الأحد، 19 يوليو 2020

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صفحاتها لا ينبغي إلا أن يوجد على يد "إمرأة"!.. لا أحد ينكر براعة المرأة في الإنتقام على الرغم من توقف مهارتها على رسم المخططات، فغالباً ما يكتفي خيالها بالتوغل في دماء عدوه أو حتى شربه قبل أن تنهره عاطفتها بالكف عن تصرفات الصبيان!.. تقف أمام الرواية مثنياً على الإنتاج النسائي البحت فاتزان المرأة يمنعها من إرتكاب أخطاء تقليدية تبعث على السأم كخلق وحوش لا تملك سوى الخلود أو القوة الفائقة؟!.. ما الذي يجعل أحدهم يتمسك بإقامة مملة أمام إثارة لحظات قصيرة مكتظة بالشغف، وما المتعة التي قد نجدها في حياة مطعمّة بإلاكراه؟!.. "ينبغي أن لا تختلف الوحوش النسائية عن محيطها حتى يسهل اختفائها بين الجموع باقنعة غير مكلفة!"، أكدت ماري شروطها على الطبيب "ڤيكتور فرانكشتاين" بطل الرواية وهو يعد نفسه بحماس لأداء دوره!.. تجلى إبداع "شيلي" في عدم إتكالها على تدوير منتجات الغير، فعلى الرغم من جمع الطبيب لأجزاء وحشها من بين الجثث والمقابر صممت على جعله بذاكرة نقية لم تلوث بأي ماضي، ليس لإمرأة قادرة على الإنجاب وبعث الحياة أن تنسخ وحوشاً بذكريات قديمة، كمصاص الدماء مثلاً _الكائن الذكوري المنشأ_ الذي مازال يقتات على دماء غيره متخذاً حيرته أمام التوقيت الحقيقي لميلاده عذراً لشراهته!.. برغم وقوف ماري على ما يدور في معمل فرانكشتاين إلا أنها تراجعت عن تحذيره لمخاطر تمرير التيار الكهربائي ونتائجه، كانت قد اعتبرت الطبيب الحاضن الشرعي للاوصال المرقعة امامها وليس لها منعه من تحمل مسؤوليته حتى مع عدم اقتناعها باهداف قيامه بتلك التجربة والتي راح يسردها وهو يدون ملاحظاته الأخيرة!.. لم تكن محاولة الخلق خطيئة الطبيب، تخليه اللا اخلاقي عن ما صنعه لاحقاً هو ما وضعه ضمن قوائم المذنبين، فكيف لماري أن تغفر لفرانكشتاين اقتصار نظرته على ملامح المخلوق المشوهة وبشرته الصفراء وتغافله عن الروح الحائرة التي استيقظت للتو على طاولته!.. لم يكن التيار الكهربائي هو من أوجد الوحش، "الوحدة وازدراء النفس" الذي شعر بهما عقب تخلي فرانكشتاين عنه كان الخطوة الأولى لاتمام صناعته كوحش.. "كان يجب أن أكون آدم الخاص بك، لكني بدلًا من ذلك كنت الملاك السيء!"، يقول المخلوق لصاحبه وقد اختلط لوم نفسه بمشاعر الخذلان والخيبة التي احس بهما، "ألم يكن "فرانكشتاين" قادراً على اسعاده، أم أنه شعر بعدم استحقاقه لأدنى قدر من الاهتمام؟!"، لم يكن الوحش على دراية بعد بمقاييس البشر لتبادل المحبة بينهم البين ومشاعر الجبن والخوف التي قد تعترضها؟!.. استغرق الكائن أو المخلوق ما يلزمه من وقت حتى كف عن تساؤلاته وتوقف عن ملاحقة الطبيب الفزع، " لا تتوقف الحياة على أحد!"، قالت "ماري تشيلي" وهي تلحق بمخلوقها بعد أن فقدت الامل في إصلاح ما بين ابطالها!.. ليس العيش المنفرد سهلاً على المرأة، لذلك فشلت "ماري" في تشكيل مخلوق لا يقدّر الحياة العائلية أو يستشعر اهميتها، مازال وحشها يجتهد في البحث عن عائلة تحتويه أو يحتويها حتى أدرك بأن شكله المخيف سيقف عائقا بينه وبين ما يريد، "يبدو أن البشر يعطون الاغلفة البراقة أهمية أكثر من جوهرها!"، تمتم الوحش بأسى أمام صورته التي انعكست على سطح الجدول!!.. "لست وحشاً، ولن أكون ما يريده لي الغير!" هتف بغضب قبل أن ينهض من مكانه عازماً على تغيير قدره، بينما تبعته ماري وقد امتلاء قلبها بالاسف عليه!!.. لا يعود المجرم منفرداً لمسرح جريمته، غالباً ما تعود الضحايا لتفقدها أيضاً!، وعاد الثنائي للالتقاء مجدداً.. ربما تجددت مشاعر المخلوق تجاه الطبيب في تلك اللحظة لكنه جاهد لكبحها بالحساسية المفرطة التي اورثته فيها كاتبته، "انتهى وقت الاستجداء!"، همس لنفسه قبل أن يقف بثبات أمام فرانكشتاين الفزع ويهتف بحزم : "عليك إصلاح ما افسدته!".. كان يستحق الحب وهو على ثقة من إمكانية إيجاده وإن عبر الشخص الذي حرمه اياه، فالحاجة أم "التنازل" الذي اضطر إليه وهو على ثقة بأن قِطع الأجساد الملتقطة من المقابر ستكون أكثر رقة من قلب بشري ينبض بالقسوة!. وضع المخلوق مطالبة على الطاولة التي شهدت ميلاده بكل صرامة :"يجب عليك إيجاد رفيقة لي!" على الأغلب أن "فرانكشتاين" لم يلتقط رسالة الكبرياء القوية التي اخفاها الوحش بين طيات مطلبه، واستبدلها بمخاوف تهديد فناء البشرية التي راح عقله يرددها بصمت؟!.. "أي أنانية حملها ذلك "الفيكتور"؟!، قدرة البعض على عدم الفهم تتجاوز قدرتك على الدهشة!"، لعل هذا ما جال في خيال ماري شيلي وهي تسعى لاهثة بين الأوراق لمراقبة تلاعبه ومواعيده الكاذبة، ولم يمر وقت طويل حتى صدق حدس الوحش ودمر فرانكشتاين جسد رفيقته التي كان يفترض به خلقها!.. لم تكن "الكاتبة" منذ البدء لتسكب مدادها على "كائن" لا مبرر لوجوده، امتلكت ما يكفي من أسباب الوجع لاسقاطها عليه سواء تعمدت ذلك أو باحت بما فيها دون أن تعي، قد يكون ذلك هو سبب تعاطف القراء أمام المخلوق البائس وقد لامس حضوره اوجاعهم الخاصة!.. على الأغلب أن "ماري شيلي" شعرت بالذنب تجاه "اليزابيث" خطيبة الدكتور "ڤيكتور"، إلا أنها زمت شفتيها وضمت كفيها لقبضة الوحش لتشاركه اعتصار عنق الفتاة :" حانت لحظة السداد التي انتظرتها طويلاً، ولن يضير الرواية تخلصي من بعض شخصياتها!".. انتظرت "ماري" ما يكفي حتى تذوقت بطرف لسانها لوعة فرانكشتاين وهو ينوح على جثمان حبيبته، " من قال بأن الإنتقام ليس حلواً؟!"، تسألت قبل أن تمضي بحماس وتلقي آثارها أمام الطبيب الخاوي من كل شيء إلا ملاحقة الوحش حتى لم يعد بامكانها الابتعاد أكثر، تلفتت للمدى الأبيض الذي احاط بها دون ان تخفي ابتهاجها، لن تجد لفرانكشتاين وقلبه موضع أكثر مثالية من المحيط المتجمد!.. مازال قلب المرأة هو الأكثر رأفة، لذلك لم تقوى كاتبتنا على ترك فرانكشتاين وحيداً، القت جواره اوجاعها القديمة قبل أن تعطيه ظهرها وتغادر :"كان لا بد من ذلك الختام، فأجود أنواع النهايات تلك التي تلصق لعنتها بمستحقيها للأبد!"، رسمت ماري ابتسامة بريئة على وجهها ووضعت الاوراق المذيلة بكلمة "انتهى!" جانباً.. يدرج البعض رواية فرانكشتاين ضمن "أدب الرعب"، متجاهلين تقلبات روح ذلك المخلوق وصداها الذي مازال يصرخ مدافعاً عن نفسه وعن ماري :" أن كان هناك من جانب مظلم بين الأحداث، فأصله يعود لما تحت رداء "فرانكشتاين"!.. جميعنا يسكنه وحش ما، البعض ينكره والبعض يعترف بوجود ما يشبهه، كانت "ماري شيلي" من القلائل الذين حملوا شجاعة الاقرار بحقيقته، حاولت كثيراً الترويح عنه وترويضه حتى فقدت السيطرة عليه، لم تكن سعيدة بتنظيف الفوضى التي تركها خلفه إلا أنها تحلت بالشجاعة ونصرته متحملة كافة مسؤوليتها تجاهه!.. نور ناجي..  

الأحد، 5 يوليو 2020

أسطورة لا تتحقق


نور ناجي

  تقول الأسطورة اليونانية إن الإنسان عاش جوار الآلهة بهيئة كائن يحمل أربعة اذرع وأربعة أرجل بينما حمل رأسه وجهين كل في جهة، قبل أن يشعر الإله "زيوس" بالقلق نتيجة تزايد قوة ذلك الكائن، فيشطره وينزله الأرض متفرقاً. وليس التعلق الذي يربط المحبين بعضهم لبعض وشعورهم الدائم بأنهم التقوا مسبقاً، سوى نتيجة التقاء شطري كائن واحد لم يكن له أن يتشظى. 
 
ومع إدراك الإنسان لخرافة الاساطير، وحقيقة أنها ليست سوى حلول مؤقتة للقضايا التي استعصت على فهمه، ألقى بأسباب مشاعره إلى أمزجة القلوب وتقلباتها، قبل أن يتطور العلم ويؤكد بتجاربه المخبرية أن انفعالات البشر ليست سوى نتاج تفاعلات "كيميائية/بيولوجية" مركزها الدماغ، تتبادل الهرمونات فيها الأدوار قبل أن تذوي وتتلاشى ما أن تنتهي من أداء وظائفها. فكما ينشأ الحب نتيجة بعض التفاعلات، يبهت وينطفئ لذات السبب.
 
بعض الحقائق العلمية تشعرك بالإحباط وتزيل عن قصائد الشعراء ومعلقاتهم الكثير من سحرها قبل أن تنتفض: لم يقل العلم الحقيقة كاملة ما زالت قصص الحب الأصيلة تصدح عن نفسها بشجاعة.
 
شهد القرن الماضي قصة حب غير عادية جمعت الكاتبة "مي زيادة" بشاعر المهجر "جبران خليل جبران". علاقة خالفت المقاييس العلمية التي تحدد فترات تقريبية لمراحل الحب، واستمرت لمدة عشرين عاماً!..
 
ولدت مي زيادة في "ناصرة فلسطين"، العام 1886م من أب لبناني وأم سورية، نشأت وتلقت تعليمها في لبنان قبل أن تنتقل مع والديها إلى القاهرة- قبلة المثقفين والأدباء ذلك الوقت. لم يطل بها المقام حتى انشأت صالونها الأدبي، الذي جمع كوكبة أدباء ذلك العصر، مثل: طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد الزيات، واحمد شوقي.
 
لم تملك "مي زيادة" الجمال الجامح لإيقاع أدمغة أولئك الأدباء في غرامها؛ إلا أن ذلك حدث وأخذ الأدباء يعترفون لها بحبهم تباعاً. أي فتاة كانت ستشعر بالسعادة أمام ما اتيح لها من خيارات؛ لكن "مي زيادة" فاجأت الجميع برفضها لهم وتمسكها بالشاعر "جبران خليل جبران". 
 
"على الأغلب أن زيوس كان سيشعر بالحنق لنتيجة ذلك اللقاء!" تقول بتشفي، قبل أن تتفاجأ ببقية أحداث القصة، فلم يلتقِ العاشقان طيلة سنوات حبهما، ولم يحاولا!. مازال جبران خليل جبران في مدينة نيويورك بعيداً عن مي زيادة بآلاف الأميال، مكتفياً بالرسائل المتبادلة بينهما.
 
لخط اليد مذاق خاص، لكن هل يمكنه فعلا أن يبقي المرء معلقاً بطرفه لعشرات السنين؟! يبدو أن "مي" وقعت في ذلك الفخ، لكن لماذا اسميه فخاً؟ لعل قلبها أو دماغها، أيا كان محرك مشاعرها، هو من أراد ذلك التأرجح، حين وجد في تلك العلاقة مسافة آمنة، ستحميه من خوض تجارب مجهولة النهايات، كما إن الشغف الدائم سيكون مادة غنية لقريحتها.
 
تتداخل المشاعر حتى لا تقدر على تمييزها، وقد المحت الشاعرة لبعض حيرتها في إحدى الرسائل: "أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، كما أن الجفاف والقحط واللاشيء بالحب، خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟! لا أدري.."..
 
هناك استثناء دائماً. على الرغم من العالم المفتوح ل"جبران" والعلاقات المتعددة التي رافقت مسيرته، إلا أنه لم يقبل بالتخلي عن "مي" أو رسائلها. لعل الشك في إمكانية انطفاء حبه لها، بعد أي لقاء، كان سبباً لتخاذله، لكنه استمر بكسر حواجز الجغرافيا مناجياً إياها وكأنها تجلس أمامه:
 
"أفكر فيك يا ماري كل يوم وكل ليلة، أفكر فيك دائماً، وفي كل فكر شيء من اللذة وشيء من الألم، والغريب أنني ما فكرت فيك يا مريم إلا وقلت لك في سري “تعالي واسكبي جميع همومك هنا، هنا على صدري”، وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات.. وها أني أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالباً من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلىّ”..
 
توقفت الرسائل بعد وفاة "جبران"، ليُكسر قلب "مي"، وتدخل مصحة نفسية، لا تلبث أن تخرج منها حتى توافيها المنية وحيدة!..
 
لا تكاد تنتهي من جمع فصول القصة حتى يصيبك الحزن، من المؤسف أن يشعر الغريب بإخلاص وصدق ثنائي أختارا تكذيب قلبيهما!..
 
يحدث أن تشعر بالجبن أمام مشاعرك، فتختار الوهم عنها. بعض الخيال أكثر جمالاً من الواقع، بل إنه يصلح أن يكون متنفساً مناسباً لمجمل حياتك. على الأغلب أن " مي وجبران" كانا من "الأنصاف" التي خلقت لتقارع العلم ونظرياته الباردة، لكنهما لم يملكا شجاعة الفعل على الرغم من سهولته!!.
 
تمكن العلم من توصيف أدق الانفعالات التي تصيب المرء لحظة وقوعه في الحب، إلا ان توصيفه مازال ناقصاً.. لماذا تشعر بالتعلق تجاه شخص دون غيره؟! ولماذا كان في الأمس وليس اليوم أو غداً؟! وما الذي يجبرك على التمسك بأحاسيس معينة، رغم اذاها؟!
 
 لعل جهلنا لتلك الإجابات هو ما يمنح الحب سحره ويجعله أسطورة لا تتحقق حتى يتحلى أطرافها بالشجاعة. 

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...