السبت، 25 أبريل 2020

نساء من القرآن.. (1) "أمّ موسى"


نور ناجي

 قد أُتهم بالإنحياز، إلا أني لا أبالغ حين أقول بأن الأفلام والقصص ذات الطابع الذكوري البحت تبعث على التوتر ولا تشعرك بالارتياح، ومهما بالغ النقاد في مدحها يبقى في أحداثها شيء ناقص يجبر المرأة على استعجال الوقت لتنتهي من الفوضى المعروضة أمامها..
 
ربما لا ينطبق الحال على قصص القرآن، إلا أن وجود المرأة في أي منها يضفي عليها بريقاً خاصاً.. نكهة غنية تُدعى "المشاعر" التي قد تقابل أحياناً بنوع من اللامبالاة!..
 
لم تأخذ والدة سيدنا موسى حيزاً كبيراً من الآيات القرآنية.. أربع اشارات كانت كافية، لنعيش أصعب مراحل حياتها..
 
كانت "أم موسى"، على الأغلب، في أشهرها الأخيرة حين وصلها قرار فرعون بذبح أطفال بني إسرائيل، لم تكن لتجهض جنينها، وتستبدل قاتل بآخر، فاختارت الاستسلام، ولا تدرون كم يكون الاستسلام شاقاً حين يضطر المرء لأختياره..!
 
لا بدّ وأن آلام المرأة الأم كانت أعسر مما نتصور، ففي حال كتمت صرخات مخاضها كيف لها أن تكتم صرخات وليد يتأهب الحُرّاس للعثور عليه وذبحه؟! في أحسن الأحوال سينهي أحدهم جريمته بعيدا عن بصرها، إن حمل قلبه بعض من رحمة، إلا أن المرأة تجاوزت اختبارها الأول وأنجبت موسى دون أن يشعر جنود فرعون.
 
على الأغلب، أن المرأة تصاب بحالة غريبة من الشجن الحزين أثناء وبعد الولادة، حتى إن لم تكن أمام اختبار إلهي، فكيف بإمرأة تنظر الى وليدها المهدد من قبل سلطات فرعون؟! وجع كبير، لا بد وأنها استحقت لاجله طمأنينة إلهية عبر وحي اختصها الله به، والسيدة مريم لاحقاً حين شاركتها ظرف مشابه..
 
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ"- تحظى اللحظات الأولى لإرضاع الطفل بمذاق خاص، لا شيء يماثله حتى تتكرر في ولادة أخرى. من لا يمر بهذه التجربة قد يعتبرها مجرد مبالغة أو مشاعر أنثوية لا يعول عليها، إلا أن الأمهات يشعرنّ فعلياً في تلك اللحظة بتوقف العالم وتجلّي الله لهنّ. ورغم حساسية وضع سيدنا موسى والأخطار المحيطة به، لم يحرم الله والدته من لحظتها الخاصة بطلبه منها إرضاع الصغير، فقد كانت بحاجة لبعض السكينة قبل أن يلقي عليها بالأمر الذي لم تكن لتتوقعه!..
 
"فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ!"- تلقي ابنها في اليم!!. يمكنني الجزم بأن الأمومة هي أقوى المشاعر البشرية وأكثرها صدقاً. مشاعر لا يمكن احتواءها.. حين لا تجد المرأة لها اطفالا، لن تبخل بعطاءها لغريب، لا تربطها به صلة رحم، ارضاءاً لها في المقام الأول، فكيف يُطلب من امرأة- وإن لم تكن نفساء- أن تلقي بفلذة كبدها؟! واين؟!: في اليم؟!، كيف للمياه الجارية أن تكون خيارا مطروحاً لأم؟!..
 
أعترف بأني مازال أشعر بالجزع، كلما مررت بالآية، حتى أكاد اصرخ في أم موسى: احملي رضيعك يا امرأة، لن يكلفك الله بأكثر مما يحتمل قلبك.. اهربي واجعلي من أي واحة صحراوية مستقرا وارضاً للاستغفار، على أن تلقي ابنك للمجهول.. يدرك الله مدى ضعفك ويعلم حدود قدرتك، فلا تخلعي قلبك وسارعي بالفرار!..
 
 ما أزال الهث، وأمسك على قلبي، حتى تكمل الآية نفسها: "وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ!"..
 
"إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ"، إيمان هائل هو ما جعل ام موسى تستكين لعبارة بذلك الإيجاز؛ ربما لم تطفىء الخوف والحزن في روحها، إلا أن مقايضتها بنهاية سعيدة، أمدّها بيقين يكفيها بعض الوقت. فربما تضعف وتلين لصوت قد يهمس فيها ويدعوها للتريث: لعل ما اعتبرته وحيا ليس سوى هلوسات، فرضتها الظروف الصعبة المحيطة بك!..
 
ضمّت أم موسى ابنها للحظات، قبل أن تضعه جانباً وتباشر مهمتها على عجل.. أراها تبحث في زوايا كوخها الصغير عما يساعدها. على أكثر تقدير لن تجد سوى سلة قديمة مصنوعة من القَش!، ربما سكبت عليها بعض الماء لتجربتها واصلاح ما بها من عيوب قبل أن تتجاهل قطرات الماء وهي تنز منها وتتكل على يقينها ووعد الله لها!..
 
ترى ما الذي كانت تقوله لنفسها لحظة اختفاء ابنها في اليم؟!..
 
ربما جاع الآن؟! لن يقوى على رياح المساء الباردة!! امازالت الأغطية تمنحه الدفئ، أم انزاحت عنه؟! انشغلت أم موسى بكثير من التفاصيل حتى تهرب من هاجسها الحقيقي: هل كان النهر رحيماً برضيعي أم اختار القسوة؟! مازالت "أم موسى" واقفة على ظلها، قبل أن يخلو قلبها فجأة!!..
 
للحزن درجات، يرى البعض أن "الكمد والبث" أعلاها مرتبة، إلا أن القرآن أشار إلى نوع آخر لا يقل قسوة: يحدث أن يفرغ القلب، تبحث على سطح التجويف المستحدث فيك، فلا تجد للصدى فيه مكاناً، تنشد الصراخ خلاله بأوجاعك، لعلها تملؤه دون جدوى، لطف إلهي فقط هو ما يشفي هذا النوع من الأحزان، يقول تعالى: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"..
 
سارت أحداث القصة كما أراد لها الله أن تكون.. يقول تعالى، مخاطباً رسوله (موسى) ومذكرا إياه بمحطات لم يكن لينجو منها: "وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ"..
 
ربما يتوجب على الأنبياء والرسل، والصالحين بالمثل، المرور بتجارب قاسية تسبق استحقاقهم للهداية، قد تمتد بعضها لتخص من حولهم، وسواء انتهت بالسلب أم الإيجاب، مازالت تصب في صالح رحلته الروحية..
 
 وقد نجحت "أم موسى" في موضع لا أعتقد أن "أمّ" عادية كانت لتجتازه، لتنال بذلك عناية إلهية بالغة في التميز: "فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"..

السبت، 18 أبريل 2020

عزلة اختيارية


نور ناجي

 قال تعالى: "إذ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"- سورة الكهف.
 
لم يملك فتية الكهف مخططا مناسبا للحفاظ على عقيدتهم فآثروا الإبتعاد حتى يتدبروا أمرهم؛ ليكونوا بذلك اشهر من أتخذ قرار "العزلة" دون أن تكون للأوبئة والفيروسات يد في ذلك..
 
على ما يبدو أن ذلك الهروب كان الحل الأنسب والاسلم أمام حاكم ميؤوس من إصلاحه، ومجتمع يرفض الاختلاف، حتى انقضى على الفتية أكثر من ثلاثمائة سنة في الكهف، قبل أن تكون مقايضة حريتهم بإيمانهم هي الحدث الأهم!.
 
لم تكن تلك الحادثة هي "العزلة" الوحيدة المذكورة في القران الكريم، فقد أشارت سورة "يس"- وإن بشكل غير صريح- إلى "عزلة" أقصر، أختارها أحدهم من أجل إيجاد حلول كان ينشدها!.
 
"وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ".. نقف أمام الإختبار التقليدي الذي طالما وضعت فيه الأمم، والذي- على الأغلب- لن يمر بسهولة وسيلاقي الرفض الشديد كغيره، إلا أن تلك القرية لم تكتفِ بالرفض المجرد، بل أوشكت على الفتك برسلها: "قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ"، مازالت تتابع الأحداث قبل أن تلتقط هتاف قادم من بعيد..
 
طالما حملت سورة "يس" طابع خاص، شَجّن، لا تهتم- مع مرور الوقت- بتحديد منبعه، بقدر تمسكك به. وعلى الأغلب أن شعور الشفقة مازال يراودك كلما توقفت أمام لهاث الرجل المذكور في الاية: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"..
 
اللافت للنظر، أن الرجل لم يكن في قلب المدينة لحظة الاضطرابات التي سادتها، كما يفترض به أن يكون!..هل قرر اختيار "العُزلة" بعد وصول المرسلين، في محاولة تأمل هادئة لإيجاد إجابات لم تكن ضوضاء المدينة تمنحه إياها؟!..
 
يبدو أنه كان يدرك بأن التمسك العنيف بالمنظومة القديمة- رغم عيوبها- هو رد الفعل الأولي لأي محاولات تغيير مطروحه، دون الاهتمام بدراسة الطرح الجديد، ووضعه في ميزان التحليل والمنطق!!..
 
 يحدث أن تنادي لفكرة، وتتعصب لها بكل ما أوتيت من قوة، قبل أن تدرك بأن ما كنت تدعو إليه لم يكن نابعاً منك بقدر ما كان نتاج لما يتردد حولك..
 
لا تنقل التجمعات عدوى الأمراض فقط، فالأفكار ذات الصيت الأعلى- بغض النظر عن قيمتها- تنسخ نفسها عبر النطاق الذي تصل إليه، مكونة "سياسة القطيع"!..
 
كان الرجل يدرك تأثير تلك السياسة، فقرر اعتزالها حتى يخرج بما يرضيه دون تأثيرات خارجية. على الأغلب أنه لم يضع الشرائع الجديدة، المعروضه على قريته، نصب عينيه، بل ركز طاقته على "الرسل المبعوثين للقرية"!!
 
لم يكن "المُرسَلوُن" من أهالي القرية، كما يبدو؛ كما أنهم مازالوا يرددون استغنائهم عن أي مكاسب- وإن كان مُلكاً- حال إيمان القرية، إلا أنهم لم يتزحزحوا عن محاولاتهم! فما الذي يضعهم أمام خطر يدركون، تماماً، المهالك الناتجة عنه؟! هل فقدوا عقلهم حتى أمسى مصير القرية أهم من مصائرهم؟! أم أنّ تَحّمُّل الأذى كان في سبيل أمر أكثر اهمية؟!..
 
لعلَّ الله سبحانه وتعالى لم يضع اختباراته على الأمم وحسب، ربما جعل الجزء الأكبر أمام الرُّسُلّ لمعرفة مدى تمسكهم بما يدعون إليه!!..
 
توصل الرجل لصدق المُرسَلِين، ففزع إلى أهله، عارضا عليهم النتائج التي توصل إليها، متداركاً ‏حماقتهم، فقال لهم ناصحا: "اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، قبل أن يعلن إيمانه علناً لعل أفكاره هي ‏الأخرى تنعكس رأياً عاماً على قريته: "وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ ‏مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ"..‏
 
وُلِدَ المرءُ حراً، ولم تُسَن السجون عقابا إلا لأثرها السيء على الفرد، إلا أن اختيار "العزلة" قد يُحدِث فعلا عكسياً، ويعالج الروح السقيمة قبل أن يوسع مداركها ونظرتها لما حوله. كان الصحابي عمر ابن الخطاب من أكثر أهل قريش معاداة للاسلام، قبل أن يختار اعتزالها- كما أوردت كتب التاريخ- ولم يمض على عودته بعض الوقت حتى أعلن إسلامه..
 
ربما يقف العالم على أعتاب "عزلة إجبارية"، يعلم الله تعالى موعد انتهاءها، ولنا أن نرفض كونها إجبارية باختيار كيفية قضاء الوقت فيها؟
 
 يقول ابن جوزية: "يا هذا، إذا رزقت يقظة فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهَّابة!”..
 

السبت، 11 أبريل 2020

الدولة السوية


نور ناجي

  طالما عانت "الإمامة" من مشكلة في "الهوية"، مازالت تدعي الغيرة الوطنية ومحاربة الخارج، بينما تجاهر باصطفاء سلالتها وتميزها، رافضة الإندماج في مجتمع ترى أن تزعمه حق "مقدس" لا يجوز التنازل عنه!..
 
معادلة فاقدة للمنطق، تنتج على الأغلب واقع غير سوي!!
 
لم تمثل "الهوية" معضلة بالنسبة "للمنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول"، على الرغم من اختلاف النسابة في تحديد أصله.. فمنهم من ينسبه إلى قبيلة "الأزد اليمنية" التي استوطنت شمال الجزيرة وبلاد الشام قبل الإسلام، ومنهم من يراه تركماني الأصل. 
 
كغالبية الولاة القادمين من مركز بعيد، طمع المنصور بإحتكار أرض صعبة المراس خارج إطار الحملات الأيوبية التي جاء ضمنها، فقرر ببساطة الإستيلاء عليها. إلا أن رغبته الشديدة في حكم اليمن لم تمنعه من التفكير السوي. يدرك- كدبلوماسي مخضرم- أن إستخدام القوة قد تمنحه ما يريد بعض الوقت، إلا أنها لن تضمن استمرارية دولة يريد انشاءها، فتجنب ما قد يوقعه في الأخطاء بقرار حازم "بالانتماء"!!..
 
يُلزمك "الإنتماء" بإنبات جذور صلبة لك، ابداء الإهتمام، البحث عن أفضل الطرق للحفاظ على ما تنتمي إليه واعلاء شأنه.. وهذا ما قام به المنصور في رحلة بحثه الحثيثة عن عاصمة مناسبة لحكمه. لذلك لم تكن أي أرض لترضيه، بل سعى لإيجاد موضع استراتيجي سيمنحه تمركزا واسع المدى لأراضي دولته، ويضمن له في ذات الوقت حصوله السريع على الموارد ومصادر الغذاء. لا أعتقد أن المنصور أدرج "الحصون"، التي كانت تفضلها الإمامة، ضمن مقارنته. فغالباً ما تورث الأسوار الفزع وتقيد الحركة.
 
ربما أخذت منه المفاضلة بين "تعز" و "زبيد" بعض الوقت، قبل أن يستقر على الأولى، فلم تكن الموانىء، أو سهول تهامة بثروتها الحيوانية، بعيدة عنه..
 
في البدء، كان إظهار القوة ضرورياً، ولم يمضِ الوقت بالمنصور حتى سيطر على  أكبر مساحة ممكنة له من اليمن، مبتلعاً- بكل سهولة- المناطق التي كانت توزع انتماءاتها على الأئمة الهاربين فوق رؤوس الجبال، حتى بلغت حدود دولته، أحياناً، كامل الجزيرة العربية، إلا أن حكمه- وأولاده من بعده- لم يقتصر على استخدام العنف، فقد تميز حكم الدولة الرسولية منذ أيامها الأولى بالانجازات المختلفة في كافة الميادين.
 
شملت مشاريع الدولة الرسولية الطب والتعليم والزراعة والتعدين، بالإضافة إلى شق الطرق والآبار، دون أن تنسى التجارة والصناعة، ولم تحتكر بأفرادها الأرباح المباشرة لتلك التنمية، قبل أن تمس حياة اليمني مباشرة، ويستفيد منها. الأمر الذي ربما استغربه، فلم تكن حياته من قبل تعني إلا مقدار "الجزية" المقرر عليه دفعها!..
 
فقد شرع فقة "الإمامة"، باتاحة رفع السلاح لمن يرى في نفسه الأحقية، الإخلال بالنظام والانقلاب عليه، لتتحول "الحماية الشخصية" لأي "إمام" أولوية وهدف رئيسي، إن لم يكن الوحيد، سواء كان عبر بناء المزيد من الحصون، أم بتجديد أساليب سلب الأموال. فمازال "ذو البيعة" يتأرجح بين خشيته من إنقلاب "طامع" جديد، أو ثورة غاضبة من أصحاب الأرض!.
 
طالما كان إغلاق المدارس، النتيجة الحتمية لفرض الإمامة سيطرتها على منطقة ما. فقد كان العلم ولازال هاجسها الأول. على عكس ما قام به الرسوليون، الذين كان منهم العالم والشاعر وصاحب الرأي والمؤلف، ولم تنحصر علومهم في"كيفية إثبات نقاء سلالة البطنين!"، بل شملت العديد من العلوم المختلفة، حتى عد كتاب "المعتمد في الطب" للملك الأشرف الرسولي معجزة في ذلك العصر.
 
تدرك العقول النافذة، أن الدولة لم تكن تمثل سوى جابي أموال لمحيط حُرم من تلقي العلم. فلن يبالي لسقوط دولته أو بقاءها، على عكس المجتمع المستنير الذي يسعى أفراده لدعم الكيان الذي يجمعهم. لذلك تسابق أمراء بني رسول على بناء المدارس الدينية والعلمية، وليست مدرسة "المظفرية" أو "الأشرفية" سوى نموذج من عشرات المدارس التي تمت بناءها في تلك الفترة.
 
مازالت الدولة تجزل العطاء للعلماء، حتى أصبحت اليمن منارة ذلك العصر وقِبلة علماؤه الذين قرروا الإستقرار فيها، كأبن حجر العسقلاني، والمؤرخ الفاسي، والفيروز أبادي صاحب "القاموس المحيط" الذي لا يزال قبره ماثلاً حتى اليوم في مدينة زبيد..
 
يمكننا القول بأن اليمني، وعبر مئات السنين من جثوم "الإمامة" على أرضه، كان قد استبدل مشاعره السوية، التي منحت له إبان الدول اليمنية القديمة، بهراء "الأوامر الإلهية" التي راحت "الإمامة" تسوق لها حتى تجعله مواطن من الدرجة الثانية. ربما وجد في انضمامه لجيوش الخلافات الإسلامية حلا لذلك الاضطراب، خاصة مع ترحيب قادة تلك الجيوش بالجندي اليمني ذو السمعة الطيبة. فافراغ الطاقة البشرية من أرض ترى في نفسها مجداً سالفاً سيكون مناسباً لكبح جماحها مستقبلاً.
 
لعل تلك القوة البشرية مازالت حتى اليوم تمثل جموحاً للبعض يجب تحجيمه! 
 
إلا أن الدولة الرسولية أعادت لليمني المكانة التي يستحقها، باصرارها على تكرار فروض ولائها لأرض اليمن، سواء بكسب ود القبائل ومحاولة مصاهرتها، أم عبر عدالة منح الإمتيازات لكافة أبناء الأرض دون ان تميز بينهم وبين أمراء بني رسول، ليشكل ذلك الولاء الجمعي أقوى جيوش المنطقة في ذلك الوقت.
  
لا يبني "الإنتماء" دولة وحسب، بل يعكس لها صورة لائقة بين الأمم. فها هم مسلمي الصين يشكون للملك المظفر التعسف والاضطهاد الذي يلاقونه ضد تأديتهم شعائرهم الدينية، وقد وجدوا في صيت دولته القوية ما يحميهم، ليجد المظفر أن تلك الشكوى تعنيه بحكم "انتماءه" للدين الإسلامي، فقام بإرسال مبعوثه لحاكم الصين الذي استجاب لمطالب الملك القوي دون تردد..
 
انصافاً للتاريخ، لم تغلق الإمامة الأبواب على نفسها دائماً، حتى حال استغنائها عن استقدام مقاتلين ضد أصحاب الأرض، مازالت تتخابر مع الغريب وتمد يدها لأي مستعمر، في سبيل إسقاط رفضهم لها!..
 
يمكننا إعتبار الدولة الرسولية بسنواتها التي امتدت ٢٣٢ عاماً، أقوى الدول اليمنية واطولها حكماً منذ تلاشي الدولة الحميرية، قبل أن تتكالب عليها شروط الإنهيار التقليدية، والتي شملت بالطبع تربص الإئمة وثوراتهم المتعددة، لكنها تركت نموذجاً "لدولة سوية"، جاهدت "الإمامة" لمحوه وعدم تكراره!..
 
فرق هائل بين مشاعر "الانتماء"، التي تحرك في المرء واجب دعم منظومة أو فكرة أو كيان والالتزام بحمايتها، وبين "حب التملك" الذي يصنفه علماء النفس بالمرض النفسي، الذي يرتبط على الأغلب بانفصام الشخصية، أو الهلوسات والاضطرابات الوهمية، والذي جعل من الإمامة، ومنتموها، يقاتلون من أجل ابقاء اليمن كياناً ضعيفاً، يرجون هلاكه على أن يستقل بنفسه ويكون لسواهم..

الجمعة، 10 أبريل 2020

الصعلوك النبيل!.. طالما أصابني الإحباط نتيجة برود أبني تجاه الأحداث السياسة، فمنذ إسقاط صنعاء وهو على ثقة بأن سيطرة الإنقلاب ستتجاوز السنوات، مؤكداً بأن لحظة انطلاق الحرب الفعلية ستبدأ حال شعور "كل يمني" بأذى مباشر وشخصي من قبل الميليشيا!.. ربما شعرت بالحنق بعد مرور السنوات وصدق تنبؤاته حتى تفاجات به نهاراً يسالني على عجل، وبأجفان لم تذق طعم النوم، عن خط سير المعارك والوقت المتوقع لتحرير صنعاء؟!، لم يطل بي الأمر حتى علمت أن متابعته للمسلسل الإسباني "لا كاسا دي بابيل" كان سبب لهفته، فلن تحوي خزائن بنوك "ميليشيا الحوثي" الكثير للاستيلاء عليها!.. ندرك سريعاً أن محاولات نصح "المراهقين" ليست سوى وقت مهدور، فالجميع على ما يبدو يصر على خوض تجربته متجرداً من الحكمة، قد يكون من الأجدى لك مشاركة إبنك اهتماماته عن سعي فاشل لمنحه خلاصة تجاربك، لذلك بدأت في متابعة المسلسل!.. من الصعب عليك عدم منح تعاطفك مع أبطال الشاشات، لهفتك وأنت تبحث معهم عن مخارج، فلصوص الشاشات لا يبدون كاولئك الذين تعرفنا عليهم خلال سنوات الحرب.. "لا بدّ أن يتم تهريب الأموال دون وقوع أخطاء!" هتفت وأنا اتابع الأحداث في قمة توتري، قبل ان أقف في ركن المخزن المظلم برفقة "البروفيسور" _بطل المسلسل ورئيس العصابة_ مترقبة نتيجة مفاضلته بين "حبيبته" و"مبادئه"، حتى تذكرت لصاً آخر خاض تجربة مماثلة، واتصف بذات الأخلاق النبيلة تقريباً!.. "عروة ابن الورد"، الصعلوك العربي الذي عرفه التاريخ قبل أن يبدأ في قراءة قصة "روبن هود" الخيالية!.. يُعرف "الصعلوك" لغوياً بأنه الفقير الذي لا يملك المال لتحمل أعباء المعيشة، إلا أن اللفظ تجاوز معناه اللغوي وصار يطلق على اللص قاطع الطريق، وقد امتهن الكثيرين عبر التاريخ "الصعلكه" طريقة للحياة، إلا أن العامة اخذت تنظر إلى "فئة" منهم بإيجابية كما يُنظر اليوم "للبروفيسور" بطل المسلسل!!. سنت القوانين ليتم كسرها حين لا تلائم المجتمع، لكن الرغبة في التغيير لا تمنح إلا لقلة، تجدهم دائماً يتقدمون خطوة عن غيرهم باعتراضاتهم، ونقدهم وربما بمبالغة البعض بسن قوانين خاصة بهم، وعلى ما يبدو أن بعض صعاليك العصر الجاهلي أخذوا على عاتقهم ذلك الدور !.. يقول أبو خراش الهذلي : أرد شجاع البطن قد تعلمينه،، وأوثر غيري من عيالك بالطعم.. مخافة أن أحيا برغم وذلة،، وللموت خير من حياة على رغم.. سار "عروة الصعاليك" _كما كان يطلق عليه_ وفق مبدأ "الهذلي"، يسرق ويغير على قوافل الأغنياء ليوزعها على الفقراء، "لن تكون السرقة عملاً شاذاً حين يعاد تقسيم المال بما يضمن توزيع الحياة العادل!!"، ربما ردد "إبن الورد" ذلك.. "صعلوك نبيل" لم يقبل باختلال موازين المجتمع فحاول تغييرها بطريقته الخاصة، إلا أن التمايز بين الفقر والغنى لم يكن على الأرجح سبب اختيار حياة الصعاليك الوحيد، فمازالت قبيلته تعايره بنسب والدته لقبيلة " نهد" التابعة لقضاعة _الوضيعة_كما رأوها، لتلازمة عقدة النقص التي أقرها وهو يقول: وما بي من عار إخال علمته،، سوى أن اخوالي اذا نسبوا نهد !!.. تطالبنا المجتمعات بالسلوك السوي بينما تضع أمامنا كافة العراقيل لنحيد عنه!!.. وجد صناع المسلسل أن ادراج أغنية "بيلا تشاو" ستكون مناسبة لإضفاء بعض المشروعية على عمليات السطو، لن يجدوا أفضل من إعادة ذكرى المقاومة الإيطالية ضد النازيين خلال الحرب العالمية الأولى، ذات الطريقة التي استخدمها من قبلهم "عروة ابن الورد" وهو يمدح الصعاليك بابياته: لحي الله صعلوكاً إذا جن ليلـه،، مصافي المشاش آلفاً كل مجزر.. يعد الغنى من دهره كـل لـيلة،، أصاب قراها من صديق ميسر.. ولله صعلوك صفيحة وجـهـه،، كضوء شهاب القابس المتنـور!.. لا بدّ وأن ابن الورد شعر بالتوتر والقلق لحظة تخطيطه لعملية سطو أو اغارة كبقية الصعاليك، وضع الخسائر التي قد تنال منه ورفاقه أمامه قبل مقارنتها بالارباح التي سيحصل عليها حال نجاحه، إلا أن ما ميز "عروة الصعاليك" عن غيره، اختياره الدقيق لضحاياه، فلم تكن السرقة _لسليل العائلة الثرية_ هدفاً بحد ذاتها بقدر ما وجد فيها عقاب يستحقه الأشد بخلاً والاقسى قلباً..    إني امرؤٌ عانى إنائي شركة،، وأنت امـرؤ عانى إناؤك واحـد.. أتهزأ مني أن سمنتَ، وأن ترى،، بجسمي شحوب الحق، والحق جاهد.. أفرق جسمي في جسوم كـثـيرة،، وأحسُ قراح الماء، والماء بارد.. ما زالت الغارات وتوزيعه للمال تأخذ صداها، ليذيع صيت الرجل ويصبح _في مقاييس عصرنا_ من المشاهير، حتى إذا أبصره الفقراء تجمهروا حوله هاتفين :"أيا أبا الصعاليك أغثنا!"، قبل أن يقف أمام منحنى مهم في حياته!!. كان كاتب مسلسل "لا كاسا دي بابيل" رؤوفاً بالبروفسير وضم حبيبته لأفراد عصابته، فلم يكن الجمهور ليرضى بكسر قلبه، لكن "عروة ابن الورد" وللأسف لم يملك تلك الرفاهية، ودفع ثمن إقحامه عاطفته بعمله!.. على الرغم من كون "سلمى" "سبية" عروة بحكم اغارته على قبيلتها واغتنامه إياها، إلا أنها لم تخفي عشقها له حتى قيل "إنها أرغب الناس فيه!"، ليبادلها الرجل المشاعر ولا يجد ضيراً في تحقيق رغبتها بزيارة مكة والتقاء أهلها أثناء موسم الحج!.. بالطبع كان يدرك نوعية المطالب التي سيطرحها اهل سلمى عليه، فسبي الحرائر في مجتمعه عار وانتقاص من الصعب أن يمحى، إلا أن ثقته في محبة سلمى جعلته يقبل المخاطرة، وحدث ما توقع فعلا، وعرض أهلها استردادها الى الديار ومن ثم تقدمه لخطبتها كأمراة حرة، "يتطلب الحب بعض التضحيات!"، ربما فكر عروة ابن الورد قبل أن يوافق بثقة مشترطاً تخيير الفتاة!.. لك أن تتخيل الموسيقى التصويرية التي تفاجأ بها "عروة الصعاليك" لحظة وقوف سلمى بينه وبين أهلها وهي تهتف بحزم :" ياعروة، والله ماأعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خيرٍ منك وأغض طرفاً وأقل فحشاً وأجود يداً وأحمى لحقيقة؛ وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت "أمة" عروة كذا وكذا إلا سمعته؛ ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم!".. لعل شاعرنا وضع كل الخيارات امامه عدى ذلك الذي تنقلب فيه سلمى عليه وترفضه بذلك الشكل المهين، لقد منحها كل شيء، لم يكن ليبخل عليها، فما الذي حدث لتفضل هجره؟!، ألم تكن لتسمع هتافات الفقراء له، الابتسامة المرتعشة التي يجبر كبار القوم على توجيهها له رغم ما يحملون من ضغينة، كان للرجل مكانتة رغم كونه صعلوكاً!.. "صعلوكاً!"، توقف عروة ابن الورد كثيرا أمام لقبه، فبرغم أخلاقه النبيلة وفساد مجتمعه لم يسقط عنه لقب الصعلوك، لا يمنح فساد المجتمع الحق بقوننة فساد افراده ومشرعيته، يبقى اللص لصاً وان ارتدى أخلاق الفرسان، وتلك الاخلاق لم تكن لتغنى "سلمى" عن أهم ما يمكن للمرء امتلاكه، "الحرية!، التي أفسدت مخططات ابن الورد وذهبت بغاراته وقلبه ادراج الريح، بعد أن ظن بأن ملء البطون أو حتى القلوب كانت لتجعل الفتاة تتجاهل حريتها مع وفرة خيارها!!.. لعله أدرك لحظتها ان سلمى امتلكت شجاعة لم يكن يملكها، رفضت قيود عبودية كان هو قد استسلم لها حين تقبل عنصرية قبيلته ضد اخواله، ربما كان قبوله بلقب الصعلوك هو الهروب الذي ارتضاه مقابل تخلصه من شعور الانكسار أمام اهله، هل دار ذلك في ذهن ابن الورد، لا ادري حقاً، فقد أخفى الرجل مشاعره بمهارة واخذ يتمتم معللا هجران حبيبته بقوله :" سقوني الخمر، ثم كنفوني!".. على الأغلب أن ميليشيا الحوثي تحمل ذات الطمأنينة التي خُدع بها ابن الورد، مازالت تركن لاستسلام الشعب الخاضع تحت سيطرتها دون أدنى مؤشرات لبوادر غضب وثورة، جاهلين أن الصمت ليس سوى تحين لفرص حظيت سلمى باحداها، مع فارق أن صعاليك هذا العصر لم يحملوا من ابن الورد سوى لقب مفرغ من أخلاقه، ولن يستحقوا على الأغلب مغادرة مسالمة كالتي منحتها سلمى للصعلوك النبيل!.. ليس من السهل أن يتنازل المرء عن حريته أو يتجاهل حاجته لها، انتظارها فقط هي ما يجعل اليمني بعد سنوات من الخيبات يتلهف على أخبار الجيش الوطني وانباء تقدمه، يطرق سمعه جيداً لعله يتيقن من مصداقية عبارة " بدء العد العكسي" التي أخذت تتردد مبشرة بعودة "دولة" مازالت _ رغم فسادها_ الضمان الذي سيسمح لخيال أبناءنا ببعض التجاوزات والعبث.. حتى اللحظة لم أنتهي من المسلسل، كما لم تنتهي الحرب منا، لكني اثق بأن المنطق هو من سيكتب كلا النهايتين!.. نور ناجي .. 

السبت، 4 أبريل 2020


العالم الثائر (٢)



نور ناجي

بلغ صيت أبو الحسن الهمداني الآفاق، وتحول في "مكة" من طالب علم إلى "علّامة" مرموق يسعى من سبقه من علماء لاستشارته والاستزادة منه، انشغل بمناقشة رسائل أرسطو وحقق فيها وقد ركن إلى ثبات خرائط اليمن كما كانت الأخبار تتوارد إليه، ليعود إلى صعدة بعد سبع سنوات ويدرك أن ثبات يقينه "بالجاذبية الأرضية" التي كان أول من تحدث عنها، لا يماثل أرض وطنه الموشك على الانزلاق.

أخذ الهمداني يراقب ما حوله وقد تأكد له بأن القناعة التي يدعيها "الناصر ابن الرسي" بحكم نجران وعسير وولاء قبيلة همدان لم يكن سوى ذراً للرماد، وحماية لمشروع "الإمامة" طويل المدى الذي أخذ يستكمل بناءه، ولن يضيره وغيره من الأئمة الانتظار حتى خلق تربة خصبة تصلح لتنفيذ طموحاتهم.

"لن تسيطر على شعب حتى تفرض نفسك على معتقداته وتطمس ميراثه ما أمكنك!"، كانت تلك ولا زالت القاعدة الأولى للإمامة، لذلك أرسل الناصر أتباعه إلى كافة أنحاء اليمن بحجة نشر العلم الذي اقتصر على التعاليم المناسبة لا هواء الإمامة والمبالغة في تمجيد آل البيت حتى التقديس، ولم يكتفي بذلك، فمازال دعاته يعمدون إلى تشويه كل ما يرتبط بالهوية اليمنية وميراث الأجداد "الكفار الجاحدين"، في سبيل التخلص من إرثهم الثقيل، وتقرباً "لرب" أعتمد الإمامة وسيطاً.

استمر الناصر كوالده بتفضيل أقاربه ومقاتليه القادمين من بلاد الفرس حتى تمكنوا من مفاصل القضاء والحكم على كافة مناطق حكمه حاجباً ثقته عن اليمني، الذي لم يلقى انصافاً أمام مظالم غُض البصر عنها، ليتساءل أن كانت بعيدة عن أوامر "الإمام" المباشرة.

لم يكن الحسن الهمداني أول من استشعر اختلال الموازين أثر التغييرات التي أخذت تجري على قدم وساق، إلا أن مكانته العلمية والاجتماعية منحته تأثيراً على من حوله، واخذت غلبته في السجالات التي دارت بينه وبين دعاة الأئمة صدى واسعاً.

ومازالت الانتقادات تلاحق الهمداني، وترى أنه خاض معركة لم يكن لمثله أن يخوضها، دون أن تسقط معطيات صراعه على أبيات شعره أو حتى تجردها من قوانين الوقت، على الرغم من حقيقة اجترار اليمني لذات المأساة حتى يومنا الحالي، لم يهجو الهمداني سلالة بعينها، ولم يميز عرق عن آخر - راضياً مختارا -، بل أرغم على خوض حرب قاسية أمام عصابة من الغزاة لا تبغي سلب أرضه وحسب، بل إجباره على العمل فيها اجيراً.

في العادة، لا تكترث "الإمامة" للمعارضين، لا بأس لديها في تجاهلهم حتى يسكن غبار انتقاداتهم، إلا أن "دامغة الهمداني" لم تكن لتثير الغبار وحسب:

الا يا دار لولا تنطقينا
فإنا سائلون ومخبرونا
بما قد غالنا من بعد هند
وماذا من هواها قد لقينا

مشاركة الوجع أشد ما يوحد الصفوف، وتنفي "استدعاء حمية" كما يتهم البعض، إلا أن ذلك لم يمنع الإمامة من اتخاذ قرارها بإخراس الرجل الذي أخذت الجموع تلتف حوله، وحيث أن الناصر لم يكن ليتفوق على الهمداني بالحجة أمر بسجنه دون أن يدرك تبعات فعله حتى هبت قبيلة همدان دفاعاً عن ابنها، ليغادر "الهمداني الحر" صعدة، ويتجه نحو مسقط رأسه وقد حمل على عاتقه تنبيه اليعفريين بالخطر المحيق بهم، قبل أن يتفاجأ بالردود الباردة والمتهاونة بذلك الصراع.

لا يمكننا وصف "أسعد اليعفري" بالساذج الذي قد تنطلي عليه ألاعيب الناصر، إلا أن السياسة تجبر أصحابها على المفاضلة بين ما يتاح من خيارات، وكما يدرك "حاكم صنعاء" مدى القوة التي يبدو عليها أمام ناظريه، يدرك أيضاً أن ميراث هزيمته على القرامطة تركت فيه هواجس انقضاض نسخة جديدة من "أبن الفضل".

لم يكن اليعفري ليسمح بمغامرة جديدة أو يركن على ولاء غير محدود أمام سجل الاغتيالات التي وصمت تاريخ عائلته القريب، ففضل تأجيل حرب محتملة مع "إمامة تحبو" حتى ينتهي من تثبيت حكمه في مذيخرة، وبين القبائل المتذمرة من كلفة ولاءه للخلافة العباسية.

ضجيج لم يكن ينقصه سوى اتهامات الناصر للهمداني بالتعرض "للنبي" وللدين الإسلامي، التهمة المُعدة سلفاً من قبل "الإمامة" نحو كافة معارضيها.

لا بد أن اليعفري وقف طويلاً أمام الرسائل المحرضة ضد الهمداني وهو مدرك تماماً لبراءته، إلا أن استمرار الحرب الكلامية بين "العدنانيين والقحطانيين" لن تبقى شفهية للأبد، خاصة مع انضمام "الأبناء" لصفوف الطبرستانبين وقد وجدوا فيهم صلة نسب ستنصرهم بعد رفضهم الاندماج بين أهل اليمن.

لذلك كان سجن الهمداني الخيار الأنسب للأمير اليعفري عن فتح جبهة حرب "عرقية، دينية" ستستنزف ما تبقي له من قوة!، لم تكن الإمامة عبر تاريخها لتجد أفضل من "عدو" يستهين بها ويرى أن درء الإشكالات القريبة منه أكثر أهمية من الانشغال بخطرها.

استمر الهمداني في سجنه بالقدر الذي وجده أمير صنعاء مناسباً لإخماد الفتنة، قبل أن يفرج عنه ويطلب منه العفو ونسيان ما حدث، إلا أن الهمداني ابى أن يبقى في صنعاء واتجه نحو ريدة (بلاد اخواله).

يرى الكثير من المؤرخين في اعتزال الهمداني شعورا بالندم تجاه خوضه معارك سياسية بعيدة عن قدره الذي كتب له، أو ربما دلت على خيبة وغضب تجاه أسعد اليعفري، إلا أن أبيات الرثاء التي ألقاها شاعرنا على الأمير بعد وفاته كانت أرق من أن تحمل لوماً وان لمحت عتاب قاسي اختص به نفسه نتيجة غفلته عن خطر "تضارب رؤى الاخوة"، الذي لم يكلف الإمامة سوى بعض الدسائس، إلا أن ذلك لم يكن كافيا ليشعر الرجل بالهزيمة، فها هو يتقوقع على نفسه في فصل جديد من فصول معركته.

إن لم يستشعر اليعفري خطر الإمامة سيأتي من يدركها يوما، ولا ينبغي أن يواجهها بلا أسلحة، "من قال بعدم نجاعة سلاح الحبر؟!" قالها العالم الجليل وهو يوثق على الاوراق ما حمله من علم، ويغرس بين ذلك العلم جذور اليمني أمام محاولة الإمامة المستميتة لنزعها عنه.

ومنها "الجوهرتين العتيقتين" في الكيمياء، "سرائر الحكمة"، "أخبار الاوفياء"، " كتاب الإبل"، كتاب "اسماء الشهور والأيام"، ومخطوطات كثيرة، أهمها "صفة جزيرة العرب، والاكليل"، ربما لا ترجع أهمية "صفة جزيرة العرب" إلى ذكره كروية الأرض ورسم خطوط الطول والعرض فيه وحسب، بل لتوثيقه خريطة اليمن والقبائل التي عاشت عليها في معرض شرحه لجغرافية الجزيرة العربية، كما وضع في "الاكليل" خارطة مفصلة لانساب القبائل اليمنية سواء من خلال ما نقله ممن سبقه من علماء، أو لقدرته على قراءة الخط المسند.

يبدو أن التاريخ لا يكتب من خلال المنتصرين كما يقال، فقد يكون الأقل قوة هو الأشد حاجة للتدوين خاصة وقد أدرك أن فصول معركته لم تنتهي بعد وسيتطلب النصر فيها سنوات اطول من عمره، إلا أن ما أراده الهمداني وصل إلينا منقوصاً، فكما اختفى كل أثر لقبره اختفت الكثير من كلماته وكتبه.

لعل ارفف المكاتب لا تهتم بمعايير الحقيقة بقدر ما تحمل ميراث من لم يضع سلاحه يوماً ولم يركن للسلم، ولم تضع الإمامة أسلحتها أمام الهمداني مطلقاً.

حتى بعد مرور مئات السنين مازال يخيفهم ويشعرهم بالضعف، وليس اختفاء "نسخ الاكليل" من إحدى مطابع "بيروت" في سبعينيات القرن الماضي، سوى استكمالاً لحالة تأهب تثقل كواهلهم، فمعركة الإمامة ضد الحسن ابن احمد ابن يعقوب الهمداني مازالت مستمرة وإن تغافل احفاده حيناً عنها، سجال لم يتوقف، لا هي تبغي الانصياع لقوانين الأرض ومنطقها ولم يقبل اليمني بالجور الذي تريد فرضه عليه.

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...