السبت، 28 مارس 2020

العالِم الثائر (1)


نور ناجي

"لا نريدك بيننا!"، أجبرت هتافات أبناء صنعاء "يحيى ابن الرسي" على مغادرتها خائباً في العام ٢٨٠ هجرية، لتستقبل ما اعتبرته الشخصية الأهم في التاريخ اليمني وللاسف الأكثر اهداراً لحقها: "الحسن بن أحمد بن يعقوب الأرحبي البكيلي الهمداني"..
 
تجبرك الشذرات القليلة، التي تلتقطها عن الهمداني، على الوقوف المطول لإيجاد تعريف مناسب للرجل. فهو المؤرخ والنَسّابة، الأديب والشاعر، الفيلسوف والرَحّالة، الكيميائي والجغرافي..، لن تنتهي تعريفات الرجل قبل أن تتوقف عند: "الثائر الأول ضد "الإمامة"، والمنادي دون مواربة للقحطانية والتمسك بالجذور الحميرية..
 
قد يجد البعض في الوصف الاخير تهمة بالعنصرية، لم يكن لعالم مثله أن يحملها، فكيف التصقت به؟!، ولماذا؟!..
 
لم يمثل انتماء الحاكم لأرض اليمن معياراً لتفضيله في زمن نشأة الهمداني. فلم تكن سوى إمارة يتناوب عليها الولاة القادمين من مركز الخلافة البعيد. لذلك لم تشكل عودة "الرسٌي"، بعد أربع سنوات من طرده، معضلة أمام طموحاته، فبنو زياد يحكمون "زبيد" على الرغم من مؤسسهم "الأموي"، بينما استمد اليعفريين، ذوو الأصول الحميرية، مشروعيتهم من خلال ولائهم للخلافة العباسية!..
 
ورغم تذمر القبائل أمام ذلك الولاء، والزكاة الثقيلة المترتبة عليها، إلا أنها لم ترحب بشعارات "علي بن الفضل السبئي" والتي أخذ يرددها وهو يبتلع الإمارة تلو الأخرى، وقد تجاوزت مطامعه ما هو أبعد من "صنعاء"..
 
"خارطة مضطربة"، لم تجعل الفتى المهتم والمراقب الوحيد للشأن السياسي، ولم تستثنه من معيشة قاسية اضطرته للعمل مبكراً في أحد دكاكين الحدادة، التي كانت الشرارة الأولى لاتقانه الكيمياء..
 
رغم شغف الهمداني بالتعدين لم يتوقف عن دروس القران وأحكامه، حتى عرف بين أقرانه بسرعة استدلاله للآيات. أتقن الشعر كجده، وأخذ ينظم ابياته بمَلَكَة وصف بديعة، انتجتها مخيلته الواسعة ورغبته الملحة في أن يصبح رحالاً "كوالده" الذي قضى سنوات شبابه الأولى متنقلاً بين مدن العراق وعمان ومصر، قبل أن يستقر نسبياً ويختار أن يكون "جمّالة" للحجيج..
 
نحن أمام طفولة سليمة، يملك صاحبها ما يكفي من المعرفة لتجنيبه الأمراض الاجتماعية. فالعنصرية والوعي لا يجتمعان على ذات الوعاء، حتى عادت السياسية للتدخل مرة أخرى في حياة الهمداني بدخول إبن الفضل صنعاء في العاشر من محرم ٢٩٣ هجرية، وفرار آل يعفر منها!..
 
لم تؤدي سيطرة القرامطة على صنعاء الى الهدوء كما توقع قائدها، بل اشعلت المزيد من الاضطرابات، ولم تتوقف التحالفات ومعاركها عن التلاعب بمصير المدينة، حتى قررت عائلة الهمداني وغيرها النزوح..
 
لم تكن مغادرة الفتى، الذي لم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، لتسبب له غضب مكبوت. فصعدة، الهادئة نسبياً والمركز الأهم لتجمع الحجاج، ستكون نقطة إنطلاق محتملة لترحال يرجوه، كما ناسبه التقاءه فيها بشيخه الأحب الى قلبه: "أبو نصر محمد بن عبدالله اليهري الحميري"، ليكمل دروسه في قراءة الخط المسند واللغة الحميرية، دون أن يجد في ولاء معلمه للهادي "الرسٌي" بأساً أو سبباً قد يمنعه عنه. يقودنا ذلك إلى استثناء "اختلاف المذهب" كسبب وراء محاربة الهمداني اللاحق "للإمامة"..
 
لم يحمل "الرسي"- المتحكم في صعدة- القوة التي أخذ مؤيدوه يروجون لها. فعلى الرغم من استخدامه القوة المفرطة ضد القرى التي فرض سيطرته عليها، إلا أنها استمرت بالانتفاض ضده، لعله وجد في الترهيب وسيلة مناسبة لتأديب طويل الأمد، لن ينحصر في قرية هنا أو هناك، بل سيمتد أثره لقبائل أخرى يأمل في إخضاعها، لتكون مجازره ضد "بني الحارث" في "عسير ونجران"، الأولى من نوعها، بهدمه لقراها ودفن الآبار فيها، وكأنه يبغي بذلك القضاء على أجيال قادمة بعد أن علق عراقيب الآباء على أغصان الشجر!..
 
حتى بمعايير ذلك العصر كان ما ارتكبه الرسي صادماً، ليس للهمداني وحسب، بل للكثير من القبائل التي لم تكن لتتجاوز- مهما بلغت من عداوة- خطوط حمراء أقرتها الاعراف والتقاليد، ومن ثم الدين. لذلك كان لزاما عليها التصدي للغريب الجاهل بتلك الحدود، قبل أن يسترحمها من خلف اسوار صعدة بالنسب الذي  يربطه بالنبي، بينما لم يتوقف عن استنجاد المهاجرين- كما كان يطلق عليهم- من وراء البحار..
 
لعل الكف عن "الرسّي" كانت الخطيئة الأولى لليمني، قبل أن يرتكب أخرى ويضع ثقته في الإمام مجدداً من خلال الوثيقة التي جمعته وغالبية قبائل اليمن بهدف القضاء على "علي بن الفضل"، والتي أكد فيها على انصياعه لكافة بنودها، وعدم رغبته في حكم صنعاء، حتى انطلقت بشائر النصر بتراجع ابن الفضل في العام ٢٩٧ هجرية، لينقلب "الرسّي" على رفاق الحرب بسيطرة الطبرستانبين على صنعاء، ملقياً ما تعاهد عليه خلف ظهره..
 
لم يكن الإنتماء المذهبي، او القبلي، أو حتى الجهل وطيش الشباب، هو ما جعل الحسن الهمداني يحكم على الهادي الرسّي. كان الرجل هو من وصم نفسه بالعديد من المواقف الشائنة، قبل أن يطلق الغير أحكامهم عليه، ويُطرد مجدداً من صنعاء، جاراً أذيال هزيمته وخيبته، حتى توفي في صعدة العام التالي، ليخلفه الأضعف من أبناءه..
 
لم يكن مشروع الإمامة ليتضح من خلال شخصية مختلة التصرفات. وعلى الأغلب أن الهمداني، وغيره، وجد في صراع أبناء الرسّي نهاية محتومة لطموحات "طاغية مشرد"، قبل أن يعطيها ظهره في عامه الخامس والعشرين، ويشد لجام راحلته نحو مكة للحج وطلب العلم، دون ان يدرك بأن جولات صراعه مع الإمامة كانت تنتظره بعد سبع سنوات من تلك اللحظة..

السبت، 21 مارس 2020

الوباء الحي!..‏


نور ناجي

  مازلت أتذكر النظرة التي رمقتني بها والدتي حين سألتها عن أعراض المرض المفاجيء ‏الذي ‏إصاب "عمتها صفية"!..‏
 
‏ يبدو أن المرء يسقط الذكريات السيئة ويعوضها بالمريح. "فصفية" لازالت الأجمل في ‏ذهنها، ‏رغم مرور عشرات السنين منذ دفنت، وغيرها، في جبانة القرية. هذا ما ذكرته والدتي ‏متجنبة ‏إجابة سؤالي!.‏
 
عرف عن اليمني تفاعله مع أخبار العالم بإهتمام، وربما بحّدية لا مبرر لها، حتى تعتقد ‏أن ‏انقراض "النمر السيبيري" تهديد مباشر له! إلا أن ذلك التفاعل كان بارداً مقارنة بالقلق ‏العالمي ‏لانتشار فيروس "كورونا"!.‏
‏  ‏
لا أعتقد أن تأكيدات وزارة الصحة، بخلو اليمن من الإصابات، سبب اطمئنانه واكتفائه ‏بمتابعة ‏خط سير الوباء ببرود، وقد وشت ملامح البعض بسخرية مبطنة أمام إجراءات السلامة ‏التي ‏أخذ العالم يتخذها. فليس بحاجة لحدس عالٍ حتى يدرك عدم وجود منظومة حقيقية للحماية ‏من ‏الوباء، أو حتى احتوائه على أرضه!.‏
 
يحدث أن يحاصرك الماضي والواقع بمتلازمة غريبة، لا تكاد تغادرك حتى تعود ‏وتفرض ‏نفسها عليك قائلة بسخرية: "لا فكاك!!". فحتى سبتمبر ١٩٦٢م، لم تكن "الأوبئة" ‏منفردة من ‏تحصد أرواح اليمنيين، فقد كان المرض- مجرداً من كونه "وباء"- كفيل بالتفاقم ‏والقضاء على ‏الآلاف نتيجة عدم وجود أبسط قواعد الرعاية الصحية التي كانت محصورة على ‏‏"حكام ذلك ‏الزمن وعائلاتهم"!.‏
 
بعض الأرقام تشعرك بالخجل، حتى أنك تدهش من الأفواة الوقحة التي تحدثك عن ‏‏"إمام ‏عادل"، أو "إمامة" تؤكد حرصها على العدالة!!. فقد أشارت الطبيبة الفرنسية "كلودي ‏فايان" في ‏كتابها "كنت طبيبة في اليمن"، إلى أن 50 ٪ من المواليد اليمنيين كانوا عرضة ‏للوفاة إبان حكم ‏احمد حميد الدين، سواء كان ذلك نتيجة سوء التغذية أم انعدام الرعاية الصحية ‏لكل من الأم ‏وطفلها.‏
 
نسبة ثقيلة ولا بدّ، إلا أنها الثمن المقابل لكونك "أم" في ذلك الماضي. لا أعلم إن توجب ‏على ‏أمهات اليوم احتساب نسبة ما، مقابل التاريخ الذي لا يريد إلا إعادة نفسه!!. ‏
 
لم تنحصر معاناة اليمني في الأوبئة فقط، فلم تكد مجاعة تغادر أرضه، حتى تتقلص ‏أمعاؤه ‏لأشابح أخرى قادمة، كان بإمكان الكثير النجاة منها لولا ما سنت الإمامة من أتاوات ‏لإبقاء ‏اليمني في الفقر المدقع. "من عاش فهو عتيق، ومن مات فهو شهيد"، بتلك العبارة ‏الساخرة ‏أخفى الأئمة وسيلتهم في إنهاك اليمني، وللتقليل من نسبه ثوراته ضدهم..‏
 
تغير الكثير منذ العام ١٩٦٢م، إلا أن النقص الذي يشعر به البعض تجاه امتلاك اليمني ‏لحياته، ‏تجعله يحاول بكل جهد العودة إلى الخلف..‏
 
قد يكون المرض الحقيقي، الذي مازال اليمني يعانيه عبر مئات السنين، هو "الإمامة". ‏الوباء ‏الحي الذي يكشف عن نفسه بين الحين والآخر، وقد رأى في حياة اليمني"منحة"، بركته ‏فقط من ‏تسبب في وهبها له!!. وكما سلب من اليمني في الماضي حقه في حياة كريمة، أو حتى ‏مجرد ‏حياة، يعود اليوم بوجه قبيح لا يختلف عن وجوه أسلافه. ومازل البعض يتسائل عن سبب ‏عدم ‏مبالاة اليمني "بكورونا"؟!.‏
 
لم يعد اليمني يملك الوقت الكافي للانشغال بالفيروسات الجديدة، بينما القديمة مازالت ‏تحاول ‏الفتك به!!. كما أن العزلة الإجبارية، التي فرضت على شعب بأكمله نتيجة حربه ضد ‏‏"الوباء ‏الحي"، منحته مناعة يحتاجها الآن غيره. لعله وجد أن الأجدى به وضع كوفيد "التاسع ‏عشر" ‏ضمن الأقدار التي يجب عليه استقبالها برضى: لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، فما ‏يحمله ‏اليمني من ماض وحاضر يجعله مؤهل لاستقبال أي زوار جدد!.‏
 
لا تعتبر الفيروسات كائنات حية؛ مازالت أجساما لم يتمكن العلماء حتى اليوم من إيجاد ‏تعريف ‏مناسب لها. إلا أن اليمني أجبر على التعايش مع أوبئة حية تسير على قدمين.‏
 
‏ ربما لم تكن والدتي بحاجة فعلية لمهارتي في معرفة مصاب قريتها، فقد كانت تدرك مسبقاً ‏أن ‏الأوبئة الحية هي الأشد خطراً، والمتسبب الفعلي لكافة خساراتها!!.‏
 

الجمعة، 20 مارس 2020

ضياع وطن..


نور ناجي

  "هل قاموا بذلك حقاً؟ يا لهم من أوغاد!!".

يردد اليمني تلك العبارة بأسف قبل أن يطرح رأسه على وسادته ويغرق في النوم. لن يكون الرقاد سهلاً بضمير مثقل، لا بّد إذن من إيجاد "مُلام" كل ليلة!.
 
لا بأس إن كانت "قطر" من ستسقط عليها لومك وعتابك، أو ربما "الإمارات". من المستحسن تخفيف الهجوم على "السعودية" خلال هذه الفترة، فالجغرافيا تجبرنا على توخي الحذر والحرص، والكثير من الانحناء..
 
لا تقلق إن لم يكن مزاجك خليجياً، مازال لديك مجال واسع من الخيارات: بإمكانك مشاركة الحوثي لعناته على أمريكا وإسرائيل وكافة أعداء الإسلام، أو لعلك تأخذ الجانب المضاد له وتشير بكافة اصابعك متهماً إيران بالحال المزري الذي وصلت اليمن إليه..
 
اليمن ليست بخير!..
لن تجد يمني في داخل أرضه أو خارجها إلا واستشعر الوجع. تلك القبضة التي تعصر روحك حتى تكاد تلفظك منها. الأنين الذي تحاول الهاء نفسك عنه قبل أن تلوذ بالفرار من خرائطها وصورها. لعلك تستسلم لتلك المشاعر في بعض الليالي، فالدموع تزيح بعض من وزر تركها في هذا الحال قبل أن تنفث غضبك على العالم اجمعه، فالجميع مشارك في إرتكاب جرائمه على أرضنا- عدانا- نكرر  ذلك بكل إصرار..
 
ليس من السهل على شعب تباهى دوماً بحذاقته أن يعترف بأنه أضاع وطنه. حتى وأنت تحاصره بألغام يغرسها بين التراب، ستجده يلقي بتبعتها على آخر، قد يكون هذه المرة من بني جلدته: الأحزاب، الفساد، تراخي القبيلة،..الخ. لن يعجز اليمني عن إيجاد أسبابه حتى وهو ينعي فقدان وطنه!..
 
لكن ما هو الوطن الذي مازلنا نفقده كلما استعدناه!..
 
سيقطب أي فتى في صنعاء جبينه أمام معنى الوطن. لا يهتم الصغار عادة بمثل هذه الأسئلة، ربما لو طُرح علينا ذات السؤال قبل بضعة سنوات لاُصابنا بالحيرة. فلم نشغل أنفسنا حينها بما نملك، كنا قد حصرنا اهتمامنا بمداعبة النهار البارد بينما نرتشف كوب القهوة، التي كانت الذ حينها!..
 
قد يكون التعريف الأدق للوطن، بأنه الأرض التي تضفي للقهوة نكهتها..
 
كان لنا وطن ودولة قبل بضع سنوات، لكم أن تستغربوا، لكنها الحقيقة التي مازلنا نهرب من ذنب مشاركتنا في فقدها، وليس إلقاء الملامة على الغير سوى طريقة لإخفاء ذلك عن أنفسنا على الأقل.
 
أرض لم نؤلف لها الأغاني إلا من باب أداء الواجب أو ربما التسلية. تجاهلنا انينها الخافت، بينما أخذنا ننزع زهرها بلا مبالاة.
 
مازلنا نثقل عليها بدعساتنا دون أن نخشى هجرانها. "لا تهجر الأرض أماكنها!"، نقول ذلك بثقة، حتى جاء ذلك النهار واستيقظنا غرباء من أنفسنا ومنها..
 

مسألة رياضية ..


نور ناجي

  لم تخرج لحظة انقلاب الميليشيا- رغم صدمة وقوعها- عن كونها "مسألة رياضية"، لا ولن تعصى على الحل؛ إنقلاب كامل الأركان بواسطة ميليشيا مسلحة سينتج عنه ولا بدّ مقاومة مضادة حتى تتم إعادة الدولة!..
 
لم يكن المنطق الحسابي من يشير إلى ذلك وحسب، بل سانده رفض شعبي عم غالبية أطيافه..
 
ربما أتخذ البعض مبدأ الحياد حتى تهدأ  العاصفة، وهو يعلم في قراره نفسه أن مساندة قادة "حزب المؤتمر" لميليشيا لن تتخطى كونها وسيلة انتقام "مؤقتة"، أو "مكايدة سياسية" وجد فيها استحقاق مناسب لحزب "الإصلاح" المنافس، وإن قامر بذلك على مصير وطن بأكمله!..
 
رغم ذلك أكدت ساحات المعارك على إمكانية إنهاء الانقلاب والقضاء على الحوثي وإن ببطء وكلفة ضخمة. فقد أحتفظ اليمني بشروط النصر حين تمسك بعدالة قضيته وتشبث بالأرض التي أقسمت أن تحارب مع أبنائها الصادقين، وذلك ما حدث. تصدى اليمني لتمدد الحوثي الاهوج بسلاحه الشخصي ومساحة لا تكاد تكفي موضعا لقدميه في كل من تعز ومأرب!!..
 
" لا تؤدي محاولة قمع الشعوب- وإن طالت- إلا إلى مقاومتها وفرض إرادتها الحرة عليها.. "، قال المقاوم اليمني قبل أن تختل موازين المعادلة أمامه ويستعصي عليه حلها!.
 
يحدث أن يصاب البعض بالتكاسل، أو يُعمل ما يعتقد انه "مهارة" استغلال المتاح.
ما المانع في بعض المساعدة الخارجية؟! لا بدّ وأنها ستختصر وقت المعركة الطويل، كما ستمنحه غنائم مضاعفة!.
 
يجدر بنا الاعتراف بأن نسبة لا بأس بها من الشعب اليمني أيدت ذلك القرار السياسي ومنحته رضاها. خاصة وأن الأهداف التي طرحها التحالف بدت ببريق مخلص، كما أن اليمني لم يتوقع بأن تسوء حاله أكثر مما هي عليه!.
 
"شكرا سلمان"، العبارة التي أخذ اليمني يرددها على لسانه بكل سذاجة لارتال الأسلحة التي أخذت تعبر الحدود، رغم عدم تكافؤها أمام ما تم نهبه من قبل مليشيات الحوثي، فقد كانت سيطرة التحالف الجوية كفيلة بمنح المعركة بعض التوازن.
 
انضم اليمني إلى صفوف الجيش الوطني بكل حماس وتقدم في الجبهات، مستعيداً أرضه قبل أن تصله الأوامر بعدم تخطي الحدود! "من قام برسم تلك الخطوط الوهمية ولمصلحة من"؟!. لا يكاد ينهي تساؤله حتى تخرسه "النيران الصديقة" وتدفن ما تبقى من أسئلته الحائرة!.
 
هذا ما يحدث عندما تعبث بالمنطق، وتصدق بأن غيرك سيشعل حرباً نيابة عنك، معتبراً أن لمطالبك "قيمة" في معادلاته!..
 
قام التحالف بمنحنا بعض الأسلحة وساعد في نزع جزء كبير من الأراضي اليمنية التي استولت عليها الميليشيا، إلا أنه في المقابل سلب قرار اليمني، ونزع عنه الكثير من روح المقاومة- (سلاح اليمني الحقيقي)- في انتظار صدور أوامر جديدة بالتحرك!.
 
لا يمنح الانتظار النصر، أو حتى الثقة في حدوثه، إلا أنه ينضج الألم!.
 
وفي غمار ذلك الانتظار، قامت الميليشيا بتصفية حساباتها مع حلفائها القدامى!!.
"لا بدّ وأنهم سيكونون رافداً جديداً للجيش الوطني"، هذا ما يقوله المنطق، بعد أن ارتفعت فاتورة الثأرات ضد الميليشيا، إلا أن المؤتمر فضل أن يبقى جبهته ضد الحوثي بمنأى عن الشرعية- وإن استظل تحت ظلال التحالف!.
 
"لا بأس بعدم انضمامه، وإن حمل ذلك بعض الهواجس المستقبلية.. مازلنا نواجه عدوا واحدا، كما أن رائحة الفساد المنبعثة من الشرعية لم تكن لتشجع على تاييد مطلق" يقول البعض، قبل أن تعود الأقلام الحزبية للتراشق المزري وتبادل الاتهامات!.
 
أي معارك سقيمة يراد لليمني أن ينجر ورائها؟! يبدو أن البعض لا يقبل بالرضوخ "للحساب الرياضي" حتى يتذوق المزيد، والمزيد من الهزائم!!.
 
من المنطقي أن يزداد الانقلاب قوة، ويتمرد أصحاب المصالح الضيقة أمام هشاشة "الشرعية" التي أمست عاجزة حتى عن إبداء أبسط أنواع الرفض بعد فقدان قرارها. أي خنوع يجعلها تصمت عن عملية تمزيق اليمن، إلا إن كان ما يحدث مناسباً لتخليها عن مسؤوليتها، واستمراراً لعجلة فساد لم تكن لترضى بإيقافها؟!.
 
مازلنا نخطئ في الحساب حين اعتقدنا نصراً على يد "مُرابي" يجد في الحرب "مزاداً" لا ينبغي أن يتوقف حتى تنتهي طلقات المحاربين أو تجف دمائهم..
 
تتغير الأهداف مع تغير المعطيات. هذا ما تداركه التحالف الذي لم يكن ليرضيه "جوارٌ" يسعى لاستعادة قراره وإرادته الحرة، خاصة وقد مثل الجيش الذي قام بتسليحه خطورة مستقبلية. حيث- كما يعتقد- انتمى غالبية عناصره لحزب الإصلاح، الذي وقع في مأزق تقديم وفرة من التنازلات بغية درء شبه الإرهاب عنه، ليثير تساهله مزيداً من الشكوك!.
 
لعل التحالف وجد في الميليشيا بديلا أكثر انصياعا مقابل "دولة ركيكة" لم تكن تحلم الميليشيا بالحصول عليها..!
 
على الأغلب، أن المدن التي ساهم التحالف في تحريرها ستتساقط مجدداً، سواء كان  تباطؤه هو المتسبب، أو كان ذلك بفعل منتفعي الشرعية، قبل أن ينهي تواجده، ويستبدل "مقيمي الفنادق" بالميليشيا تحت أي إطار سياسي ينقذه من تورطه في اليمن ومساءلته عن ما ارتكبه فيها، متناسياً أن الجرائم الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
 
لم تكسر الهزائم اليمني، بقدر ما استنزفته المسرحيات العبثية التي مورست عليه، ومارسها هو أيضاً خلال سنوات الحرب. ولن يكون الأداء الختامي "المحتمل" سوى حبل إنقاذ من قيود السياسة ومأزق الاتكالية الذي وقع فيه، ليعود إلى نقطة البدء ومعادلة نصرها البطيء: "مقاوماً" كما يفترض به، وبكامل قراره وإرادته "وأهدافه الموحدة"، التي لم ينبغي عليه منذ البدء المساومة عليها..
 
 

الأحد، 15 مارس 2020

عمامة الجهل..


نور ناجي

لم يشعر "الإمام المنصور عبد الله إبن الحمزة" بالخطر نتيجة سيطرة الايوبيين على اليمن بعد منتصف القرن الخامس الهجري، مازال المحتل يروح ويغدو حتى تنتهي مصالحه أو تتخطى كلفتها ما يمكن تحمله..
 
"لا بأس إذن من توسع الأرض أو تقلصها مادامت عمامة الإمامة موضوعة على رأسه!"..
 
بديهية استقاها الحمزة وغيره من الطامحين لتلك "العمامة" منذ تاريخ استقرارهم في اليمن، ولم تكن الهدنة مع المحتل سوى تفرغ منه لمواجهة خطر "المطرفية" التي اقتربت من "عمامة الإمامة"، دون أن تدرك تبعات فعلها!
 
لن تجد الكثير عن المطرفية، فقد كان الحمزة حريصاً على إبادة كافة تراثها الثقافي والفكري، إلا أن القليل الذي وصل إلينا عبر أقلام "محايدة" أكد بأنها فرقة قطعت في العلوم شوطاً طويلاً، لتجد فيها الطبيب ومعلم الفلسفة وعالم الفلك، رفاهية لم يحملها واقع ذلك الوقت القاسي، إلا أنها أثبتت حضورها حتى أقرت للمرأة الحق في تحصيل العلم ليمسي بينها العالمة والمتفقهة في الدين.
 
ومازالت المطرفية تعمل العقل قبل النقل اخلاصاً لمبادئ "المعتزلة" في عقائدها حتى وقفت أمام حجة "البطنين" وبدأت في تفنيدها والدعوة بما خلصت إليه من عدم وجوب "الانتماء الفاطمي" كشرط أساسي من شروط اختيار الحاكم!
 
لم يكن ذلك خروج عن الزيدية كما يرى البعض فقد كانت "المطرفية" من أكثر الفرق الزيدية تأييداً لأراء "الهادي" حتى أنها منعت وحرمت الخروج عن "مبادئه"، ربما لم تكن فتواها في المقام الأول سوى سعي مخلص لإصلاح المذهب وحفظه من العيوب، فلم يكن "إعمال العقل" الذي تدعو له ليمرر حجة بذلك الضعف، إلا أن مثل ذلك "الاجتهاد" لم يكن ليرضي أمام قائم أو آخر يرى في نفسه الصلاحية، ولم يعفها لاحقاً من النهاية التي كتبت لها.
 
التقى "عبدالله بن الحمزة" بالكثير من علماء المطرفية في محاولة منه لمناظرتهم ليخرج بعد تلك المواجهات رغم ما اشتهر عنه من علم وقد تساقطت حججه أمام ما ساق له المطارفة، وعجز أمام ما وضعت له الفرقة من أدلة وبراهين، قبل أن يقرر إنهاء المهزلة التي اخذ العامة يتداول فصولها بينهم البين.
 
تذكر بعض المصادر أن أعداد ضحايا الحمزة من فرقة "المطرفية" فاق المائة ألف، لم يرفعوا السلاح ولم يتوقعوا الحرب أمام "الكفر بالإلزام" الحكم الذي لم يقتصره عليهم، بل امتدت ليشمل كافة معارضي فعله، دون أن ينسى توثيق ما قام به بأبيات ركيكة:
 
لست ابن حمزة إن تركت جماعة
متجمعين بقاعة للمنكر
ولأتركنهم كمثل عجائز
يبكين حول جنازة لم تقبر
ولأروين البيض من أعناقهم
وسنابك الخيل الجياد الضمر
 
يرى بعض المؤرخين أن تجرأ المطارفة على طرح فكرة أحقية خلافة المسلمين لم تكن لتثير ذلك الجدل لولا تأييد الكثير من "الهواشم" المنتمين للمطارفة، لكن التجاوزات التي وصلت إلى حد إحراق الناس احياء قبل هدم وحرق قراهم ومزارعهم، لم تبرر تطرف ابن الحمزة، فلم تكن المطرفية أو افرادها أول من طرحت ذلك الرأي، فقد سبق ونادى به الكثيرين دون أن يلحقهم ذلك القدر من الأذى، فلماذا نالت المطرفية ما نالت؟!
 
لا تحمل الأفكار بذاتها خطراً حين تلقى على شعب مورس عليه الاستبداد حتى أعتقد بأنها طريقة العيش الوحيدة، تبقى الأفكار مجرد حروف لا قيمة لها إلا أن تستند على قاعدة قوية تؤكد لذلك الشعب حقه في حياة أفضل وتهيئ له طريقة الحصول عليها، ولن نجد أقصر من المعرفة طريقا لتلك الحياة.
 
ربما جلس اليمني منبهراً أمام نظرية خلق العناصر الأربع: "الماء، الهواء، التراب، النار"، التي أخذت المطرفية تقول بها قبل أن يقبض على حفنة من التراب ويتحسر على تركه لحقله من أجل القيام بمعارك هنا أو هناك، لم يكن من قبل ليعترض عليها تنفيذاً لأوامر "الدين" حتى لاحت له بعض احتمالات وشكوك "عملية نقل خاطئة" لما قدم له من دين.
 
لعله نفض عنه ما يراوده ليعود للإنصات مجدداً لمباحث "الإحالة والاستحالة" وقد تذكر ما تناقله الأجداد عن حضارة كانت على هذه الأرض قبل أن تبيد، "ربما لم يفت الوقت بعد وبإمكاني إعادة بناءها من جديد؟!" يتساءل اليمني وقد نبت في قلبه بعض الأمل.
 
لم تكن تلك الأسئلة أو "المنهج العلمي" الذي استندت عليه المطرفية ليغيب عن "الحمزة" فسارع للقضاء عليه، دون أن يركن إلى حمية قد تثار لدى البعض جراء دراسة الفلسفة، كانت إقامة المذابح أخف وطأة وأكثر أماناً له من السكوت عن إنتشار العلم، فليس من السهل قيادة شعب لن يكتفي بعد عملية تنويره بمناقشة الفتاوى!
 
أصر "السفاح" على التنكيل بكافة أفراد المطارفة وعلى مدى عشرات السنين، رجالا ونساءاً، دون أن ترضيه عمليات القتل السريعة، فمازال يتلذذ بتعذيب "الجناة" وملاحقة من حاول الفرار منهم، رافضاً رفضاً قاطعاً استتابة البعض ورجوعهم عما كانوا يدعون إليه، ليختتم المجازر بقولته الشهيرة بعد أن ثبت عمامته عليه: "لا فرق بين أعمالنا وأعمال الطغاة إلا بالنية!".
 
هل كان عبدالله بن الحمزة ليستهين بمحدثيه بمثل هذه العبارة أن لم تتكئ عمامته على جهل قضى عقوداً في تثبيته؟!، لا أعتقد ذلك!
 
ربما لم تختلف ظروف اليوم عن الأمس، فمازالت المجازر ترتكب في حق هذا الشعب بشكل أو آخر دون أن تبتعد عن منهج عبدالله بن الحمزة "وعمامته"، التي توجب عليها إعادة تجهيل الشعب حتى تتمكن من حكمه، لك أن ترى كيف تمهد لنفسها عبر قنواتها الإعلامية أو عبر الدورات "التجهيلية" التي لم تتوقف منذ اللحظات الأولى للانقلاب، لن تستغرب استقتال الإمامة لفرض سيطرتها على المنشاءات التعليمية وما يطرح عليها، وقد أدركت بأن اغلاقها بات أمرا عسيراً.
 
"كما أن للعجلة أن تتقدم للأمام بإمكانها العودة للخلف بكل بسر!" يقول الأئمة الجدد في حربهم الجديدة، دون أن يدركوا بأن المراهنة على العودة للوراء لا يعني بالضرورة إيقاف عجلات الزمن عند حقبة مناسبة لها، فكما لبست الإمامة عمامتها على هذه الأرض، لم يغمد اليمني بالمقابل خنجره عنها!

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...