الأربعاء، 30 يناير 2019

انفاس مترس.. 

قضم شفته السفلى بأسنانه، وانتزع نسلة الجلد الجافة باظافره قبل أن يصوب نظره نحو قرص الشمس، " لقد أصبح الجو مناسباً الآن "، انتزع شاله من على رأسه بحرص محافظاً على شكله ووضعه على الأرض. 

كانت المساحة المتاحة له ضيقة، إلا أنه وجدها واسعة بعد أن فارقه المقاتل الأخير، لم يعد يطالب بآخر يشاركه الحراسة، من المزعج فقدانهم وبقائه حياً في كل مرة، اشعره ذلك الأمر بالذنب وكأنه بادل قدره المحتمل باقدار من رافقه. 

اعتاد مع مرور الأيام مرافقة أنفاسه وتردد صداها على جدران المترس الباردة، ليس وحيدا على أي حال، فهنالك ذلك الوغد المتأهب في الجهة المقابلة والذي ينتظر إتمام مهمته ولن يسمح له بالظفر بها، ليس انتقاما لمن سبقه، يعتقد أنه فقد أغلب مشاعره لم يعد لفظ الغضب، الحزن أو الوجع والانتقام يمثل له أكثر من أحرف مجهولة المعنى، ولكنه سينهي عمله على إيه حال!!.

 امسك قطعة الخشب ووضع عليها الشال واسندها على الجدار القصير بينما تأكد من تثبيت بندقيته، لقد أمسى خبيراً في الحركة في أضيق الحدود. مالت الشمس التي كانت تحدق به بعنف قبل ساعات لتتوضح الروية أمامه، لن يتأخر كما سيعتقد اللاعب الآخر، نعم أنه الآن في لعبة، المنتصر هو من سيستمر في التنفس ويبدو أنه بارع فيها وليست أنفاس المترس حوله سوى دليله على ذلك.. 

رفع القطعة الخشبية بعد عبر ببصره عبر منظاره، سيظهر الآن، لابد أن يظهر لقد استنفذ صبره خلال اليومين الماضيين، وسيجره اليوم لفخه، من السخرية المرة أن اللاعب المتمرس في ذلك الجبل أمسى أقرب الناس اليه، مع مرور الأيام ومراقبتهما بعضهما البعض صار يعرف تحركاته طريقة تفكيره وأوقات نومه وصحوه، حتى هواجسه امست أقرب اليه من الجدران التي كانت بيته قبل عدة أشهر !.. 

ذكريات بعيدة عنه وكأنها لشخص لا يمت له بصلة، حتى المكالمات ذات الصوت المتحشرج بدت له وكأنها تخرج من حنجرة شخص لا يعرفه، شعر بوخزة في قلبه حين تذكر نهاية آخر حديث، لقد كان جافاً قاسياً لا يعرف لماذا؟!، ولكنه حدث، سيحاول الاتصال الليلة، لعل الشبكة تسمح له بالتقاط عدة دقائق..

 " أين ذهب ذلك الوغد؟!، أنني هنا تعال واربح اللعبة"، همس قبل أن يسمع الرنين، هل يجيب؟!، لو أن الهاتف ينتظر قليلاً، لكنه توقف قبل أن يقرر، زفر بحنق وهو يشدد قبضة كفه على البندقية ويسلط نظره عبر الكوة الصغيرة للجهة المقابلة للجبل..

 تجاهل طرقات قلبه العنيفة التي تحاول اختراق سجن صدره والخروج منها، وهو ينظر عبر زجاج العدسة المكبرة، ما الذي جاء بهذا الشجن في وقت عمله الرسمي، ربما لأن شروط هذه الجدران قاسية أكثر مما يجب، ولا تسمح باوقات استراحة أو اجازات، "تباً لهذا المترس وشروطه"، قالها وهو يرفع مصيدة الشال.. 

عاد الرنين مرة أخرى، ليبتسم، ابتسم كل شيء فيه، حتى الفوهة الباردة اغمضت جفنها بسعادة، من حقه أن يرتاح بضع دقائق،" لن يذهب المترس بعيداً ولن يغادر الوغد الآخر مكانه طالما أنا باقِ"، ألقى بالشال وارخى إصبعه عن الزناد بهدوء وأدار رقبته ليتقدم صوب الهاتف، قبل أن تنطلق في الجو رصاصة قناص رابحة..

 تابعت الجدران صدى الأنفاس الاخيرة بضحكة خفيفة ماكرة، بينما استمر الهاتف بالرنين .. 

نور ناجي .. 

السبت، 26 يناير 2019

العارفين بالله

    السبت, 26 يناير, 2019 - 08:56 مساءً

  نور ناجي 

  انضمت لطاولتنا بعد أن جمعتنا لهجات اليمن تحت سقف مقهى بعيد عن صنعاء. لم أكن قد تشرفت من قبل بمعرفة أحد من سكان الساحل الغربي المشهورين بدماثة اخلاقهم ومودتهم، فشعرت بحدسي الذي "يخيب أحياناً" أنها ستكون بداية معرفة لطيفة.   

" ترى ما أحوال اليمن؟!"، تساءلت، لتتغير ملامحها ويُستبدل الارتياح الذي كان بادياً عليها بحزن عميق: "وكيف يكون حالها بعد أن هدم السلفيون أضرحة (التحيتا) بكل جلافة وقسوة"..

   للأسف، لا زلنا ندفع ثمن الجهل حتى هذه اللحظة، حين يشمر أحدهم على ساعديه ليضرب به تلك الأحجار؛ لا يحطم مجرد أضرحة وقبور لا تناسب معتقداته، بل يمحو جزء من هويته، تاريخه المتوارث عبر مئات وألاف السنين.   

وضعت يدي على كتفها: "لا ينبغي السكوت عن مثل هذه الجرائم، فتدمير الآثار يعني العالم كافة، كأرث انساني يجب الحفاظ عليه وصيانته". راقبت تأثر قسمات وجهها، قبل أن أكمل: "لقد وقعت محافظة الحديدة وسكانها للأسف بين سنديان الانقلاب وأخطاء تحالف الشرعية من جهة، وبين مطرقة حسابات الأمم المتحدة، التي يعلم الله وحده مآل مسارها، وما نسمعه عن معاناتها يفوق القدرة على التحمل. ليكن الله في عون أهلنا فيها".  

 بدى لي من نظراتها الزائغة ودمعتها المترقرقة أني أخطأت في تذكيرها بتلك المأساة. خاصة مع الهزات المتشنجة لرقبتها والتي بدى أنها تطرد فكرة ما وترفض تصديقها. حلقت العيون المتعاطفة حولها، قبل أن تنتفض فجأة من على مقعدها: "تخيلوا، لم تسلم القباب منهم" !! دهشت لجزعها الذي يندب نفسه أعلى تلة الاحجار الميتة، فأي كانت قيمتها الأثرية، لا يمكن قياسها بمعاناة الإنسان الذي ينزف على أرض اليمن منذ أربع سنوات.   

ألجمت لسان الشك الذي انتابني تجاهها، وثبت بصري عليها كمحقق شرطة خبير وأنا أكمل حروفي ببطء مقصود: "ليست القباب وحسب، لقد تم إدانة الميليشيا، بسرقة مخطوطات لكتب تاريخية وعلمية ونفائس نادرة من مكتبة مدينة زبيد"..    

هزت رأسها مستنكرة: "ما نفع المخطوطات وقد تم تحطيم الأضرحة على رأس ساكنيها". هتفت إحداهن بسذاجة: "هل يعقل أن تصل المعاناة باليمني ليتخذ من القبور ملجأ له؟ أي حال وصلنا إليه؟!". قاطعتها إشارة نافية: "لا أقصد الاحياء، بل أعني ساكنيها من العارفين بالله".  

 "لم يعد من هواء نقي !!"، قلت في نفسي وأنا ارفع كفي التي تربت على كتفها، لن اتمادى في تعاطفي لأتجاوز التاريخ المسفوك، أو هدم قبور على أصحابها بغض النظر عن مدى معرفتهم بالله.   تركت هرائها، إلا من لفظ "العارفين بالله"، وأخذت في تفحصه بين يدي. لم أكن بحاجة لقاموس أو حصص إضافية في اللغة العربية لتعريفه. على الرغم من أننا امسينا في ظل زمن علقت معاييره رأساً على عقب كخفافيش، لكني رميت عليها سؤالي: "ومن هم العارفين بالله؟!" ..  

 لم تفهم مغزى سؤالي، وردت بتفاخر: "أبناء الرسول وعترته، من الملمين بعلوم الحقائق والأسرار، الذين خص الله وجدانهم بنوره، وكشف لهم الحُجب، ليروا ما لا يراه الآخرين" ..  

 يجعلك لفظ "العارف بالله"، تفكر مليا في من يستحقه: هل من المنصف إطلاقه على من قضى عمره زاهدا متعبدا "لنفسه" في ركن زاوية ظليلة، معتمدا على بيض وسمن المريد الذي أسلم نفسه لتجهيله واغراقه بالتنبؤات المفجعة؟!..  

 أم أن الأولى به الفلاح اليمني الذي تسربت أيامه وهو يعرف الله عبر شق الأرض واحيائها؛ ابتهالاته التي رافقت حساباته الدقيقة لمواسم الري؛ تقطيعه للجبال بأظافره ليبني الحصون والقلاع التي لا تلبث أن تهدم أو تحتل بيد عارف آخر !!..  

 هل بالغنا في أوهامنا حين رسمنا صورة لمواطن يعرف الله عبر قوانينه العادلة؛ أخطأنا حين حلمنا بوطن يجمع الناس دون تفرقة بين الاعراق أن وجدت؛ بقوانين يستند عليها الفقير دون خشية جور أصحاب النفوذ؛ مساحة آمنة تقبل المتدين بكل مذاهبه ومعتقداته، وإن خلعها؛ يصافح ابن الجبل فيها من سكن التهائم والوديان بكل حب ومودة وبلا ضغائن ..  

 برغم صدق تلك الأحلام، إلا أن الواقع واجهنا بوهم سلالة ترى في نفسها أفضلية ممنوحة من السماء؛ ترفع السلاح بكل بشاعة أمام من يقف ضد مصالحها حيناً؛ وتستدير حال انكشافها وانكسارها لتدخل من باب خلفي بابتسامات زلقة وبركات مزيفة عارفة بالله !!..  

 أعلم بأني سأتهم بالعنصرية والتعدي على المذاهب، وقد تلحق بي تهمة التكفير الرائجة هذه الأيام، لكني لم أعد أبالي. أنا ابنة وطن أنهكته الحرب، جارت عليه حتى لم تترك فيه شبراً الا ونزف ميراث كراهية ثقيلة..  

  وكل ما أخشاه؛ عجزنا عن نزع أسباب تلك الكراهية، والقاء حمولتها على أجيال قادمة لا ذنب لها سوى سذاجتنا ..  

الأحد، 20 يناير 2019

تماسيح مفيدة ..

حاولت تجاهل طول الطابور لإكمال المعاملة التي لا أعلم لم بداتها من الأساس قبل أن يقف امامي، ويهتف :" الأستاذة نور؟!"، للأسف كانت ذاكرتي قد أفرغت الكثير مما لم يعد يلزمها وغدت الوجوه عديمة الملامح مناسبة لي أكثر..

حدقت في الزغب الخفيف الذي بدأ في خربشته، لم يكن غريب، لقد رأيته من قبل، أين ومتى ذلك هو السؤال؟! .. قاطع الفتى أفكاري :" أنا محمد؟!"، يملك هذا " المحمد " الكثير من الثقة لظنه بأني ساتذكره مع انتهاء نطقه لحروف إسمه، هناك الكثير من "محمد" على سطح هذا الكوكب، فأيهم أنت؟!، قالت له عيناي الحائرة دون انطق واحرجه بنسياني، استوعب " محمد" حيرتي واجابني وهو يشير إلى ظهر كفه مبتسماً :" لقد أصبح جلدي خشناً كما اتفقنا، ماذا عنك؟!، هل قبل التمساح خاصتك بالمبادلة، أم أنه تسلل كما كنتِ تخشي !"..

 تاملت الفتى مطولاً، أي تمساح هذا الذي كنت املكه، ربيت الكلاب والقطط والعصافير واقمت ذات يوم صداقة قوية مع معزة قبل أن يقرر والدي أن مذاقها سيكون ألذ من فلسفتها، وقد كان محقاً في ذلك، لكن التماسيح لم تكن على قائمة صداقاتي أو طعامي، يبدو أني وقعت في مأزق مع هذا الفتي ويجب أن اتخلص منه..

بدأت انيابي في البروز قبل أن تنقذني ذاكرتي من لحظة توحش وشيكة!!..
 لا أصدق ما أرى، أنه محمد، الطالب المنزوي دائماً في ركن الصف الثاني/ب، تنبهت حينها أني لم أكن منحية لأسمع حديثه الهامس كالماضي، بل كادت رقبتي أن تكسر وأنا أحدق به!!..

لهذا امقت الاطفال ومؤشر نموهم الذي يذكرنا دوماً أن عجلة الزمن لا تتوقف، هل كبرنا لهذه الدرجة ؟!"، لم أحاول خداع طالبي القديم بعبارات زائفة عن الحكمة التي يكتسبها الإنسان عبر تقدمه بالعمر، والحياة التي تفتح لنا في كل يوم آفاق متجددة، وسألته عن الأهم :" كيف حالك يا محمد، هل تمكنت من السيطرة على مملكتك؟!"..

لمملكة محمد حكاية مميزة، ابتدأت في أولى سنواتي في التدريس وانتهت مع انتقالي لمدرسة أشد بؤساً، كنت أراقب محمد من بعيد، استفزني انزوائه، واثار حنقي بنظرات الرعب التي يطلقها مع اقتراب أي غريب تجاهه، لماذا لا يشارك الاطفال في اللعب؟!، أو يدافع عن نفسه في مواجهة الأشرار من سنه، حتى في سن الطفولة ستجد ذلك الذي يحاول الأضرار بك دون أن تعرف السبب الحقيقي وراء ذلك، يكفي أننا بشر لنتسلى بالايذاء..

اقتربت من الطفل محمد ذلك العام، لم يكن كما توقعت يتيماً، كان والده قد تخلى عنه بعد عجزه عن تحمل مشاق الحياة، وغادر ببساطة، لا نحتاج لكثير من الجهد لممارسة الخذلان، مجرد خلعنا لقلوبنا يفي بالغرض..

لم أجد طريقة إجابة لاسئلة محمد التي كانت تطل من ذبول عينيه بين الحين والآخر، ولم امنحه الوعود بعودة قريبة لوالده، أنه أفضل حال من دونه، لكن لا نفع من أخباره بذلك..

حتى جاء ذلك النهار، كان الفصل فارغاً في وقت الفسحة المدرسية وكنت قد قررت الانضمام لمحمد والانزواء معه تعبيرا عن رفضي للحصص الإضافية التي أجبرت عليها..

سالني محمد عن سر دموعي، فأجبته :" أنه " التمساح حنفي "، مازال مصمم على رفض صفقتي معه، برغم عدالتها !"، ابتلع محمد دهشته وسالني ليتأكد أن كان ما سمعه صحيحاً:" من هو حنفي؟!"، زفرت تنهيدة حارة قبل شرح معاناتي مع حنفي " التمساح خاصتي" الذي التقطته من الشوارع وبنيت له منزل خاص في فناء داري..

هتفت بحرقة وأنا أحكم قبضة كفي :" تخيل يا محمد لقد رفض دروس رقص البالية_ التي لا اجيدها_ مقابل منحي جلده السميك حين يقوم باستبداله بعد عدة أشهر من محلات الجلود"، تلفت بين جدران الفصل الفارغ بحذر، قبل أن انحني واكمل بصوت هامس:" من المهم امتلاكنا لجلود سميكة، ستكون مفيدة في رحلاتنا للمريخ، أو خلال الغوص العميق لمركز الأرض، البعض يفضل أن يكون جلده مصنوع من حيوان وحيد القرن، لكن صديقة لي جربت جلد التماسح فوجدته مناسب وبسعر زهيد"..

قاطعني محمد مستنكراً :" لا تبدل التماسيح جلودها، كما لا يمكننا تربيتها في المنازل أو حتى السفر بها!" لعله كان على حق في العالم الذي يحياه لكن العوالم التي تحيا فينا لها قواعد وقوانين مختلفة، " اغمض عينيك"، قلت له بعد أن اجلسته على حجري، وسألته :" أي عالم تريد؟! ، لك الحرية في صنع ما تريد في خيالك، جرب ذلك ولن تخسر شيء"..

شعرت بتململه، لكني لم أتنازل عن الولوج إلى روحه، لن أجد فرصة سانحة أكثر من تلك اللحظة، همس بعد دقائق حائرة :" أريد مملكة كبيرة، لا يخطىء فيها الاطفال، لا يخيفهم الظلام، ولا يبكيهم الجوع، اطفال مهذبين لا يتسببوا برحيل أحد عنهم"!!..

أعادت لي الذكرى غصتها، لم يكن والد محمد شرير ، لكنه العجز من جره من قدميه ليبتعد، جميعنا يتمكن العجز منه، يغوينا بسحر المغادرة، ونتمنى في قرارة انفسنا الانصياع له، إلا أن اثقالنا أشد سطوة من اغراءه ..

عدت لمحمد الذي تمدد طوله بفعل الزمن، يبدو من ابتسامته المضيئة أن مملكته مازالت قائمة في خياله ولم تتوقف عن الغناء، زرع فيها حبات الفاصوليا التي تمناها وحبس من يحاول ايذاءه في سجون ثمار اليقطين، ما زال يملك الوقت ليعثر على ملكة تساعده في إدارة المملكة ومطالبها الكثيرة، سيجدها حتماً، وحتى ذلك الوقت لن يتوقف عن الهمس للضفادع أو مبادلة جلود التماسيح كما يبدو..

ودعته وانا اتابع خطواته التي تختفي في الزحام دون أن اجيبه عن تساوله، لم أحاول خلع قفازي لأتأكد من جلدي، لقد استعضت مبكراً عن صفقتي القديمة، اكتفيت بالقليل من الجلد القاسي احطت به روحي، بعد أن اتضح لي أنها الأجدى بالحماية..

نور ناجي 

السبت، 19 يناير 2019

نزلاء متوقعين..  

السبت, 19 يناير, 2019 - 08:04 مساءً 

 نور ناجي 

 تفاجئك الحياة بتصاريفها!!..
 لم يخطر على بال أحد أن " منى " بضفيرتها المعلقة أعلى رأسها، وملامح البلطجة التي كانت شعار مرحلة صراعات طفولتها مع بقية "جهال" الحارة، ستكون ذات يوم "مستشارة نفسية".

   كانت قد انتهت قبل أشهر من دراستها الجامعية لتزاول عمل تطوعي في إحدى المستشفيات، على الرغم من الحركة الرافضة للطب النفسي والتي وجدت أن تجاهله أفضل الحلول؛ إلا أن عدد نزلاء مستشفيات صنعاء النفسية والمترددين على عياداتها في ازدياد، لعل الواقع الذي تحياه المدينة واليمن عموماً قصر المسافة بين المواطن وبين فقدان توازن عقله!..   

استمعت لصوتها الذي أصبح رقيقاً عبر الهاتف وهي تحكي عن نوعية الحياة التي يحياها المريض النفسي. الوحدة التي يعانيها البعض، والملاذ العازل الذي يجده الآخر في مساحتها الضيقة حتى ‏يصل‏ ‏لمرحلة‏ ‏استعادة‏ ‏فهم‏ ‏لغة‏ ‏الحياة‏. قاطعتها أكثر من مرة في فضول لرصد ما فعلته الحرب بشباب اليمن الذي أجبر على استبدال يومياته البسيطة بنيران الجبهات المرعبة؛ ما النتائج التي أصابت نفسيته، وما الذي قد يقوله العائدون منها؟!، لينطفئ فضولي سريعاً، فلم تمر عليها إحدى تلك الحالات حتى الآن، ولا يوجد بين نزلاء المستشفى أطفال أو شباب ممن اقتيدوا للجبهات، ربما لأنهم عادةً لا يرجعون !!. 

  من المدهش أن العوامل الاجتماعية والتي تزايدت وتيرتها في زمن الحرب أخذت نصيب الأسد في قائمة الضغوطات التي تواجه الفرد، كمشاكل الطلاق والانفصال، التسلط بكافة أشكاله، الاعتداءات الجسدية، الحالة الاقتصادية المتردية والبطالة، لعل الأزمات العاطفية نالت مركزا متقدماً لم أكن لأتوقع أن يحصل عليه مجتمع يعاني من حرب مستمرة منذ أربع سنوات!!.. 

  لم يكن ما سردته من قصص النزلاء بحاجة لإضافات روائية أو حبكات درامية، فصدمات الواقع تغني عن الخيال وتنافسه بامتياز، إلا أني لم أكن أبحث عن منبع للقصص، بقدر ما كنت أعاقب نفسي بالتفتيش عن نتائج الحرب الغير مباشرة بين النزلاء، لأصل إلى أن لا حرب بين أسوار المستشفى، الجميع يتجنبها رغم خسائرهم فيها..   

"لا أحد يريد الكلام عنها، وكأنها لا تعنيهم، لقد استجدى غالبيتهم حاجتهم الماسة للعواطف، التي يرون أنها ستريحهم وتزيح عنهم العناء في حال حصلوا عليها!!"، قالت "منى" قبل أن تصمت..   

يبدو أن طبيعة الإنسان ترفض الحديث عن الحروب بكل شرورها، تمنحها بعض من الوقت قبل أن تتجاوزها، ليكمل المرء حياته التي لم تكن جذابة بطبيعة الحال لكنها تعطيه فرصة البحث عن ما يراه أولويات تثير في نفسه مخاوف فقدانها!!..   

هواجسنا التي لا نتوقف عنها وتبين ما نحن عليه فعلاً: هل كان أدائي جيدا أمام من حولي؟، يجب أن يكون تصرفي القادم أفضل حتى لا أغضب والدي؟!، لقد كنت استحق من الإعجاب أكثر مما منح للآخر!، أتمنى لو أنني نلت ذلك القدر من المحبة!، هل نلت رضى أختي أمي زوجي؟!، لا يمكنني التوقف عن التفكير بها!، لا أعرف ما الذي قد أفعله دونه؟!..  

 الإنسان كائن لا يستطيع أن يخلو من العواطف، ذلك الزئير الذي قد يعلو حتى لا نستطيع كتمانه ونطلق عليه اختصارا " مشاعر"، امتلك أكبر مجرمي التاريخ بجوار عشقهم للسلطة قلوباً متسائلة وجزعة أيضاً، لعل الحب والسلطة هما المسيطران على جل اهتماماتنا، وكل ما عدى ذلك من مشاكل يمكن أرجائها وتدبرها في وقت آخر.. 

  لا أظن أننا بالبراءة التي نتصورها، فكلا مطلبينا كانا وللأسف سبب انطلاقة أولى الجرائم والحروب، أرتكب لأجلهما كافة الحماقات والبطولات والتضحيات، يقودنا هذا إلى إعادة التفكير في الإنسان البسيط المسالم الذي يعبر جوارنا على الرصيف أو نعتقد أنه يحيا فينا، فقليل من الضغط قد يجعله مجرم حرب أو مشروع نزيل متوقع في أقرب مستشفى نفسي..   

" كلنا ذلك المشروع" وصلت لتلك الخاطرة قبل أن يعود تدفق حديث " منى " لسمعي، لم أكن لأخشى عليها وإن بدت لي اللطافة في صوتها، فهي كأي إنسان تملك عوامل إشعال الحروب داخلها، كما أن تاريخها الحافل في الحارة يمكنه السيطرة على أي نيران قد يشعلها عاقل أو مريض، وسيمكنها من إطفائها بمنتهى السهولة.  

الثلاثاء، 15 يناير 2019

شواهد قبور.. 

هل من المفترض إدعاء خشيتي من زيارة المقابر، ربما سأكون سيدة أكثر رقة ونعومة أمام المحيطين بي إن وضعت على وجهي قناع مزيف يرتعد جوار أسوارها، لكني سأكون كاذبة في تلك الحالة، برغم تجنب مشاعر الحنين أمام قبريّ والديّ، إلا أني استمتع بزيارة المقابر المجهولة واقضي متجولة بين شواهدها لحظات لطيفة، ربما كانت الأفضل.. 

لم يكن للاسباب الدينية أية علاقة بهوايتي، لم استدعي الدموع يوماً، ولم أحاول استجداء " دعوة " برشوة غير مدفوعة الثمن على بقايا إنسان إستمرت أجزاءه بالموت على مدى سنوات عمره، فالقبور المرصوصة أمامك لا تحوي شيء مهم، وما توارى تحتها لم يعد ينتمي إلى الأحياء بقدر انتماءه للتراب!!.. 

قد يشدني فضول الطفولة أحياناً لمحاولة إصغاء تفضي للصمت، لا قصص أو حكايات سيمررها لك صاحب القبر مهما أطلت استراقك للسمع، فالنهايات ليست خفية: "عاشوا دون أن يدركوا سر معاناتهم!".. 

كانت ومازالت شواهد القبور مغرية جداً بالنسبة لي، افتش بلهفة بين صورها والعبارات التي كتبت عليها بشغف لذيذ، يسري بي كلما لمحت الحجارة المثبتة فوق جماجم الموتى، أنت تقف أمام محاولة الخلود الأخيرة، الأبدية التي ابتدعها الإنسان في حالة يأسه قبل أن يداهمه الموت.. 

أعتقد أن ما يختاره شخص كعبارة على شاهد قبره هي النبذة التعريفية والانطباع الذي تمنى أن يؤخذ عنه، والذي لا يختلف كثيراً عن اقتباسات الاحياء التي يُعَرّفون بها أنفسهم على صفحاتهم الالكترونية، ستجد بعد بحث قصير أنها لا تخرج غالباً عن كلمات متراصة ليست بعيدة عن ذات "المعاناة المملة" والتي لا يفهم الإنسان سر خوضه لها !!.. 

أخذ مني تساؤلي في ما سيكتب على قبري الكثير، وأنا أحاول اختراع عبارة لم يسبقني إليها أحد، حتى تنبهت فجأة بأن لا حق لي فعلا في اختيارها، لا أعتقد بأن من سيقوم بدفني ذات يوم سيمنحني تلك الحرية.. 

فقررت التراجع عن حقي المسلوب والانسحاب من معركة خاسرة لا محالة، وتركت شاهد قبري فارغاً واستعضت عن حرماني بخيال خصب يمنح ما يراه مناسب لشواهد قبور مصرة على التجول في الحياة رغم تساقط أجزائها تحت قدميها..

نور ناجي

السبت، 12 يناير 2019

سحابة سمراء..  
السبت, 12 يناير, 2019 - 09:02 مساءً 

 نور ناجي  

 لم يكن الربيع العربي الانفجارة الأولى لثورات هذا القرن. فقد سبقته الكثير من الثورات التي اتخذت ألوان ومسميات متعددة، وقع أغلبها في المناطق التي كانت تقع تحت مظلة الاتحاد السوفيتي السابق، قبل أن تنطلق مجدداً في الشرق الأوسط "وربيعها"، الذي لم يختلف في المنهجية عن الثورات السابقة، لتتساءل بعد مرور هذه السنوات، إن كانت تلك الثورات خطت بقلم واحد، أم أن تشابهها كان محض صدفة؟!.. 

  لا أحد يستطيع إنكار الاستبداد الذي قامت ضده تلك الثورات، ليشعر الغالبية بوجوب التغيير الذي لم يكن يرفضه سوى المستفيدين من بقاء تلك الانظمة الاستبدادية- القمعية في الغالب- والتي لا أمل مرجو يلوح في انفاقها المظلمة.   إلا أن الانتقادات الداخلية الموجهة لها دون كلل، على مدى عشرات السنوات من أصوات المعارضة الداخلية، وارتباط مصالحها بدول العالم ومنظماته، جعلها تضطر للسماح بحرية نقابية وتعددية حزبية شكلية، لم تكن مرضية بأي حال من الأحوال. 

  تم التمهيد لتلك الثورات عبر سيناريو متقارب، واحداث منسوخة من بعضها البعض، حتى انحرف المسار فجأة، واختير لكل ثورة قدر مغاير للأخرى في الشكل، وبمضمون لا اختلاف فيه، بعد أن اختفت احلام شبابها الطامح كفقاعة صابون، ليفضي مسار تلك الثورات إلى واقع أسوأ مما كانت عليه بلدانهم قبلها.

   من الطبيعي أن يكون الحديث عن الثورات مبعثاً للسخرية، في زمن اختصرت فيه طبول الحرب كل ما يمكن أن يقال على معظم البلدان التي وقعت عليها. إلا أن ارتفاع وتيرة الاضطرابات الحادثة في السودان الشقيق، فاجأت الجميع، ببشائر "ثورة جديدة". ربما، من يعلم؟!   

مظاهرات وهتافات مشابهة لما ردده الربيع العربي. لكنها قد تختلف عنها في عدم وجود جهة منظمة محددة يمكن أن يلقى عليها مسؤولية اندلاع تلك الأحداث. بالإضافة لتجاهل إعلامي عمَّ كافة منابره- حتى تلك التي كانت تهتف باسم اسقاط النظام- يشير لعدم رضى المحيط الإقليمي أو الدولي عنها. على عكس ما حدث في الثورات السابقة. مما يجعلنا نلقي تساؤلا مهما: هل أدرك العالم أخطار الثورات فحذرها، أم أن مصالحه ليست متوافقة مع ما يحدث في السودان؟!   

لم يتضح بعد إن كنا نقف أمام ثورة شعبية حقيقية، لا أطراف خارجية مساهمة في تحريكها، أم أن ما يدور في السودان  مجرد سحابة سمراء ثائرة، ستأخذ  وقتها وتمر؟!    

ما يثير الدهشة والاستنكار، هو عودة منظري الثورات لمزاولة أعمالهم مع تلك المظاهرات؛ إما بترفع الثوري الذي اعتاد إلقاء النصائح المناسبة لما يراه والمتوافقة مع مصلحته، أو بتحذير وترهيب الحكيم المتخوف من سعي الشعب السوداني لغرق جديد في المنطقة؟!   

هتافات مؤيدة ومعارضة، وتراشق لم تخلو منه مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يعير أي من الطرفين الاهتمام بما يريده المواطن السوداني حقاً، ومدى معاناته؟!   

لا بأس من كونك ثورياً ساعياً للنضال. ومن المستحسن الخوف المبرر على أرض شقيقة، لم يلقى منها العربي واليمني على وجه الخصوص سوى الترحيب والمودة. إلا أنك بكل ما تحمل من أماني طيبة أو محاولات استرزاق جديدة، لم تسأل المواطن السوداني عن خياره ورغبته!! ولم تجهد نفسك في البحث إن كان الملل من دفعه للانتفاضة، أم أن الجور على مدى سنوات طويلة هو من جعله يلقي عنه ثياب الهدوء والصبر الذي اشتهر بارتدائه.   

دعوا أهل السودان لشعابهم وخيارهم الذي يرجونه. وليخوضوا تجاربهم سلباً أو إيجابا. ولا تتعاملوا معهم كناقصي أهلية غيبّوا عما دار في العالم خلال السنوات الماضية.   
من الأجدى بكل ثائر أو حكيم أن يلقي القليل من تفكيره على مشاكل بلاده الحقيقية التي- وإن أنكر- كان يدا صغيرة ساهمت بما آلت إليه.    

الخميس، 10 يناير 2019

بينوكيو.. 

أجمل ما في أبطال الروايات أنهم" وهم "، مجرد خيال ساحر ، بأمكاننا تشكيله ونحته كما نهوى، حتى نقترب منهم ونعيد قرائتهم أكثر من مرة، يزول السحر وتظهر لنا حقيقتهم الواقعية، وهل من شيء أسواء من الواقع؟!.. 

كان "بينوكيو" _ اللعبة الخشبية التي نُفخت فيها الحياة ذات ليلة مقمرة أثر أمنية ودعوة صادقة لصانعها _ أكثر الشخصيات التي عشقتها صغيرة، وشعرت بلهفتها المجنونة وهي تسعى للبحث عن طريقة تحيل خشبها اللامع لواقع حقيقي، كنت حينها ما أزال ساذجة فالمساحة الضيقة لجماجم للاطفال تعجزهم عن التفكير المنطقي!.. 

أمر منطقي أن استوعب بعد هذه السنوات البطل الخفي للرواية، الكاتب الذي جلس طويلاً خلف الأوراق القلقة، لم أبحث عنه ولم يشدني الفضول لمعرفة إسمه حتى الآن، سيزورني حتماً ذات يوم، وسأكتفي بالشغف الذي ما زال يأسرني وأنا اقفز بخيالي بين ما اتذكره من الأحداث التي سطرها.. 

أكاد اجزم بأنه حين أمسك قلمه لم يكن يبحث لبطله عن جلد إنسان، لكن أرقام المبيعات اضطرته لاخفاء حلمه بأن نصبح جميعاً "بينوكيو"، لكن البطل الخشبي الساذج لم يفهم سر صانعه، واستمات حتى النهاية لاستبدال غلافه الخشبي بجلد آخر بشري الملمس.. 

هل أعتقد " بيونيكيو" بأن جلودنا أكثر نعومة من اخشابه، أو ظن بأن امتلاكنا لها سيزيد من مشاعرنا؟!، ليست الجلود من تجعلنا نختلف عنك يا عزيزي، فبرغم إفتقاد غالبيتنا حساسية الشعور الا اننا نكتوي من النار وتصيب مساماتنا لسعاتها.. 

لعل "بيونيكيو" لم يكن بتلك السذاجة التي اظنها، واستطاع بحيلة ماكرة أن يتمكن منا جميعاً، وحاك هو أحداث لن تصيب صاحبه بالملل الذي قد يجعله يتخلص منه في نهاية القصة، فأجمل الحكايات على الاطلاق هي تلك التي يتحول كاتبها لمجرم يقتات من دماء أبطاله !!.. 

كان الخلاص هي الحجة التي بررت "لبينوكيو" خداعه واقنعت كاتبه بتحقيق أمنية التحول التي ينشدها، فحين تتحول قطعة الخشب لإنسان لن تخرج خالية الوفاض، سيكون " بينوكيو " في منتهى الكمال حين يتخلص من أنفه الفاضح دون خشية انكشاف كذبه، فأنوف البشر تبقى على حالها، ولا تزداد طولاً حين تكذب!!.. 

كذباتنا أشبه بفقاعات صابون، جميلة الشكل بملمس لا يتحمل الخدش، ناعمة لطيفة تنعكس عليها أشعة الشمس فتحيلها مزيج من ألوان قوس قزح ممتعة، نتابعها ونحن نظن أن احتفالاتها لن تنقطع، حتى تضجر فتغادرنا دون أن تخلف ورأها أي أثر مطلقاً!!.. 

أفشيكم سراً،،، 
أنا الآن اكذب، أمرر الكذبة وكلي ثقة من بقاء أنفي على حاله، فالكذبات تخلف ندبات موجعة، لا تزول بعد اكتوائنا بها، بل تبقى دخان حزين ينبعث من مساماتنا، كما تفعل النار " ببينوكيو"، وأكثر.. 

نور ناجي

السبت، 5 يناير 2019

بالة" مسافرة ..  السبت, 05 يناير, 2019 - 09:13 مساءً نور ناجي  
كانت "البالة" هي ما وصلني من دندنة السائق الذي قرر تجاهل المسافرين، المتبلدة ابصارهم على ذرات الصحراء المحيطة بهم دون أن يعرفوا ما تكنه؛ هل كانت مرحبة بوجودهم أم عازفة حتى عن متابعة العجلات التي تعبر درب سفرهم؟!   

جاء اشتقاق لفظ "البالة" من "البال"، أي "الحال أو الشأن". وهي نوع من أنواع الغناء التراثي اليمني الذي يعود لخاطر، يرتجله الشاعر من خياله في السهرات المسائية والمناسبات المتعددة، ليردده وراءه فريق أشبه بالكورال بتنسيق مبدع.    

لم تكن البالة حجراً على الرجال في مناطق اليمن المختلفة. بل تسابقت النسوة لارتدائه دون تهيئة مسبقة في مساء الريف الجميل، حين كان متعافياً.   

من حسن الحظ، أن السائق فَضَل الصمت بعد لحظات، وأناب مسجل العربة عنه لإكمال "بالته" على لسان المطرب "علي عبدالله السمة"، وكلمات الشاعر الرقيق "مطهر الارياني". ارتاحت جميع الأطراف لهذا الخيار واستمتعت بمطلع الأغنية بهدوء:   والليلة البال ما للنسمة السارية،، 
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية.. 
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية،، 
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية..  

 تنهدت متألمة، وأنا أتابع اللون الاصفر المسافر بي؛ ترى من أي شاطئ أفريقي وقف خيال الشاعر لتأتيه النفحة الشرقية الكاذية؟ وهل أسقطت تلك النسائم دمعاته، أم أنها ابقتها معلقة حتى يعبر المضيق الضيق ويصل ميناء رجوعه؟!   
والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد،، 
ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد.. 
قلبي بوادي «بنا» و«أبين» ووادي «زبيد»،، 
هايم وروحي أسير الغربة القاسية..   

مازالت الغربة الوجع الازلي المتجدد في قلب كل يمني وعبر العصور. لا تعلم حقاً إن كان ذلك قدرنا، أم أنه "جين" يسري في دمائنا؟ قد تكون لعنة حلت علينا وعلى أرضنا التي تبادلنا معها الظلم يوماً، نجور عليها بقسوة وهي مستسلمة خانعة في انتظار اللحظة التي تأخذ بثأرها منا، وهي تباعدنا عن اسفارنا بتجنٍ موجع؟   

أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا،، 
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت أنا.. 
عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية،، 
ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش.. 
جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش،، 
بكر غبش: أين رايح: قال: أرض الحبش.. 
وسار، واليوم قالوا حالته ناهيه..   

لقد شكى آباؤنا وقالوا الكثير. وما استعصى عليهم تدوينه، باحوا به بغناء موجوع. إلا أننا وببساطة لم نصغي، وعاتبناهم دون أن نعطي الشاب المنكوب بالطاعون، وفناء الأهل، بعض ما منحنا به أنفسنا من أعذار. بينما اخيه الهارب من "عسكر الجن"، مازال في أرض الحبشة ومطارات العالم منتظرا خلاصه!!  

 بكرت مثله مهاجر والظفر في البكر،،
 وكان زادي من اللقمة ريالين حجر..
 وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر،،
 والبن للتاجر المحظوظ والطاغية!!..  

 قد تكون "البالة"، هي الأخرى، غناء متأهب للسفر. تشعر بذلك خلال تنقلاتها بين المقامات وايقاعاتها، المماثلة لتنقل بطل الملحمة المغناة بين "دكة" وداخل "عصب" في أرض الصومال. 

  سدت حلوق المستمعين بغصة حزينة. غصة شعب أنهكه الحزن والتعب منذ مئات السنين، حتى سود الفحم جلودهم "مثلما المدخنة". من المؤلم أن تعلم أنك فرد ضمن جموع توارثت الحزن، ولم تستطع تغيير قدرها، لتبقى خيرات بلدها حكرا مقتسم بين متاجرين وطغاة.   

لا تعلم حقاً؛ هل جارت الأيام على هذا الشعب أن أننا ضحايا أنفسنا؟ لم أجد شعب يعيد اجترار تاريخه بهذا التطابق المذهل! تبقى الجغرافيا ثابته لملايين السنين، لا خلاف عليها، لكن إعادة المشاهد بذات الأدوار، دون أي تحريف لحبكة أو نهاية، تجعلك تبحث عن السبب الحقيقي لمثل تلك الإعادات الهزلية!   

لم تعد المساحة الصفراء حيادية، كما كانت قبل لحظات. شعرت بذلك وأنا غارقة بين الحان "البالة" القريبة من نهايتها، حين بدأ بحر الرمال يمتد ليطبق على العربة المسافرة.   

 لعل شجن المغني قد أصابها، فرفضت استنزاف احزانها أو حمل أوزاره "بدمع يبكي الشجر والحجر"، وأغلقت الطريق بكل عناد أمام هاربين جدد، علها تعيدهم إلى صوابهم، بعد أن قبضت على دمعات غربتهم المبكرة وهي ترجو عودة قريبة:   
غنيت في غربتي «يا الله لا هنتنا» 
ومزق الشوق روحي في لهيب الضنى
 راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا
 يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية   

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...