السبت، 27 يوليو 2019

انتقام مسبق..


نور ناجي

  من الصعب تخيل مشاعر إنسان أدرك تمام الإدراك اقترابه من لحظة النهاية!..

قضي الأمر بالنسبة " لمجاهد قشيرة "، ولم تكن أيام أو ساعات أضافية ستغير من حقيقة ما سيقع، فقد كان قبل فترة وجيزة حليف للحوثي ومشارك لمليشياته في جرائمهم،  ويدرك أكثر من غيره شناعة انتقامهم وعدم تساهلهم مع أي محاولة تمرد قد تغري غيره بالقيام بها..
 
أدرك الرجل أنه لم يعد يملك حق الرحمة أو المغفرة، فقرر أخذ حق دمه مقدماً، " ما الداعي لتأخير الثأر حين يتوجب حق الموت؟!"، ربما كان ذلك التساؤل هو ما منحه شجاعة لا يمكن لأحد إنكارها وجعلته يقرر  في أخر لحظات حياته أن يعلي من شأن موته، وينتقي ما يجده مناسباً أو متاحاً كثمن له..
 
يخطىء من يظن أن نشر الفيديو الخاص بسحل جسد " مجاهد قشيرة " كان هدف مقصود من قبل الميليشيا بغية إثارة رعب أعدائهم، أو من أجل المزيد من الخضوع والخوف في قلوب ساكني المناطق الواقعه تحت سيطرتهم، بالطبع كان الخوف سلاح الميليشيا الأقوى عبر  سنين الحرب، السلاح الذي لم يكن هو مبتكره الأول، فقد أسرف الإنسان منذ خطواته الأولى في تذوق الخوف حتى أدرك مدى خطورته وإبعاده وفوائده، وصار بإمكانه تصنيف الخوف بالسلاح الأخطر الذي تمكن البشر من صنعه على الإطلاق..
 
لكن الوقت لك يكن مناسبا لاستخدام الميليشيا مثل ذلك السلاح، خاصة مع محاولاتها الحثيثة إظهار عصابتها أمام العالم كدولة تبسط نفوذها وأمنها على مناطق سيطرتها، فكما أخفقت الميليشيا في تلفيق محاولة هروب الرئيس السابق وقتله بتلك الطريقة الوحشية، خرج الفيديو الأخير بصدمة لم يكونوا بحاجة إليها..
 
أتوقع أن من قام بنشر ذلك المقطع الذي تجاوز  الأعراف والتقاليد والقيم الإنسانية، حصل على الكثير من التأنيب لقيامه بذلك، فليس من المفترض تسليط الضوء على الغضب الذي نال من الميليشيا تجاه جثة فارقت الحياة، غضب جعل المواطن الذي اعتاد على همجيتهم يتساءل، بعيداً عن العدالة والجزاء الإلهي الذي لابد وأن ينال أي حليف للحوثي :"  لماذا مجاهد قشيرة بالذات، بينما تم اغتيال الكثير من الحلفاء والتخلص منهم بمنتهى البساطة؟!"..
 
هل كان تجرأ "قشيرة " على مواجهة الموت هو من أشعل جنونهم؟!، أم أن فكرة انتقامه المسبقة كانت هي من أوجعهم؟!..
 
كثيرة هي الثقافات القديمة التي أسالت الدماء إرضاء للالهة وقدمت القرابين إظهاراً للتفاني والانقياد للقادة والزعماء، بعثها الحوثي مجدداً مستخدماً الغلاف الديني الزائف والجهل لتلبية حاجته لوقود حي من البسطاء الباحثين عن الجنة..
فكان الموت وشجاعة مواجهته الصفة التي مازالت جماعة الحوثي تتباهى بها، الصقوه في شعاراتهم، وزاملهم، محاضراتهم، روضوه بين أيديهم في أعين أحبائهم قبل أعدائهم، تعاملوا معه كوجبة بسيطة ورفعوا من تقدم إليه إلى مراتب الاضحيات المباركة، فكيف لأحد أن يضاهيهم بتلك الأضحية..
 
ليس ذلك وحسب، كان تعدي قشيرة على التفكير بأخذ حقه المبكر منافسة في السعي للانتقام الذي كان ولازال أساس وجود الحوثي والفرق المشابهة له فكرياً، الفكرة التي توارثتها تلك الجماعات وأمدتها بالحياة عبر مئات السنين، فلا يجوز لبضع رصاصات من يد رجل موشك على الموت أن تنافسهم أو تنتزعه منهم..
 
تخسر الميليشيا الكثير، وتدرك ذلك جيداً..
 
ربما كانت اضحياتها البشرية أقل خسائرها ثمناً، فالكثير من الجرائم تنتظر سداد حسابها، لعل الإمعان في ارتكاب المجازر وسيلة الميليشيا في تأجيل شبح ثأر متأخر، حين يقف اليمني أمام مقابر أبنائه التي فتحت هباء بينما تشبث أرباب والهة ميليشيا الموت بالحياة بطريقة مريبة ومخالفة لما دعوا له؟!..
 
بإمكانك مواجهة الموت بالقليل من الشجاعة، لكن استمرارك في الحياة بعد كمية الخوف الذي أجبرت على تجرعه سيحتاج لكثير من غفران ليس من السهل أو العدالة منحه!..

الأحد، 21 يوليو 2019

تروس صدئة


نور ناجي

لم تقف في الخامسة من عمرك تتفحص أفراد مستعمرة النمل الغادية والرائحة لتقارن بين لونها الأسود ولونك، ولم يكن تفاوت حجمك وحجمها الصغير ليثير انتباهك أو سخريتك بتاتاً، لعلك لبثت طويلاً حتى اقتربت منك احداهن وعرضت عليك صداقتها!
 
لم أفهم في الثانية عشر سبب الهمسات المحذرة لي من صحبة الفتاة المسيحية القريبة من عمري في العمارة المجاورة: "لا بدّ وأن أخلاقهم بسبب لحم الخنزير الذي يتناولونه حتى التصقت رائحته على جلودهم!".
 
لم يكن التحذير كاف لابتعادي، بل زاد فضولي لمراقبتها والتقاط رائحتها العفنة، دون جدوى!..
 
في المرحلة الإعدادية أخبرتني إحداهن أن الشيعة يخطون أسماء الصحابة على أرضيات حماماتهم، وحين يأتي الوقت المناسب سيجبرونا على ذلك نحن أيضاً، إن تركونا أحياء. فلابد وأن تُدفع ثمن دماء أريقت منذ أكثر من ألف عام، قالت ذلك بكل حزم!.
 
حاولت تصديقها، لكني لم أستوعب تشويه أحدهم أرضية منزله من أجل ثأر بذلك القدم، لم يكن من السهل عليّ حينها إدراك معنى توارث الانتقام، حتى اكتشفت أن المنطق والمعقول ليس شرط لوجود المدافعين عن الأفكار الحمقاء..
 
لن تجد ما يرضيك في كتب التاريخ الخاصة بنا سوى الملاحم والاساطير التي تمجد لمعارك راح ضحيتها الآلاف، وفي نفسك شك إن كانت لعنة قبيلتي "داحس والغبراء" المتسبب الفعلي لها قد انتهت فعليا، أم مازالت "البسوس" كامنة فينا وتنتظر أسباب أشد تفاهة وسخفاً لتنبعث من جديد..؟!
 
ما أن نفتح أعيننا على الحياة حتى نجد أنفسنا مثقليّن بقيود من المخاوف والتحذيرات، قيود تحذرك، أنت في خطر، محاصر وملاحق من الأعداء، هناك من يسعي لأذيتك، للنيل منك وإسالة دمك، يقصدك على الدوام في تلميحاته واشاراته الخفية، لتبقى في توجس وقلق لا نهاية له..
 
وعلى النقيض من تلك القيود، ستجد أخرى بمذاق مختلف؛ تستمع إليها في حالة نشوة وهي تبرز نقاط تفوقك على الآخر ، أنت مختلف، لست "نملة" كالآخرين، لا يهم أبدا أن يكون سبب تفردك مهارة قمت بها، أو مجهود بذلته، فلديك ما يغني من جينات كتبت التاريخ يوماً وجعلتك خارج تصنيف البشر..
 
لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نقف في أماكننا دون حراك.. أصنام، تروس صدئة خرجت عن العمل منذ قرون، نتوارثها جيل بعد آخر دون أن نشكو من جور حملها أو من حتمية نتيجتها التي تجعل الآخرين يستهينوا بنا ولا يأخذونا على محمل الجد..

السبت، 6 يوليو 2019

أسرى العدسات


نور ناجي

 يمكننا اعتبار الرسومات التي عثر عليها في بعض كهوف جبال اسبانيا، والتي قدر زمنها لما قبل 65 ألف عام، أقدم محاولات الإنسان المعروفة لتوثيق واقعه، بعد أن كانت آثار كفوفه المغموسة بالألوان هي الدليل الذي تركه لإثبات وجوده لمن سيأتي بعده..
 
عشق الإنسان اللوحات والقطع الفنية، طريقة مزج ألوانها ونحتها، لحظات ولادتها ومسار تنقلها، أمضى وقت لا بأس به وهو يفكر في اللحظات التي قضاها صانعها أمامها.. لوحات حزينة وأخرى تجلب الفرح، منحوتات غاضبة وأخرى تدعوك ملامحها للتفكير، حتى ما اعتبره البعض قبيحاً أو مخيفاً لم يخلو من معجبين ومؤيدين للحظة تدوينه.
 
قد تكون أسباب ذلك العشق، جمال يرجو الإنسان خلقه وتخليده، طريقة محتالة لسرقة بعض من الزمن والاحتفاظ به، تدوير لذكرى، أو تشبثاً بالحنين.. استمر في ذلك حتى أمسى الفن هو الوسيلة المثلى لتمجد الشعوب أرواح أبطالها، وتستحضر الصالحين الأوائل الذين كانوا بأمس الحاجة لحكمتهم.
 
وكعادة البشر في إفساد كل شيء، لم يمر ذلك التعلق بسلام، ودفع ثمن باهظ لذلك الشغف حين حولت غالبية الشعوب صورها ومنحوتاتها إلى آلهة وأرباب، رجوا رضاها وتجنبوا غضبها بعبادة حارب الإنسان وقاتل في سبيلها مئات بل آلاف من السنين حتى تلطخت سمعة تلك القطع الفنية بالعار..
 
وعلى الرغم من توقف الإنسان عن تلك الممارسات وإدراكه لخطيئة ما قام به، إلا أن خطيئة تلك العبادة مازالت تلاحق الفن أحياناً من قبل بعض الجماعات المتطرفة؛ لكن ذلك لم يكن سببا ليتوقف الإنسان عن شغفه الذي تطور وتضاعف حتى حدثت الطفرة التكنولوجية الهائلة التي لم تستثنى منها الفنون..
 
لم تعد سرقة الزمن حكرا على الرسامين، بعد أن أصبح كل شخص فنان متمكن بمجرد امتلاكه لكاميرا هاتفه الشخصي، وفاقت عدد الصور، التي تم التقطها في السنوات الأخيرة من القرن الحالي، ما رسم ونحت والتقط على مر التاريخ..
 
يبقى ذلك الشغف والهواية ممتعة ومقبولة في إطار أن يبقى الإنسان هو المتحكم الفعلي بها، لا أن يتحول ذلك الرصد الى هوس وسوق بلا معايير، أفقد الصور بعض من قيمتها وبريقها، ليعيد ذلك الإفراط إلى الأذهان عادته القديمة..
 
هل انتهى الإنسان من مبالغاته أم أنها طبيعته التي فطر عليها؟! تطرح ذلك التساؤل، وأنت ترى كيف أمسى البعض أسيرا لعدسات كاميرات أخذت تسرق أوقاتهم بشراهة، واستبدلت خصوصية حياتهم الواقعية بإدمان نشر يوميات كانت هي من حدد طريقة عيشهم لها ومدى قيمة ذلك العيش، وجدواه.
 

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...