الوادعة وفضل السجن عليها، قال تعالى: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"..
 
حين نعود إلى بدايات قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز، سنجد أنه كاد أن يقع في الخطيئة "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"، من المؤكد أن النبي استعصم نفسه، بعد ذلك، وجنب نفسه الوقوع في الخطيئة؛ رغم المغريات التي أحاطت به وهيئت له، ليس من امرأة العزيز وحسب، بل من نساء المدينة اللواتي وجدن به طريدة تستحق مشقة المطاردة، لكن لماذا لم يقع سيدنا يوسف في الخطيئة رغم صعوبة موقفه؟!..
 
بالطبع، زلة أخرى ستكون جرم متكامل، لا ينقصها جهل أو غفلة، وتستوجب عقاب الهي من الصعب مغفرته. كما أن انكشاف امرأة العزيز، بخطتها الاستباقية الأولى، جعلته يدرك أنه أمام خصم ليس بالبريء- كما كانت تدّعي: "قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"..
 
ليس من السهل اغفال نقطة جوهرية حاسمة في تسلسل أحداث القصة: كان سيدنا يوسف، عليه السلام، يملك في الحادثة الأولى "الإرادة الحرة الكاملة" في الوقوع بالخطأ أو رفضه.. اتباع هوى النفس، أو طلب التوبة والاعتراف بالذنب؛ لكنه فقد تلك الإرادة بعد ذلك، تحت ظل الاغراءات المجنونة، والتهديدات الصريحة المحيطة به، والتي لم تكن عرضاً، بقدر ما كانت أمرا مباشرا، سالب لحريته، يوجبه الخضوع والتنفيذ: "وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ"..
 
لم يعد الأمر رغبة، أو نزوة عابرة، بل تحوّلَ إلى طغيان مكتمل، يطلب منه تسليم روحه قبل جسده. لم يجد سيدنا يوسف، أمام عيش ذليل بإرادة وروح منقوصة، سوى امتلاك نفسه بين جدران مظلمة (السجن)؛ لكن ماذا لو أن الضعف أصابه ووافق على ما أريد له؟! لا أعتقد أنه كان ليصبح عزيز مصر يوما ما، ولم نكن لنسمع عن الرجل، الذي بقى مرتجفا أمام نظرات البشر المتهمة الساخرة المشفقة..
 
قد تكون مقايضة سيدنا يوسف بعيدة في مضمون شخوص القصة؛ لكنها مماثلة في طريقة تعاطي الاغراءات والتهديدات، التي تُعرض على المثقف أو المصلح الاجتماعي، لناشط سياسي مهتم بالشأن العام، أو لآخر يسعى لمجد شخصي..
 
لكن منذ متى تمكنت السجون من القبض على فكرة ما، وقتلها؟! بغض النظر إن كانت تلك الفكرة صائبة أم خاطئة!! على الرغم من أن الاضطهاد كان على الدوام الطريق الاصعب والاكثر معاناة لصاحبه؛ إلا أنه الأقرب لتحقيق الأفكار وخلقها بروح أقوى..
 
كثيرون هم الذين وفرت لهم السجون حرية لم يجدوها خارج أسواره، وحققوا من خلالها أحلامهم التي، ربما، لم تكن لتتحقق بالقدر الذي كانوا يصبون إليه تحت زرقة السماء..
 
 قضى نيلسون مانديلا سبعة وعشرون عاما في السجون، بسبب نضاله ضد سياسة الفصل العنصري، ليصبح أيقونة عالمية أخرجته من السجن منتصراً، وجعلته يرأس أول حكومة متعددة وممثلة لكافة الاعراق في بلده (جنوب افريقيا)..
 
ليس اقسى على المرء من سلب روحه، وتركه طليقاً بين الناس، يعتقد من يراه أنه حر؛ بينما هو مدرك تماما بأنه سمح لسجان، أشد وطأة، أن يحيا تحت جلده ورهن طوعه بقية عمره!!..

الأحد، 5 مايو 2019

وعاد شهر رمضان..


نور ناجي

 لم يعد اليمني يتذكر عدد المرات التي مر فيها الشهر الكريم خلال سنوات الحرب، أو نصف الحرب التي تستنزفنا؛ فأنصاف الحروب هي الأقسى في إهدار الروح، والوطن!..
 
لم يفقد المواطن قدرته على العد؛ لكنه أنشغل بروزنامة الراتب التائهة، ومتاهة الجبهات المفتوحة التي تجاوزت السنوات المتوقعة لها؛ وتنبه، متأخرا، إلى أن استمرار الحرب لا يضايق أصحاب القرار، ولا يصيبهم بضرر- مباشر على الأقل- كالضرر الذي يصيب المواطن البسيط وهو يراقب اقتراب الشهر الكريم بقلق: "لقد كُنتَ هنا قبل أشهر قليلة.. لم العجلة؟!"..
 
"هل يعقل أن تمقت رمضان؟!"؛ "كيف يصيبك الضيق من قدوم شهر البركة؛ الخير؛ الرحمة والغفران؟!"، إلى آخر العبارات التقليدية التي يقولها البعض، ممتعضا من اضطراب اليمني أمام قدوم الشهر؛ متجاهلاً أن لفظ رمضان مشتق من "الرّمض"، أي شدّة الحرّ والوقع الشديد لحرارة الشمس. كما أن الصيام فرض على المسلم كعبادة، ومهما بلغت حلاوة أداء العبادات في النفس؛ إلا أن ذلك لا يلغي عنائها، الذي وضع لأجله مبدأ الثواب والعقاب..
 
وإن لم يكن الشهر، وصيامه، شاقٌ على البعض، سيكون كذلك على اليمني، "الشاقي"، الذي لو قُدر له أن يكتب حقيقة معاناته لأصيبت الكثير من الألسن بالخرس..
 
مازالت ذاكرة اليمني تحمل عبق شهور صوم ما قبل الحرب: ازدحام الشوارع قبل ساعات الإفطار؛ اجتماع أفراد العائلة الحميمي؛ السباق المحموم بين الصغار على التقاط الأذان وسجادات الصلاة؛ وأدعية التراويح التي تملأ مساءات الشهر دوماً بالألفة والحميمية..
 
لكن ذاكرة الحرب وقفت بين المواطن وذكرياته القديمة كسد مرير. فلم يعد ازدحام الشوارع ينبئ عن الاستعجال المتلهف لمدفع الإفطار، بقدر ما ينذر عن طوابير لا نهاية لها أمام محطات الغاز والبنزين، وخلافها من السلع التي يبدو أنها تهوى لعب "الغميضة" مع اليمني، احتفاء بقدوم الشهر..
 
ليس من المستبعد أن تكون فوضى الشوارع والطرقات، ناتجة عن "فاعل خير" قرر توزيع أكياس القمح والصدقات علناً، ليزداد أجره وثوابه عند الله، وقد احتذى بالمنظمات الإنسانية التي ترتفع وتيرة نشاطها أيام الشهر الكريم، وكأن المواطن لا يعاني الجوع بقية العام!!..
 
لم تعد عادة تبادل الزيارات كما كانت في السابق، حتى على مستوى تجمع العائلة الواحدة بفروعها، بعد أن أصبحت العادات الاجتماعية لرمضان مكلفة مادياً، ومعنوياً أيضاً، لرب العائلة وهو يتهرب من واجباته بخجل وانكسار...
 
خرست ميكرفونات صلاة التراويح، وقد أمسى صوتها من المحرمات وفضّل البعض أدائها في منازلهم؛ لأن الذهاب إلى المساجد أصبح محفوفا بالتردد، مع محاولات الخطباء الجدد التأثير والتشكيك في عقيدة لا توافق ما يرونه..!!
 
هل انتهت مشقة الشهر؟!.. ليس بعد..
 
لا يكاد اليمني، الذي أنهكه التعب، يجمع ما يستلزم رمضان ويرضيه، حتى يقف متوسلاً العيد إرجاء فواتيره قليلا، أو إلغاء بعض منها !!..
 
أن تكون مواطنا بسيطا في رمضان؛ يعني أن تقف عاجزا بين محاولة عدم إضاعة ثواب الشهر، وبين كونك معيل لأسرتك، تسابق مأزق الوقت للبحث عن روحانيات، أنت في أمس الحاجة اليها، متجاهلا عجزك أمام واجباتك المستحقة،...
 
ويفترض بك، فوق كل ذلك، أن تبقى مبتسماً للسواك الذي وضعته على فمك، دون أن تدري أيكما يمضغ الآخر؟!..

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...