السبت، 29 ديسمبر 2018

المقارنة الظالمة  السبت, 29 ديسمبر, 2018 - 09:04 مساءً نور ناجي  مازالت محاولة إسقاط فترة حكم "ملوك الطوائف" في الأندلس على الشرق الأوسط "الوطن العربي سابقاً"، تجري على قدم وساق، بمقارنة جائرة لا عدالة فيها..   يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل: "إن استحضار الماضي مثل استحضار الأرواح؛ غير مقنع في أبسط الأحوال". وهذا ما يفعله منتقدي هذا العصر ومتصيدي أشباح الماضي بلذة فاحشة. لا أدعي أن منطقتنا العربية تتربع قائمة الدول الحضارية المزدهرة، لكن لا بأس إن احتللنا المركز الثاني أو الثالث!!.   يدرك دارس التاريخ أن تجزئة الأندلس كانت نتيجة سقوط الدولة الأموية في العام ???هجرية، واستيلاء بقايا وميراث أمراء الاندلس على مناطق نفوذهم، معتمدين على قوة عائلاتهم وولاء جيوشهم الصغيرة، حتى تحولت الدولة القديمة إلى كونتينات شخصية، سخر منهم الشاعر بقوله:   مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْض أَنْدَلُـسٍ،، أَسْمَاءُ مُعْتَمِـدٍ فيهـا وَمُعْتَضِـدِ. أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا،، كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صُولةَ الأَسَد.   لا وجه للتشابه بين تجزئة بلاد الاندلس، وبين ما أبدعه كل من السادة الأفاضل "سايكس ورفيقه بيكو"، في الاتفاقية التي تمت بداية القرن الماضي بحسابات دقيقة، كان للمسطرة فيها السيطرة والسيادة على الخرائط دون محاباة لجغرافية الأرض وإرادة الشعوب.   أشهر كل "أمير طائفة" سلاحه على أطراف حدوده؛ إما لصد غزو، أو للهجوم على جيش من الرفقاء القدامى، ليواجه به "الشك"- الوقود الحي لتلك العداوات. وهذا ما لم يحدث في وقتنا الحالي، سوى في حالات نادرة، دفعت الدول- التي أقدمت عليها- ثمن غالي افقدها كيانها، ليتعلم منها بقية حكامنا درس قيم، ملخصه: أن غزو دولة ما بسلاح صريح، خطيئة لا تغتفر.   للتخلص من خطر دولة ما، ليس عليك سوى إثارة البلبلة والقلاقل فيها، بأنفاق سخي دون الحاجة لفتح جبهات، لن يكون بوسعك اغلاقها، ولسد ذرائع عقوبات دولية لن تنزلق من بنودها ببساطة.   كان أكثر ما يؤخذ على ملوك الطوائف، مهادنتهم للخارج، لدرجة أنهم دفعوا الجزية صاغرين. ولم يكن الأشقر الفونسو (ملك قشتالة) سوى صورة لجابي وقح، لم يراعي الذوق، ولم يتحلى بالقليل من الأدب، وهو يرسل عماله لاستلام أموال جزيته. تجرأ البعض على مقاومته ورفض مشيئته المنهكة للخزائن، ليزاحوا عن عروشهم الورقية، تأديباً على مثل تلك المحاولات.   لا يمكننا الجزم باختفاء ملك قشتالة، وتواري خصلات شعره الأشقر في حاضرنا. لكن المؤكد لدى الجميع أن حكامنا لا يقبلون بتاتاً استقبال عامل جباية أو مسؤول ضرائب عابر للقارات على أراضيهم. فقد تطور العصر لتتولى التحويلات البنكية السهلة تلك المهام. كما أن السفر السياحي لقشتالة الجديدة، غذى أماني الحكام، لصداها الإعلامي، ومردودها الذي سيصب حتماً في مصلحة بقائهم على سدة الحكم لفترة أطول مما قدر لهم. كما سيمنح سيدة العالم الجديد الكثير من المليارات لصناعة الأسلحة المفيدة في قمع الشعوب الجشعة للكراسي.   ما يثير استغرابك، وأنت تقلب في صفحات ممالك الاندلس، الاثنان والعشرون، ازدهار الثقافة والعلم فيها بشكل غير مسبوق. وكأن امراؤها بحثوا عن شرعية تسند ادعاءاتهم الهزيلة بأحقية الحكم، ليكون العلم والثقافة هو القوة التي نجحت في اسنادهم لفترة ما؛ توسعت تجارة الكتب في جميع الممالك، وافتتحت الجامعات والمكتبات، وكان لتعداد العلماء واحاطتهم بالأمير مقياساً لرشاد حكمه.   يجعلنا مثل هذا الأمر، أن ندقق النظر في أوضاعنا الحالية، ونحاول الحكم عليها بإنصاف. هل يحتاج حكامنا فعلاً لأصحاب شهادات عليا، افترشوا الأرصفة لتعزيز ممالكهم وجمهورياتهم؟! منذ متى كان لصاحب الفكر رأي أكثر سدادا من حاشية الحاكم ذو الخبرة؟!   كان حكامنا- ومازالوا- أقوى من أي حركة ثقافية وفكرية تدعم اهليتهم واحقيتهم لكراسيهم. وإن كانت الكلمة مهمة لتكون محصورة بإعلام ممول يشيد بمأثورات الزعيم القائد والملك المفدى.   "والله لإن أرعى جمال ابن تاشفين، أحب إليَّ من أن أرعى خنازير لاذفونش. ووالله لا أعيد الأندلس ديار كفر، فتقوم عليَّ لعنة المسلمين على المنابر، كما قامت على غيري". كانت تلك عبارة المعتمد بن عباد، أمام رفض ملوك الطوائف الاستعانة بـ"يوسف بن تاشفين"، ضد ألفونسو "ملك قشتالة". لم يكن خوفهم من فراغ، فما أن تمت هزيمة الفونسوا على يد يوسف إبن تاشفين، حتى أدار ظهره بشكل غريب لأوروبا المفتوحة أمامه، واستدار ليبتلع ممالك الاندلس، واحدة تلو الأخرى، مانحاً حكامنا حِكمة لم تهرم ابدا.   صالحوا على أساسها كل "قشتالي"، وهادنوه، وحاربوا كل مغامر يرى في نفسه يوسف ابن تاشفين، وقضوا عليه. من الخير أن يبقوا ضعفاء على كراسيهم، على أن تستبدلهم بعديمي خبرة، وتترك جلالتهم على قوارع الطرق!.   حتى هذه النقطة، لن يكون استحضار الماضي سوى استدعاء لأشباحه، وهي تذكرنا بسخرية قاتمة؛ بأن واقعنا أشد قتامة مما عاشته قديماً.    فهل سيكون البحث عن مألات ما سيكون أكثر جدوى؟! أم أنه سيأخذنا إلى نقطة، يحاول الجميع الهروب من تفكيرها المحبط؟! 

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

ثورة النساء .. 

ساد الهدوء على غير العادة، اتخذت صديقاتي أماكنهن وعلى رؤوسهن سحابة داكنة يمتد لسان برقها مزمجراً بين الفينة والأخرى.. طفح الكيل، بدأ الغضب المكبوت منذ سنوات بالكشف عن نفسه.. 
ماذا عساي أن أفعل!!، 
استشعرت من زفرات أنفاسهن المتسارعة إيقاع طبول وصخب ثورة قادمة!!..

 أنها الثورة إذن.. ثورة تهب بشائرها من عقر داري!!.. 

لم يكن الرجل مستهدفاً بالنسبة لي، لا أحمل تجاهه أي ضغينة، بل أني في أوقات كثيرة أشعر بنوع من الشفقة عليه، لكني ومن وسط " الديوان المكظوم" لن أشق الصف وسأساند بنات جنسي قلباً وقالباً وقد اجتمعن ولأول مرة على رأي واحد، لن أكون حجر العثرة أمام أي حركة تنفخ في أرواحهن الأمل في ظل هذا الجمود والاستسلام القاتل الذي نال من الأحياء، ليكن الرجل ضحيتنا الأولى، على أن لا نتوقف حتى يتحرر الوطن بأكمله بأذن الله. 

بما أن الثورة بحاجة " لقائد ملهم " قررت أن أكونه، لن يخلو موقعي الجديد من امتيازات مغرية ومكافآت أحسد عليها، فأنا من سأستلم ثمن النصر بسخاءً، بالإضافة إلى ميزة رفعي وهتافاتي على الأكتاف!!.. 
لن تجد نون النسوة المحيطة بي من هي أكثر تفرغاً وبذل للنفس والجهد مثلي، أعدهن بالتضحية المّرة في سبيل "القيادة"، أقصد في سبيل إنجاح الثورة..

 ترددت أغنية السيدة أم كلثوم على جنبات عقلي وفي خضم أفكاري الثورية بصوتها القوي الذي أستسغته متأخراً:
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً 
كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي 
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَهرِ 
كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّى.. 

ألهبت الأبيات حواسي وحماسي وأنا استعد للاستماع لشكواهن بقلم ونوتة ملاحظات صفراء صغيرة.. 
( الخيانة، التسلط ، الطغيان)، المثلث المتساوي الاوجاع الذي يطبق على صديقاتي اليوم، وعلى النساء كل يوم.. 

اقتربت من أولى الثائرات، لافتتح الجلسة واسمح لها ببوح "شك محموم"!، بالطبع كان زوجها هو المجرم الذي ألقت عليه عريضة اتهاماتها، أمسكت لساني الثرثار لافسح للثائرة مجال واسع تسرد اوجاعها عليه بإسهاب، أنا الأخرى بحاجة للغضب ولن أجد أكثر من شكوى زوجة غيورة ما يشعله بي، يحتاج أي مرشح لمنصب ثوري لرياح شديدة تبعث الروح في شرايين ثورته.. 

لن أواسيها بعبارتي الجوفاء التي على شاكلة : تعريف ( الخيانة ) مطابق لحالة توصيف ( الإرهاب الدولي)، التي لم يتفق عليها بعد، تختلف الخيانة بين الرجل والمرأة كما يختلف تعريف الإرهاب بين دولة واخرى، كل له حساباته ومعاييره التي تتناسب مع احتياجاته ومصالحة. 

إن كان حمل الهاتف جريمة وخيانة، فالجميع مشترك في الحملقة الجوفاء الباحثةً عن حياة وهمية أكثر جمالاً مما نعيشه، ولإحراز نصر يتيم في أحد العابه الالكترونيه.. 

استمرت (كمنجات) أم كلثوم بالعزف بينما انتقلت لثائرة أخرى تجز على أسنانها بغل، بدأت حديثها عن الحرب المستعرة بينها وبين شقيقها بسبب عباءتها، حاولت محو خيالي الذي صور لي " أذن " شقيقها المتسلط معلقة بين شفتيها وهي توزع علينا أوراق القات الذي قامت بسرقته من " العلاقية" بكل نجاح.. 

أنصت لثورة حروفها التي أجرت الدماء في عروقي بانتشاء وأنا ادون ملاحظاتي :" لا يعني إرتفاع عباءة المرأة في الشارع بضعة سنتيمترات بالضرورة، نيتها عرض نوعية قماش بنطالها، هناك تفسير أكثر منطقية وأقرب للواقع _ لمن يحاول الفهم_، على سبيل المثال لا الحصر، الخوف من التعثر بين الازقة المغبرة المليئة بأكياس القمامة سبب وجيه لمثل ذلك التصرف"..

 انهيت تسجيل الملاحظات واعتدلت لانتقل للثائرة الأخيرة، المنزوية بصمت مع هاتفها، هزت رأسها بإشارة مختصرة تفيد بموافقتها على كل ما نقوله دون أن تلتفت إلى قائدها الذي هو أنا!!.. 
هل استمعت حقاً لحوارنا؟!.. 
لم أتجراء على الطلب منها وبشكل حازم وضع هاتفها جانباً خلال اجتماعنا الخطير، ففتحتي أنفها التي تتوسع وتنكمش وهي تنفث لعناتها على مجهول خلف شاشتها لا تنبىء بخير!.. 

على القائد الذكي التساهل في بعض المواقف بديلا على الصدام، كما عليه العمل وبمنتهى السرعة على إنشاء جهاز استخباراتي قوي لمعرفة " المجهول " الذي تتحدث معه !!.. 

أمسكت بالنوتة أراجع ما فيها، لألقي بأول خطبي العصماء، تذكرت عبارة سمعتها في مكان لا أذكره (بأن الرجل يسرق طاقة المرأة الايجابية)، دونتها سريعاً حتى لا انساها، نعم انهم يسرقون طاقتنا، يسرقوننا بعيون ( مبهرره) ولن نستطيع بعد فقدانها استبدالها بأخرى ذات كفاءة، تختلف قوة المرأة الروحية عن بطاريات " اينرجايزر"، لذلك لا مهادنة أو تصالح، ولن نقبل بعد اليوم بهذا الجور والطغيان.. 

لم أكد أنهي الخطوط الأولى لما سأقول حتى رن هاتف الثائرة الاولى!!.. 
هربت من نظرات فضولنا لتهمس للمتحدث في الطرف الآخر ، زوجها ( الخائن ) ينتظرها بعد أن ترك رفاقه ليصالحها!!، لم اصدق نفسي وأنا أراها تمسك عبائتها وتهم بالمغادرة، تشبثت بثوبها بكل ذل وأنا اناشدها بعتاب :" ثورة ثورة، دار دار"، شد ضميرها الخجل جفيها للأرض، وتمتمت قبل أن تتوارى :" أبو العيال!!".. 

حاولت التماسك بعد خيانة أول الثوار ، وانا اتجاهل خفوت ألحان أم كلثوم في رأسي، عاندت هزيمتي بكبرياء مراق على حجري، بحزم :" لا يجب على القائد إسقاط دموعه ابداً، لقد نثر ( باسندوه) دموعه ذات يوم، ومازلنا حتى اليوم ندفع ثمن تناثرها".. 

هممت بإلقاء خطبتي لتقاطعني لصة القات :" سأتزوج يوماً وافعل ما أريد"، عجباً!، ما بال النسوة، يلجأن للهروب من مستبد لآخر ، أعرض عليهن الحرية، ليخلعن قيد ويرتدين بديل عنه قيد جديد؟!، عبودية تسري في الدماء وتسلط يضفين عليه الطعم اللذيذ ليقبلن به؟!.. 

لم أجد ملجأ لأفكاري ومسانداً لها سوى تلك الممسكة بهاتفها، يبدو أنها تملك ما لا يملك بقية الثوار، وفيها من الكفاءة ما يؤهلها لاستكمال مشوار الثورة، كما أن سواعدها من القوة بحيث تكفي لحملي على الأكتاف.. 

لم تكد حروفي أن تغادر شفتي حتى أطلقت ضحكة أقل ما توصف به أنها ( رقيعة)، وضعت بعدها الهاتف جانباً واستدارت رقبتها باتجاهي :" الجو لطيف هذا النهار، ما جديدكن فيه؟"، وضعت النوتة المخذولة جانباً، وامسكت بغصن القات المسروق وأجبتها ببرود مكسور عبارة الزعيم سعد زغلول : " ما فيش فائدة !!".. 
حينها فقط إتخذت الصمت، وسكتت أم كلثوم عن الغناء المباح !! .. 

نور ناجي

السبت، 22 ديسمبر 2018

لن يغلق "السيرك" قريبا  السبت, 22 ديسمبر, 2018 - 09:32 مساءً نور ناجي   لا أسرار في اليمن، ابتداءً من مشاكلك الزوجية التي تعلو وتيرتها بارتفاع قائمة دين صاحب البقالة، حتى معاهدات ترسيم الحدود وبنودها التي يدّعي الغالبية عدم معرفتهم بتفاصيلها!..   كانت ومازالت هذه الأرض مفتوحة ككتاب، لا ينقصه سوى لمسة أنامل رقيقة على صفحاته لقراءة حقائقه واتفاقاته السرية وتحالفاته. ستدهش حين تعلم أن جرائم اغتيالاته الخفية لم تمنح صفة المجهول لفاعلها مطلقاً..!   لقد كان انعدام فضولك ولا مبالاتك الباردة، هو القناع الذي ارتديته عن طيب خاطر لتخفي ما يحاك لواقعك أنت شخصياً. باطمئنان خاطئ أقنعك بأن جميع المكونات السياسية راضية بأداء دورها وبمقدار مكاسبها. فلا جديد وكل شيء باق على حاله، للأبد..   لماذا يجهد أحدهم نفسه للتخفي في بلد مفتوحة؟!، أتفق على ذلك سياسيو البلد الذين لم يكونوا بحاجة لدهاليز سرية أو طلاسم خفية. مجرد سيرك متجول أو مسرح بتكاليف بسيطة سيفي بالغرض، وقد كان.   تبادل الممثلون على خشبته الأدوار بكل سلاسة، واستعرضوا قدراتهم البلاغية ومهاراتهم القتالية. بالإضافة لتهديدات مبطنة- إن دعت الضرورة- أمام جماهير الشعب الهاتفه: ما أجمل هذا المنظر، يبدو رائعاً من هنا !! ..   حتى انطلقت الرصاصة الأولى، لتعلن عن تجديدات عروض للسيرك. انتشرت اللافتات في كل الزوايا، وضجت وسائل الإعلام عن استعراضات لا مثيل لها؛ سترضي فقراتها جميع الأذواق. هذا ما روج له المتحدثون باسم الحرب والممولين من الخارج.   كنا كشعب قد تأقلمنا مع السيرك. لم تكن إقامته الدائمة غريبة بعد أن استولى علينا مبكراً. وإن انحصرت أيام ازدحامه على مواسم الانتخابات والازمات السياسية..   لذلك، لم تجد الجماهير عذراً يمنعها عن قطع التذاكر، وهي تردد عبارة الفنان يوسف وهبي: "وما الحياة إلا مسرح كبير". ربما كان انقطاع الكهرباء هو الذي جعلها تنسى نمط حياتها اللامبالي. أو أن الحرب بحملها الثقيل اجبرها على عبور بوابة العرض، أملاً في البحث عن بوادر خلاص..   استماتت الجماهير لانتقاء أقرب المقاعد من أجل مشاهدة ممتعة. وارتفعت هتافاتها المتحمسة دون أن تدرك أن تذكرة الدخول المجانية لا تحمل تأشيرة مغادرة. وما أن أطبقت عليها المقاعد، حتى غدت جزء أساسيا من العرض، وأهداف سهلة لنيران الحواة التي لا تفرق بين الدماء الحية والاصباغ ..    حين يشعر كل ممثل ومؤدي بأنه النجم الأوحد والمتفرد، لن يوقفه شيء عن وجوب امتلاك الساحة والسيطرة عليها. لذلك، ما أن انطلقت اشارة البدء، حتى تفاجأت الجموع بإصرار "نجوم العرض" على أداء فقراتهم دون مراعاة للفوضى واختلال النظام..   ليس من السهل متابعة فقرات منتهية الصلاحية. وفي آن واحد، لن تبتسم لأداء المهرج وجودة نكاته، بينما تقاطعه المعارك الحربية، بين الحين والآخر، بلكمة في فكه أو ركلة على مؤخرته. لا قيمة للشعارات الرنانة وجدال المفاوضات، وقد تفوقت عليها الضحكات الماجنة لأشباه الراقصات الذين ملأوا المكان!   لا مجال أمامك لاكتشاف خداع السحرة، بينما تتجول الحيوانات المتوحشة بزئيرها الذي لم يترك للفرقة الموسيقية مساحة لاستخدام آلاتها.   لن يغلق السيرك قريباً ..   لم تكن فقرة المهراجا، الذي رقصت الجماهير على أنغام عدالته، سوى البداية. ولن تكون فقرة الوعود المسمومة، التي توزع بالمجان، مقنعة. سيبقى العرض سارياً بألاعيبه ومغامراته، وخداع سحرته ومهرجيه، وإن افترض الوقت وجوب إسدال الستارة!   لن تختم هذه الكوميديا المجنونة نفسها، حتى تبتلع المسرح بعروضه وجماهيره الصامتة، ولا داعي لاستنكار ذلك، فنحن من قرر ابقاؤها منذ البداية، بهتافاتنا التي مازلنا نطلقها من زاويتنا المريحة: "ما أجمل المنظر من هنا، لولا الحاجة لقليل من التعديل" !! .. 

السبت، 15 ديسمبر 2018

رُهناء السجن


 السبت, 15 ديسمبر, 2018 - 08:37 مساءً

نور ناجي

 " سيكون ذَكَر.. أشعر بذلك. تعلم الامهات بما في ارحامهن دون الحاجة لزيارة طبيب وأشعة سونار. ما يشغلني هو أيجاد اسم مميز له!" ..

لم أحاول عرض اسم "شادي" على السيدة الموشكة على الولادة. فالبعض لا يفضل النهاية المحبطة لأغنية "أنا وشادي"، التي تبقي فيها السيدة فيروز في حالة بحث محمومة عن صديقها الضائع، قبل أن تصاب بقسوة نسيان إعتاد على التلاعب بمصائرنا ..

هتفت المرأة فجأة: "عبدالصمد"، نطقت حروف الاسم ببطء. لن يكون "صمودي" سيئا، بالنسبة للحيادية المطالبة به هوياتنا، بعد أن أصبحت قيمة الإنسان وعلامة تمييزه تعتمد على بضعة حروف في البطاقة الشخصية، يعاقب عليها المرء أو يكافئ، يَقتل أو يُقتل لأجلها. هكذا قالت "الطائفية" التي استشرت فينا، لكني لم أعطي تعليقي. فاسم المولود يُحدد لحظة ولادته كما كانت تقول أمي.

ابتعدت عن الأسماء التي تناثرت في أرجاء العيادة، والتي لن ترضي المولود القادم على أي حال، ليشدني عقلي وهو يهمس باستغراب: "مازالوا ينجبون الأطفال؟!"

لم أنكر عليه سؤاله. مازال البشر لغز عصي على الفهم: كيف لمن يعيش حالة حرب- وان كانت بغرابة حرب اليمن- أن يبت بسهولة بقرار مصيري كالإنجاب؟!

"لا يجدر بنا التشاؤم". هذا ما نردده بثقة زائفة، ونحن نبادل بعضنا الابتسامات الجوفاء، مخفين الحقيقية التي تصرخ فينا: ما الذي يدعو للتفاؤل وإنجاب المزيد من الأطفال، وقد ألقينا بالآلاف منهم في محارق حروب لم يستطع الكبار تجنيبهم إياها؟ كانوا من الوقاحة بالتفاخر بتعليق صورهم في الشوارع، وانتقوا المدارس بسخرية قاتلة لإقامة احتفالات ابتلاع الجبهات لهم !..

لا أعلم إن كان سن الطفولة أكثر حكمة واستقراء للمستقبل مما نعتقد؟! أتذكر دهشتي وأنا أحاول فهم محاولات البشر المستميتة للبحث عن علاج، ولهفتهم لأدوية تطالب بالمزيد من "الوقت" الذي لم يكن سوى محطات انتظار مؤجلة لا تخلو من معاناة. فالجميع في نهاية المطاف يموت. وليست لحظة الميلاد سوى ايذان بموت جديد.

لن تكون الأفكار الطفولية مناسبة للطرح أمام امرأة موشكة على ميلاد موت جديد. لن يختلف أثر وقعها عن بيت الشعر الشهير لأبو العلاء المعري والذي اصطفاه من ضمن مئات أبيات شعره المتفردة ليكون شاهد على قبره: "هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد".

لم تكن ظروف المعري مختلفة عما تعانيه الشعوب الواقعة تحت نيران حروب هذا العصر. لعله لم يتذوق البراميل المتفجرة أو الصواريخ. لم يسمع بما تفعله الألغام بضحاياها، أو بالأشلاء التي تتبقى من أجساد وارواح المعتقلين. لكنه لم يكن بعيداً عن فوضى الانقلابات والتكفير والآخر المضاد، بشعارات لا تختلف عما يردده محاربي اليوم.

لم تدغدغ تلك الثورات المعري، ولم تُحّمّسه ليبدي تجاهها أي نوع من التعاطف. على العكس من ذلك، خرج صوته منددا مستنكرا، قائلا بأن المطامع الحقيقية لهؤلاء هو الوصول إلى سدّة الحكم والتمتع بملذات الدنيا ..

ليس ذلك وحسب، اختار "رهين المحبسين" حل صارم لمعالجة مشاكله مع عصره الرافض لأفكاره، برفض مقابل لجناية كان من الممكن أن يرتكبها بأنجابه طفل يرى أنه سيخوض معركة حياة لم يُستشر في دخولها ولم تؤخذ موافقته عليها، فاعتزل العالم بمطلق ارادته منذ عامه الثلاثين حتى انتهاء حياته في الثمانين، وقد وصف تلك العزلة بأبياته:

أراني في الثلاثة من سجوني،،
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي،،
وكون النفس في الجسد الخبيث..

الحرب سجن إضافي لسجون المعري. محبس ضيق، مهما حاولنا تجاهله أو الخروج منه، تخنقنا قضبانه الغليظة التي وقعنا جميعاً رُهناء لها وتحت اقامتها الجبرية. لعل الدعوة للاعتزال والتوقف عن المجازفة بارتكاب جرائم إنجاب أجيال جديدة، سيكون العمل الوحيد ذو القيمة الذي يمكننا إنجازه بين حدود هذه القضبان.

ما أن بدأت فكرة دعوتي ترسم نفسها، حتى جذبتني كف المرأة الغريبة لتضعها على بطنها. لم أحب يوما التصرفات البلهاء للأمهات. فما المثير في تجول كائن غريب تحت جلدك وبين امعائك؟! لم أكد اسحب يدي حتى توقفت فجأة؛ هل كانت قدم الجنين من حاولت اختراق الحجب بيننا أم أنها كفه؟!

ما الذي تريده هذه الكف الرقيقة التي لا ينقصها العزم؟! للحظة راودني شعور غريب أكد لي معرفة تلك الكف بما يدور في خلدي، ولم تكن لمستها سوى محاولة لمنحي بعض من ثقتها في الغد. راقني ما توصل إليه خيالي الذي وجد حل بسيط للخروج من مأزق الأسلاك الشائكة لتشاؤمه.

مازال بإمكاننا الحب، والبحث عن أسماء مواليد جدد، تحمل ما لم نحمله من إرادة وثبات. يجبرك هذا الإحساس أن تكون متفائل بالإكراه، وينسيك الحرب لبعض الوقت.

فخطيئة النسيان البشري قد تكون أحياناً ميزة إلهية بشكل أو آخر ..

الجمعة، 14 ديسمبر 2018


رابطة الانذال القومية..

حاولت التهرب كثيراً من( خروجة اليوم) لكن الحاح ( صديقتي) تغلب علي وهي تؤكد بانها ستكون جلسة مميزة، تركت نفسيتي المدمرة تبحث في المنزل عن مشرط لتنفيذ عملية انتحار ما، وذهبت للجلسة..
لا أخرج من المنزل كثيراً، كانت اخر (خروجه) لي في نهاية الموسم الاخير من برنامج ( آرب ايدول)..
برغم عشقي للموسيقى!!، لكني لست من هواة هذه البرامج، قد أنكفىء يوماً على وجهي والقى حتفي بسبب جملة لحنية لبليغ حمدي، أو آهة من (محمد منير)، لكن أن أستمع للموسيقى لأصفع بعدها بترديد ( برااااڤو ) من فم احلام وهي تصفق باصابعها المليئة بالمجوهرات بحماس المقصود منه أصابة جمهورها بعشى ليلي!!!، أمر يستحيل علي تحمله!، مشرطي الحاد اكثر رأفة بي من هذه الميتة البشعة..
لن أطيل الحديث، دخلت ( الديوان ) لأجد مجموعة من الفتيات وقد تموضعن في اماكنهن..
ألقيت بالتحية، فرددن بأفضل منها وعلى وجوههن ابتسامة صادقة!!، تلمست خدودي وضحكتها الكرتونية الفارغة بينما انا اجلس؟!، لعلها حقنّ البوتكس، فلم تعد مثل هذه الضحكة اللينة متواجدة في اليمن منذ فترة، لابد لي من بعض الحقن انا الاخرى، الشعب بأكمله سيحتاج الكثير منها بعد انتهاء الحرب!!.. 
اسخف ما اواجه في الجلسات، بداية فتح الاحاديث والتعرف على الاخر، حاولت فتح حديث مع اقربهن، فاشارت بشكل غريب لإحداهن.. 
التفت فوجدت سيدة جميلة الملامح رقيقة التعابير، تجلس في ركن بارز في المكان تراقب المتواجدين حولها، ولا اعرف سبب لاحتلال صورة ماري منيب خيالي وانا اتابعها!!...
احست بنظراتي، فهزت رأسها بتحية الحكيم المتفهم، وقالت :" نحن ( رابطة الانذال القومية)، منظمة غير حكومية لا تسعى للربح، تقوم على نشر النذالة وتعميم مفاهيمها على المجتمع"، نفخت دخان شيشتها في الهواء واردفت:" في قلب كل منا نذل صغير، يموت إن لم يسقى ونعتني به، وقد حطمت الحرب هذا الصغير وفطمته قبل اوانه، لهذا أخذنا عهداً على انفسنا، بإحياء النذالة، ورفع شعارها مرة اخرى، لا يكون الإنسان انسان، إن لم يكن نذل"، تنهدت بعد شرحها الطويل ومدت يدها لتحيتي :" اعرفك بنفسي، انا رئيسة الرابطة والمكلفة بسياستها الخارجية، والداخلية، ووضع قراراتها ولوائحها، تستطيعين القول بأنني (( الكل في الكل))، فنظام عملنا ديكتاتوري بحت، سأكون الديكتاتورية الأولى حتى يأتي من هو اكثر فائدة مني للرابطة ويسلبني الحكم..
أغمضت عيني لأتأكد، هل وصلت هواجسي وبحثي المتواصل في اخبار الحرب أن أتخيل هذه الخزعبلات!!..
اين مجوهرات احلام؟، اين فستان نانسي؟، اين اللعنات التي تصبها النساء عادة على ازواجهن في مثل هذه الجلسات؟..
انا لا اتخيل، ما أراه حقيقة، لم اصل بعد لحافة الجنون..
بدأ الفضول يشدني (لماري منيب)، تملك كاريزما باذخة لا استطيع انكارها، واسلوب هادىء يرغمك على الاستماع، لابد أن أفهم ما الذي يدور حولي، هل تغلغلت الماسونية العالمية في مجالس اليمنيات، ام انها الرأسمالية البغيضة!! بدات بإلقاء الأسئلة، قبل أن يقتلني الفضول..
س_ ما هي أهداف هذه الرابطة ؟
أجابت الرئيسة: 
ج_ كما قلت لك نشر النذالة..
س_ وما هو تعريف النذالة في نظرك، فتعريفها لغوياً لا يشعل حماس أحد للإنظمام اليها!!
ج_ النذالة في الحرب، هي الانتظار والانكار، والتأمل البعيد، لا تصدق احد، لا تؤمن بشخص، فكر كثير قبل ان تصدق البكائيات، ضع سماعات اذن قبل أن يهتف احدهم بشعارات رنانة، ولا تلق بالً للمقالات الساخنة اغمض عينيك سريعاً قبل أن تقرا احرفها، جميع ما سبق أعداء هذه الرابطة، والسبب الحقيقي لانشائها..
فلا أحد يملك الحقيقة.. لا يملك المعرفة الكاملة سوى الاموات، استمتعي بحياتك الان حتى يحين الموت لتعرفي الحقيقة، أن كنتِ ستبقين مهتمة بها"..
راقني الحديث، فأكملت طرح الأسئلة..
س _ ما شعاركن؟؟..
ج_ كن حزبياً ما شئت، لكن كن نذلاً أولاً وأخيراً..
س_ ما الصفات المطلوبة ليكون المرء نذل ؟.
ج_ لا ينضم للنذالة سوى من يستحقها، الحائر الباحث عن السلام، من خاب ظنه في من ألقى عليهم احلامه، الصادق الذي عانى من وضوحه ودفع ثمنها وجعاً وقهر...
تنهدت بعمق وهي تنظر لي بحنان، أرى فيك عينيكِ حيرة وحزن، تستحقين الانضمام لرابطتنا لكن يلزمك الكثير من العمل الجاد لقبول انضمامك..
كادت دمعتي أن تفر ، وقد شعرت ( بايموشن) الحزن مطبوع على وجهي، استجمعت شجاعتي وتجرأت على الطلب :" اريد الانضمام، كرهت الضحكة الكرتونية والخيبات المتوالية، بغضت الحزن الذي استوطنني"، رفعت عقيرتي بحماس:" ما هي الشروط المتوجبة علي، وسأنفذها الان.."
هزت الرئيسة رأسها بإشارة رافضة : " تخلصي من الحماس الذي ارتفعت في نبرة صوتك اولاً، لن يؤثر علينا، بل سيجعل قبولنا لانضمامهم أمر صعب "، انكمشت على نفسي بعد تحذيرها، فابتسمت لي:" شروطنا صعبة، لا نقبل بالإخلال بها أو التغاضي عن أحداها اتمنى ان تستطيعي اجتيازها:
_ يمنع منعاً باتاً سماع نشرات الاخبار، أو غيرها من المنغصات..
_ يمنع رفع صور القادة، الرؤساء السابقين واللاحقين، ورؤساء الاحزاب، القادة العسكريين _خاصة قادة جبهة نهم_، بالإضافة إلى صورة المعالج بالأعشاب الدكتور( الضنين )!!..
_ يمنع دخول الموبايل الذي يحوى كاميرا، وجنة الاطفال منازلهم..
_ يمنع منعاً باتاً دخول وسائل التواصل الاجتماعي بعد الساعة العاشرة..
_ حفظ نشيد الرابطة القومية خلال ساعة واحدة، وهي أغنية ( ياوليد يا نينو) للمبدع المرحوم فيصل علوي ..
_ يفصل فصلاً لا رجوع عنه، ويمنع من دخول الرابطة نهائياً من يلقي على اي احد سؤال" ما أصلك؟، ومن أي منطقة انت في اليمن؟"..
توقفت الرئيسة عن سرد الشروط، وأخرجت ورقة من ملف امامها، لتضعها بين يدي،" تستطيعين مراجعتها، وكتابة بياناتك ان احببت الانضمام..
عادت لجلستها المراقبة وقد وأشارت لاحداهن أن تفتح جهاز (الستريو)..
صدحت الموسيقى في ارجاء الديوان، فغادرته لقراءة استمارة الشروط وطلب الانضمام للرابطة..
نقاط كثيرة معظمها سهل مقدور عليه، ( يمنع لبس الشرابات القطنية على الصنادل!)، اهتمام الرابطة بمثل هذه التفاصيل يبعث على التفاؤل، يجب على النذل الاهتمام بأناقته..
"رابطة رائعة"..
تحمست وانا اكتب بياناتي، لكن ذاكرتي بدأت بخيانتي كالعادة، وانا احاول استعادة كلمات اغنية (يا وليد يا نينو)، بدون جدوى!!..
كابوس حي يطاردني وانا حائرة، هل عبارة ( شنشني شنشني ، يا مطر رشني) تقع في نفس الاغنية؟؟.

نور ناجي ..

الاثنين، 10 ديسمبر 2018

"ولا يوم الطين ؟!"..

هل أصابني الهذيان أم أنني سمعت ما سمعت حقاً؟!، هل يعقل بأنه سالني عن يوم الطين؟!، تركت مغزلي ورفعت رأسي باتجاهه، بالكاد ميزته عبر مصباح الزيت الذابل لاجده يحدق بي، اختلفت ملامحه اليوم عن ما كانت قبل سنوات قليلة، إلا من تشابه في الدهشة التي يبدو أنها لن تفارقه يوماً !..

ادرت وجهي في أرجاء الكوخ الذي تغمر جوانبه العتمة لأتأكد بأني لا أحلم!!..
مازلنا هنا، في "اغمات" منفانا  الذي فرض علينا، ورغم ذلك استطاع زوجي " المعتمد ابن عباد" تذكيري بيومه المشهود!!..
ألم يكن الطين هو من أوقع بنا وساقنا في رحلة اقسى من قدرتنا وفاض من رؤوسنا وجع ومهانة، كنت أعلم منذ البدء أني جارية مشتراه، لم أحلم يوماً بالاقتراب من حياة الدعة والرقة المشابهة لحياة أمير..

أمير لم ينقصه سوى القاء الشعر الحسن وايجاد نديم يتقنه ليكتمل ترفيهه، وكنت أنا " إعتماد" الجارية الخبيرة بغزل خيوط الصوف، والمتفوقة على الكثيرين بنظم أبيات الشعر الحاذقة..
زفرت أنفاسي بجراة لم يعتدها، وانا اسلط قسوتي عليه، كان يجب أن أخبره من قبل بأني مارأيت منه خيراً قط، خير المرأة وسعادتها مرتبط بالأمان الذي لم أكن واثقة منه في قصره ، أخطأت سابقاً في الكتمان، ربما لا يجب علي تاخير بوحي..

لم يرق لي" يوم الطين" أبدا، شعرت بسفه عجينة الطيب والبخور والمسك التي أمر بها زوجي، إلا أني أخفيت استنكاري بذكاء كان يعلم أنه لا ينقصني، أين ما يحدث من طلب النزهة القصيرة التي لم تكن ستكلف الدولة_ التي فقدناها فيما بعد_، درهم أو دينار، فأي جنون انتهينا إليه ؟!

غيرت وضعية جلوسي بعد أن تنملت ساقي، لم تكن الحصيرة اليابسة التي تحملني أكثر رأفة من استجداء الجواب الذي أراه في عيني المعتمد، لم اشاهد هذه النظرة من قبل، أتذكر جيداً ابتسامته المختالة ذلك النهار حين رفعت ثوبي عن ساقي وسط ضحكات الجواري لادوس أرضية القصر الذي اُزكم بالروائح الثمينة، بينما كان يقف بخيلاء على كرسي الحكم يراقب دعساتي، كنت من اللطف ولم أخبره حينها بأن نفسي عافته ذاك النهار وقد احسست بتقمصه دور إله مغرور، صنم يرتدي ما لا يستحقه من ذهب، يبستم مستعجلا لحظة انبهاره القادمة بمعجزة لم تكلفه سبع ساعات، دون أن يسأل "عبده" إن راق له ما صنع له أو إن كان يريد القيام بذلك؟!..

لكني أملك القدرة اليوم على لوم سهام نظرته الذاهلة، فالعالم ملىء بالمتاهات التي قد نكون نحن من خطط لبنائها، لن يجد زوجي أكثر اماناً له من متاهة صعبة الحل لإخفاء أخطائه ونسيان طريق العودة إليها، كما أن تكريس المظلومية وسيلة جيدة للهرب من واقع القيود والطين الذي لم يعد محصوراً به، بل أمسى قيدا ثقيلا علي وعلى ابنائي..

كادت شفتاي أن تتحرك لأزيح عني ذلك العبء، قبل أن أشعر بلفحة ريح تصفع ظهري، لم تكن لابواب القصر صرير يخدشنا، أحاطت به الحراسات كطوق محكم يمنع لفحات رياح شتاء الاندلس الباردة!!..

عبرت ابنتي الليل وقطعت المسافة بين والدها وبين اعترافي الوشيك، ووعائها يفرغ بعض مما في جوفه مع خطواتها القصيرة، دون أن تبالي ببلل قدميها الملطخة بالطين، يبدو أن عشق الطين متوارث في عائلتي!!..

اعدت المغزل لكفي ببطء شديد وبيد مرتعشة، كنت أعتقد أن السعادة فقط هي ما تحول القلب لتحفة ناعمة من الزجاج البراق، حتى اكتشفت أن الحزن يمتلك هذه الميزة، لذلك يتوجب علي معاملة حزني بمنتهى الحرص!..

التفت بكرة الخيط القاسي حول قلبي، أتابع تطاير ذرات الصوف وأتأمل اناملي التي لم تعد ناعمة كالايام الخوالي..
رفعت طرفي لالمح المعتمد وقد احنى رأسه صوب الحصيرة، إلى ماذا يحدق؟!، ما الذي يراه في هذه القطعة الممزقة ليطيل النظر إليها بهذا الشكل؟!، وضعت الخيط جانباً، وقد تجلى انعكاس وجهينا على الحصير، كم كانت تشبهنا؟!، كلانا ممزق باهت الملامح والروح، عاجز عن متابعة الحياة، لن تجد دموعي مكان أفضل منها للتساقط..

نور ناجي 

السبت، 8 ديسمبر 2018

بائعة ريحان


 السبت, 08 ديسمبر, 2018 - 08:28 مساءً

نور ناجي

مازلت أتردد بين الحين والآخر على ذلك المقهى المنزوي، أحاول الإدعاء وأنا أطلب فنجان القهوة بأن الحرب لم تكن أبداً، ومازلنا بخير..
نحن بخير، لم تهرم القلوب من ثقل الأخبار ولم تتشقق الأرض قبوراً وألغام جديدة..
ما نراه مجرد كابوس ثقيل الظل، أطبق علينا بثقله على سبيل الاستظراف وخفة الدم، وسيزاح ما أن نفتح أجفاننا..

لم أكد اقترب من لافتة المقهى المكسوة غباراً حتى لمحتها من بعيد، تسند ظهرها على الجدار مفترشة عباءتها، وقد مددت ساقيها المنهكين على الرصيف، كانت قد فردت أمامها قطعة قماشية قطنية واسعة رصت عليها باقات أزهار وأعواد من "ريحان وشذاب" منسقة بأناقة بسيطة، لم تكن بحاجة للإعلان عنها فقد تكفلت الرائحة العذبة بتلك المهمة..

قَصَر الشارع المسافة بيننا لأجد تغضن جلد جفناها ينبئ عن عمر كبير، أكبر من أن يسمح الشارع لنفسه بإفساح مساحة لافتراش بؤسها عليه، أين العدالة في هذا العالم حتى تفرض الأرصفة على مثل هذه المرأة، عوضاً عن تكريمها في مكان لائق؟!..

رفعت إلي أزهى باقاتها ليدغدغ عبيرها نقطة ضعفي قبل أن تتحدث بصوت أقرب للهمس: " هل بإمكانك شراء باقة يا أبنتي ،،، أرجوكِ"..
توقفت أمام لهجتها التي دلت على بائعة غير متمرسة لا تجيد تسويق منتجاتها..

لمحت بصعوبة عينيها التي جاهدت لإخفائهما وقد بدا واضحاً أنها لم تكن قادرة على مواجهة العالم بعمل زاولته متأخرة، فاختبأت عنه بلثامها وبباقتها الملونة، هل ظنت أن تلك القطعة القماشية قادرة على ذلك؟!، أم أن باقاتها الزاهية خدعتها وأعطتها أمان زائف؟!..

لم يكن صمتي رفضاً للعرض كما اعتقدت، فأعادت همسها الذي تحول لسكين حاد مزق طبلة أذني:" أرجوك خذي باقة، فابنتي وأبنائها لا يجدون ثمن طعام الغداء!"..
اختنق الجو، وذبلت شهيتي للريحان، لكني قبضت على الباقة وفررت من أمامها متعثرة الخطى، فمن الصعب إهانة السيدة بوضع مبلغ مالي دون مقابل ..

لم أعد أريد القهوة، عافت نفسي رائحتها بعد تحول الريحان الجائع  لأذرع وقبضات تحيط بي وتدير وجهي باتجاهها لأصحو من أوهامي، لم أكن أدرك أن بإمكان الحرب تقمص الريحان ورائحته، كيف أهرب منها ومما يختبئ فيَ؟!.
للحرب أعين لا تغفل شاردة وواردة، فقط الأبرياء الذين أخرجتهم من ديارهم كتلك السيدة ما تعمى عنهم، أي جبروت تملكين أيتها الحرب؟!..

كنت قد تخلصت من الريحان في طريق عودتي لأتجنب صوت السيدة الذي أصر على ملاحقتي بطلب شراء الريحان، وحتى أتمكن من ارتداء كابوسي الخاص مرة أخرى ..
لم أكن أنانية بقدر ما كنت جبانة لا تريد الاستيقاظ من كابوس حرب حصرتها على شاشات هاتف وتلفاز ونقاشات حائرة لن تجد يوماً موضع لاستقرارها!..
الحرب حقيقية أكثر مما نتصور، حقيقية لدرجة مروعة..

السبت، 1 ديسمبر 2018

مجبر صغير


 السبت, 01 ديسمبر, 2018 - 08:51 مساءً

نور ناجي

يقال بأن الإمام يحيى سار إلى بعض القبائل التي خذلته بوقوفها ضده في معاركه مع خصمه الإدريسي، ليسألهم معاتباً: "ليش هكذا؟!"، أتاه الرد السريع: "أنت إمام المذهب، وهذاك إمام الذهب"!..

أرسلت لي صديقتي هذه الحكاية، ملحقة برموز ضحكات فكاهية، لكني لم أضحك. لم أجد في ما قرأته مادة مسلية، بل غصة مازالت عالقة في حلقي.

لم أحاول نفي الحادثة، برغم عدم تأكدي من صحتها. ولم أكابر بعناد للبحث عن ذرائع ومبررات لتفنيدها. فلم يكن التاريخ بخيلاً علينا بمثل هذه الحكايات. كثيرة هي الليالي التي قضاها، وهو يسرد علينا تحالف سيف بن ذي يزن الأسطورية مع الخارج.

أخذت بنا أحداثه تدريجياً، حتى أوصلنا لواقع زاخر بأذرع تحالفات خارج حدود اليمن، عقدتها كل من القبائل والأحزاب، وامتدت لتشمل بعض الأفراد. وكأن الأمير المتجول، الباحث عن كرسي حكمه من الخارج، شرع ومهد لنا الطريق الذي يجب علينا سيره في خط حياتنا.

الغريب في الأمر، أن المجتمع لا يجد غضاضة في فكرة التحالف والتمويل من دولة أخرى، ولا يستهجنها. على الرغم من أنها تعتبر جريمة تصل لحد الخيانة العظمى في قوانين دول العالم.

على العكس من ذلك، نتقبلها ونتداول أخبارها على الملاء بنوع من السخرية الخفيفة، أو الاستظراف، وربما أمنية في الحصول على فرص مماثلة غير مبالية بالاستتار، بينما نتأمل منابع النفط القريبة منا.

أعتقد بأن التاريخ ذو الجذور العميقة لمنطقة ما، يشكل عبء ثقيل على أبنائه، على عكس الشعوب المتخففة منه ومن دروسه. وقد لعب التاريخ والجغرافيا دورا في صناعة الشخصية اليمنية.

بعد موت الدول اليمنية القديمة، وهجرة الكثير من قبائلها لأرض أكثر لينا وطوعا له، اختارت بعض القبائل المتبقية سكن الجبال، فتكلفة الحماية فيها أقل من تلك المنبسطة رغم مصاعب العيش فيها. ودفعت في ذلك ثمنا باهضاً من الجهد والوقت لاستصلاحها والباسها كسوة المدرجات الخضراء التي تميزت بها. وانتظرت بقلق- أصبح من سماتها- منح السماء عليها.

رغم جدية اليمني في التمسك بمذهبه، إلا أنه كان يضطر أحياناً لتفضيل الذهب عنه، بعد عودة دعواته من السماء حاسرة. فسد الأفواه الجائعة بالطريقة المتاحة أمامه- سواء كان المذهب طريقها أو الذهب- أمرٌ لا يعيبه، بل يكافئ عليه، شريطة أن لا تمس أرضه، أو تقترب منها يد بسوء.

ومع استمرار مواسم الجفاف، أصبح "الفيد"، الذي تطور لتحالف مع الغير، طريق للنجاة وللحياة، بضريبة أجبرت القبيلة توسيع بعض المفاهيم والقيم والباسها ثياب فضفاضة تقاس حسب قبضة الدولة المسيطرة القوية ومسئولياتها التي تتكفل بها تجاه القبيلة، أو ضعفها.

كانت أيادي أبناء القبائل هي السلاح الذي يدافع عن تلك الدولة بكل إيمان، حتى تتكالب عليها عوامل الضعف التي تعيد المقاتل القبيلي لقريته بغصة قلقه القديم؛ ينتظر فيض السماء بمعول في قبضة، وهاجسه الأزلي يستعد بالقبضة الأخرى لغزوة فيد جديدة قد يضطر للقيام بها قريباً.

رغم مرور مئات السنين، لم تتغير ظروف هذا البلد، ليتمكن أبناؤه من التخلص من ذلك الإرث الثقيل. فما زالت القبائل تعتمد على الزراعة مصدرا للرزق. بالإضافة لهجرات فردية لا تمثل دخل ثابت ومأمون. فاضطرت بعض القبائل لعقد تحالفات لا تعتبرها تنازل حقيقي، حتى تشعرها بتكلفة لا تستحق أو ثمن فوق طاقتها.

ساهم في تلك العودة، تجاهل الدولة الحديثة مسؤوليتها، طوال عشرات السنين، تجاه القبيلة والمواطن بشكل عام؛ والخيبة المتأخرة التي أصابت الغالبية لمردود اكتشاف النفط الوهمي، الذي لم يكن سوى "فيد" بمواصفات حديثة، لا تستفيد منها سوى فئات محددة.

لعل التحالفات القديمة كانت أقل تكلفة، ولا تتجاوز غزوات متفرقة بين القبائل، لا تفقدها في المجمل السيطرة على أرضها أو سيادتها، داخليا على الأقل. فصعوبة جغرافية اليمن، لم تجعل منها ذلك المطمع السهل الذي يغري أي غريب لاستغلال خطيئة اليمني وشهوته. الغازي المضطر فقط، هو من تجرأ على محاولة إخضاع الأرض العصية وبفاتورة غالية.

هل يراهن اليمني اليوم على سياسة قبول التحالفات غير مأمونة النتائج باطمئنان لوعورة جغرافية "خطه الاحمر الوحيد"، أم أنه تنبه لمعادلات الزمن المتغيرة، وقد أصبحت الأرض التي يقف عليها من آلاف السنين أثمن- في نظر الغير- مما كان يعتقد ؟!..


فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...