الجمعة، 30 نوفمبر 2018

الشاعر الثائرنور ناجي٣٠ نوفمبر ٢٠١٨

نحتاج بين الحين والآخر ليوم غواية، شغف محموم بين دواوين الشعر، دون خشية مقاطعة أو ازدحام أهوج لساحاته ومجالسه، لحظات خاصة فقط بأولئك الذين أطلق عليهم جوراً "شعراء الجاهلية" نسبة لعصرهم، فأين الجاهلية من عبقريتهم ونبوغهم؟!

يدعُونَ " عنترُ " والرّماحُ كأنّها .. أشطانُ بئر في لبَان الأدهمِ..

مثل هذه الليلة المقمرة تستحق السفر لمضارب بني عبس والاقتراب من خيمة فارسها عنترة بن شداد التي قضى فيها جزءً غير يسير من حياته بعبودية لا تختلف عما تعانية مدينتي المحاصرة بالقضبان، على الرغم من سهولة ألفاظ شعر الأخ عنترة إلا أني وضعت القاموس جواري، من باب الحيطة والاحتراز وقد تذكرت حيرتي إزاء ما قاله امرؤ القيس قبل مماته: "رب جفنة مثعنجرة وطعنة مسحنفرة وخطبة محبرة،، تبقى غداً بأنقرة!!".

لمن لا يعرف: ابتدأت العبودية في التاريخ البشري مبكراً، واعتبرت تحولاً ايجابياً في تاريخ التطور الأخلاقي الإنساني، بعد إن استبدل الإنسان قتل الخصم وأكل لحمه إلى محطات استرقاق تتبدل عبر الزمن من شكل لآخر..

كان الشاعر "عنترة بن شداد" عبداً ضمن سياق تعريف العبيد في العصر الجاهلي للجزيرة العربية: "متاع، كائن يعامل (كشيء) يبيعه صاحبه وسيده متى شاء، يرهنه وفاءً لدين أو لعله ينهي حياته إن عاد عليه موته بالفائدة"، لذلك قد نصاب بالدهشة حين نقرأ لعبد سابق مثل هذه الأبيات المكتظة بالقوة الحكيمة التي لم يكن بحاجة لها في مهام يومه المجهدة..

حكّمْ سيُوفَكَ في رقابِ العُذَّل،،

واذا نزلتْ بدار ذلَّ فارحل

وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً،،

واذا لقيت ذوي الجهالة ِ فاجهل..

اكملت ترديد القصيدة بدهشة مسموعة التقطت أذناي كل حروفها، ببطئ مضغ قطع حلوى تخشى انتهاءها:

وإذا الجبانُ نهاكَ يوْمَ كريهة،،

خوفاً عليكَ من ازدحام الجحفل

فاعْصِ مقالَتهُ ولا تَحْفلْ بها،،

واقْدِمْ إذا حَقَّ اللِّقا في الأَوَّل

واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به،،

أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَل!!..

تشعرك قصيدة عنترة بقسوة السينما العربية التي فرضت علينا محاكاة الفنان الكبير "فريد شوقي" رحمه الله لدور عنتر بن شداد. رغم لطافة الفيلم القديم، والمواقف الطريفة لشيبوب، إلا أنه كان مأساة لمتذوقي الشعر والتاريخ، وقد وجد المخرج أن تقمص روح الشاعر ستبرز من خلال طلاء أسود على وجه البطل وستتجلى بمعالجة سطحية لقصة حب ساذجة، لا أبعاد حقيقية لمعاناة الشاعر فيها..

هل كانت مشاعر عنترة تجاة عبلة مجرد حب عذري لابنة عمة التي رفض والدها تزويجه أياها، أم أنها معركة وجودية بين ثورة فارس حقيقية ونفسه الخانعة؟!. أنت أمام شخصٍ تربى على تقديس العبودية، والرضا بها كجزء عزيز في نفسه وقد تجسدت أمامه بوالدته التي دفع ثمنها في سوق النخاسة، وبين دهشة حرية تذوقها متاخراً بعد أن استدعي لإنقاذ قبيلته!!

لم يدرك لحظتها المكانة التي منحتها له قوته الجسدية وحسب، بل شعر بقوة أخرى كامنة في قلبه، حين اكتشف الإمكانية المتاحة للعبيد بالعشق كأسيادهم تماماً، لن يغفل القارىء عن ملاحظة الارتباط الوثيق بين عبلة و "سيفه البارق كثغرها المتبسم" !..

من خلال مقارنة وضع عنترة في العصر الجاهلي وما أراه في العالم "المتحضر"، أعتقد أن زملاء عنترة من العبيد كانوا أول من أنكر ثورة رفيقهم وصراعه مع نفسه، فالبعض يعشق العبودية، وإن اختفت من أدراج أسياده صكوكها الصدئة وحروزها، تعرف هذه الوجوه العاشقة للقيود من سيمائهم، من بحثهم الدؤوب عن طاعة صاغرة، إن اختفى سيدهم المختار اليوم سيجدون غيره في الغد، عبودية البعض "عقلية"، تفضل يقيناً عجائزياً جنائزياً على إعمال عقولهم، وكأنهم يخشون خوض الحياة منفردين، ناقصي الأهلية بلا توجيهات وأوامر!!

تساءلت وأنا في خضم صراعات الثائر، كأي يمني يحترم عاداته "التي تدعو للشفقة"، عن أصل عنترة واسم عائلته، وإن كانت قبيلته تنتمي لأصول يمنية، لكني لم أكد أنادي محرك البحث "جوجل "، حتى فوجئت ببعض أبيات الشعر تنتزع نفسها من على سطح القصيدة، لتقف أمامي متقمصة دور عنترة  عاقداً حاجبيه مغضب الجبين وقد تحركت كفه صوب مقبض سيفه المعلق وهو يهتف بحنق:

إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي،،

فوق الثريا والسماكِ الأعزل،،

أو أنكرتْ فرسانُ عبسٍ نسبتي،،

فسنان رمحي والحسام يقرُّ لي

وبذابلي ومهندي نلتُ العلاَ،،

لا بالقرابة ِ والعديدِ الأَجزل!!

مخطىءٌ من يعتقد أن الشعر والأدب مجرد وسيلة ترفية نقضي بها أوقات فراغنا، نزهة نتابع من خلالها قصص مسلية. حين تتجول بين أبيات شاعر ما، لا تردد ما قيل على طرف لسانه أو قلبه، بل تسير على أرضه، تشتم رائحة أيامه، ترث جزءً من معاناته عاش تفاصيلها، من أنا لأجادل إرادة عنتر التي غيرت نسبه في غمضة عين، ما بين ميلاد بيت شعر وانتهائه خلع عنه أوراق هوية القبيلة_ التي أنكرت نسب لونه_  واستبدلها بالرماح والحسام كشاهدي تعريف مناسبين له..

لم يكن الأمر بسهولة ترديد الشعر فأنت أمام مجتمع عنصري، يتفاخر فيه أفراد القبائل بحسبهم ونسبهم الذي يفتقده، يرى ذلك في نظرتهم لبشرته السوداء، ويسمعها عبر "زواملهم وعنترياتهم"، لعل القسوة في بعض أبياته لم تكن موجهة لعدوه وحسب بل كانت إعلان ثورة وانتقام على عنصرية مجتمعيه بتهديد غير مباشرة وهو يقول:

ولقد نكبت بني حريقة َ نكبة ً،،

لما طعنتُ صميم قلب الأخيل

وقتلْتُ فارسَهُمْ ربيعة َ عَنْوَة ً،،

والهيْذُبانَ وجابرَ بْنَ مُهلهل

وابنى ربيعة َوالحريسَ ومالكا،،

والزّبْرِقانُ غدا طريحَ الجَنْدل..

كان السيف والدماء الحية المتساقطة من حروفه السلاح الأقسى والأمثل لرهان قبول المجتمع بلونه الأسمر، فما زال يحمل عقدته الأزلية التي لا أعلم يقينا عدد السنوات التي سرقت من عمره وهو يصارعها حتى تغلب عليها، وصفع قبيلته بسن قانون جديد، رفع به من شأن "والدته" التي لم تكن لائقة بالشكل المناسب لمواصفات جاهلية ذلك العصر، وراح بكل امتنان يصف الجسد الذي قبل به دون أن يرفع له حد السخرية والعنصرية:

وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها،،

ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزل

الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ،،

والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُل

والثغر من تحتِ اللثام كأنه،،

برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَل..

لم يطلق " لفظة الجاهلية " على ذلك العصر مجازاً، المفارقة أن شيئاً لم يتغير على مدى القرون التي تفصلنا عن الشاعر، وكأن عجلات الزمن عادت للوراء، وعدنا لعصر أشد جهلا وقسوة، فحين تكون لوحة شجرة سلالة معلقة على صدر مجتمع هي الوسيلة الوحيدة للتباهي والتفاخر فاعلم أنك غارق حتى اذنيك في جاهلية صفراء مقيتة، وما يثير السخرية فعلا بأن شرط قبولك الوحيد للحياة في "الجاهلية المعاصرة" هي امتثال وطاعة لعبودية أقسى من تلك التي عانى منها عنترة بن شداد!

أنت عبد، لا تمت "لعنترة" بصلة، ولن تثأر لأرضك "سويداء الجبين" كالثائر الأول، لا تستطيع إخفاء أنك "زنبيل " على نفسك أو مجتمعك، وإن استيقظت يوماً وقد أصابتك حالة غثيان من نفسك حاول اسيعاب وحفظ ما أنتهت به القصيدة:

لا تسقيني ماءَ الحياة ِ بذلة ٍ،،

بل فاسقني بالعزَّ كاس الحنظل

ماءُ الحياة ِ بذلة ٍ كجهنم،،

وجهنم بالعزَّ أطيبُ منزل..


* المقال خاص بالمصدر أونلاين


الأحد، 25 نوفمبر 2018

اغدا القاك؟!

تملك النساء بجانب نون النسوة ميزة إلهية لا يملكها الرجال، ربما لانعدام حاجتهم إليها أو لعدم استحقاقهم مثل هذه المكافأة، فالأمر أكبر من أن يستوعبوا أهميته أو يدركوا ابعاده، من يعلم ومن يهتم على أية حال؟!..

" نعمة البكاء "..
لا أتكلم هنا عن خاصية البكاء العادي المتعارف والمتداول بين البشر في ظروف الحزن أو صفعات الزمن، بل ذلك الذي يطرق بابك بلا استئذان أو أسباب، تجد المرأة نفسها في بداية صباح مشرق لطيف ودون أي مبرر أو أسباب تصدر لنفسها قرار سيادي يوجهها للقيام بموجة بكاء حارة، تتراوح  ما بين البكاء العميق الهادىء حتى نوبات التشنج العنيف التي تتطلب عادة بعض من البهارات وأحداث الاكشن التي تلزمها بإيجاد ضحية محتملة تسقط عليها تبعات النواح واسبابه الملفقة، التي قد يكون تهديد انقراض طائر البطريق احداها..

وقد قررت هذا النهار أن الوقت ملائم للاستمتاع بهذه النعمة الإلهية، وبدأت مبكراً بأداء طقوس البكاء الغير مسبب، بحثت عن ضحية حية مناسبة إلا أني عدلت عن هدفي في اللحظة الاخيرة، ليس عجزا مني لكني لست في مزاج يسمح بتحمل تبعات النوبة الجنونية التي كنت على وشك تنفيذها..

حتى وجدته في المطبخ متكئاً على سلة الخضار، بلونه الوردي المستفز وكبريائه التي تشعرك بالغيظ:"  من تظن نفسك ايها البصل المغرور، لست أنا من ينظر اليه بهذا البرود، أو يلقى عليه بالتهم جزافاً، كلانا يعلم الفاعل الحقيقي المتسبب بتلويث أجواء كوكب الأرض، وسمح باهمال مريع بتوسع ثقب الاوزون فكف عن اتهامي بذلك !"..

استدرت ببرود لتجهيز ادوات مهمتي الإنسانية بعد أن رمقت البصلات المغرورة بنظراتي الميتة وقد اشتممت بين اغلفتها رائحة ارتعاشة الخوف بعد أن ايقنت نهايتها المحتومة.
 لوح تقطيع الخضار الخشبي في كامل جهوزيته امامي، وقد اطبق شفتيه وعينيه في انتظار ضربات السكين الحاد الذي أخذت بشحذه بهمة ونشاط، قبل أن اتنقل خلال شاشة الهاتف، بحثاً عن موسيقى تصويرية مناسبة للحدث المقدس !!

كانت أم كلثوم في شدة اللطف معي ليلة البارحة اخذتني معها لعالم نوراني حالم وهي تشدو لي بأبيات قصيدة " اغدا القاك " في حفل خصتني به دون عن العالم وقد ارتدت لي ثوب انيق متدرج بين الأبيض والاسود ومنديلها الحريري الناعم يتهادى بخفة بين حركاتها:
أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدِ،،
يالشوقي وإحتراقي فى إنتظار الموعد!!

الجاهل في الموسيقى يعتقد بأن المساء فقط هو الموعد المناسب للاستماع لكوكب الشرق، قلة من يدركون قيمتها الفنية في البدايات الأولى للصباح، فلترافقني إذن لتكمل لي ما فاتني من حفلة البارحة..
همست للسكين الذي ازداد لهاثه المحموم وسال لعابه على شدقيه أن يكون مهذب ويكف عن تعذيب البصل، مسح فمه على عجل بحركة سوقية قبل أن يقترب من رأس البصلة الأولى التي اغشي عليها فجأة، يدعي البعض القوة حتى يواجه أولى تجارب الحياة الحقيقة!!..

لن أكون متوحشة وانزع روح جسد فاقد للوعي، يجب على ضحيتي الاستمتاع بكل ما امنحه لها، قبضت على رأس اخر من بصلاتي وهشمت رأسها بحركة خاطفة، لانعش برائحتها تلك الفاقدة للوعي وانا اتمتم  لها بحنان وبكلمات رقيقة مطمئنة بأن لا تخشى شيئا وأن كل شيء سيسير على ما يرام، بالطبع كنت اكذب، لا شيء يسير وفقا لما يتمنى المرء خاصة بالنسبة لي وللبصلة وفي هذه اللحظة، مهما حاولت ام كلثوم تعزيتنا :
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه إقترابا
كنت أستدنيه لكن هبته لما أنابَ
وأهلت فرحة القرب به حين استجابا
هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا!! 

توقفت كثيرا عند نهاية البيت وكررته على نفسي "هكذا نحتمل العمر نعيما وعذاباّ"، لذلك يا عزيزتي البصلة يجب أن تتحتملي عذابك النهائي بذات الشجاعة التي تقبلت فيها نعيم الحياة في السابق، لم يحدد الشاعر " الهادي ادم " في ابياته  الطريقة التي يجب علينا احتمال العمر بها، البعض يحتملها بالاماني وكثيرون وأنا منهم نخفف اعباء الحياة وعذابها بقتل البصل !!، لا يوجد خلاف بين الطريقتين بل مجرد اختلاف ثقافات!..
بدون تردد ممرت طرف السكين  على رأس الشهيدة وجززت عنقها بكل إصرار وترصد، ولم تزدني شقهة النهاية لضحيتي سوى لذة سرت تحت جلدي بشعور رائع قلما أحسست به!..

سارعت أصابعي في وتيرة عملها بسرعة واحترافية كبيرة دون حتى أن القي نظرة اشفاق لرؤوس واحشاء البصل التي تناثرت حولي، لأشعر اخيراً بحرقة في اجفاني وهي تنبىء بدمعات تنتظر لحظة الإنفجار، اهتز منديل السيدة أم كلثوم وقد امتدت حماستي اليها :
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك فى ليل عيوني
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني
كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء!!
لن تجدي عزيزتي المرأة أكثر من هذه الابيات لتذرفي عليها دموعك، انصحك باستخدامها..

لعلي أكف الان عن ادعاء القوة، اعترف لكم باحساس الذنب الذي يأكل روحي وأنا أفرم أجساد الضحايا أمامي، ذنب يقطعني ويثقل كاهلي حتى اقتربت روحي من هلاكها، لكن ما باليد حيلة لقد تم الأمر وانقضى ولن يعيدني الانغماس في شعور الذنب عما حدث، على العكس تماماً، شعور الخطيئة الدائم يجعلك تعتاد عليها وتسعى لتكرارها املاً في تخفيف وقع صدمة وقوعها الأول، لم تشعر كوكب الشرق بما يعتريني  وقد امتدت عدوي الدموع اليها :
يا رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء
أنا لو لا أنت لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا لغدِ الآن بأحلام اللقاء
فأت أو لا تأتي أو فإفعل بقلبي ما تشاء
أغداً ألقاك؟! ..

وصلت دموعي لذروتها عند لحظة التساؤل المندهش ؟! اغدا القاك ؟!
نظرت للبصل الذي انتهيت منه!!
لم يعد لبقايا اجسادها المفرومة على يدي من غد كانت ترجوه وتتمناه، أي سبب للبكاء أشد وانكى من هذا السبب، وضعت السكين واسندت جبيني على الطاولة لانفجر في نحيب تحسدني عليه الكثيرات !!

لم تستطع كلمات المواساة الحارة التي وضعت كفها على كتفي بحنان وانحنت على أذني لتهمس لي :
هذه الدنيا كتابٌ أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيونٌ أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماءٌ أنت فيها القمر
فإرحم القلب الذي يصبو إليك
فغداً تملكه بين يديك!!

لم اتمالك نفسي وافتتحت مرحلة العويل لامد يدي وأشد منديل كوكب الشرق من بين اناملها  وهي تنظر لي باستنكار، دون أن تتوقف عن أدائها الشجي:
وغداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلاّ
وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى
وغداً نزهو فلا نعرف للغيب محلا
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا..

مسحت اثار دموعي وما علق على أنفي من بقايا بكاء، وأنا أفكر جدياً ببقايا الضحايا المسفوكة على طاولة مطبخي وكيفية اخفاء جثامينها، قبل أن تنجدني ذاكرتي بطريقة طهو " الزقني " التي ارسلتها لي جارتي قبل بضعة أيام، راجعتها سريعاً قبل أن أقف أمام الفرن واتخيل رائحة وجبة الغداء بكل تفاؤل!.
سحبت ميكروفون السيدة أم كلثوم دون أستئذانها إنهاء قطعتها الرائعة، ورفعت عقيرتي بنشازي الذي بدى رائعا تلك اللحظة وهو يشدو:
قد يكون الغيب حلواً ..
إنما الحاضر أحلى!!..
أغدا القاك !!

أعدت ام كلثوم لنقطة البداية وأنا اشعل الموقد لاخفي ضحايا بكائي بين وجبة الغداء وقد جددت نشاطي بعصر جميع الدمع التي كانت مخفية في جعبتي، لأشعر بارتياح كامل وخفة في وزني!!..
 لذلك أردد دائما أن البكاء نعمة، لا يستحقها الجميع ..

نور ناجي

السبت، 24 نوفمبر 2018

"فتحية".. ومطلب العدالة


نور ناجي

 جلست فتحية على رأس الديوان بلهجة القرية النقية، وجسدها الرفيع ككبرياء حرف الألف وهمزة لثامها الذي لا يفارقها. كنت أعرف فتحية منذ سنوات لكنها تبالغ في الغياب ككل الأشياء الجميلة في حياتنا.
 
كلٌ منا قابل يوماً ما شخصا شبيه بفتحية. القوي الذي يخفي اوجاعه خلف جدار صلب، وإن بدى منها طرف سخر وهو يلهو بها كدمية خيوطها بين يديه. يشعرك مثل هذا الشخص، وأنت تقارن مصابه بحالك، بأنك طفل متباكي على قطعة حلوى.
 
انتزعتني قبضتها القوية من حالة تشتتي لتعيد الشقوق التي تملئ وجهها ويديها ترتيب جزء مني. كانت شقوق كف فتحية بحاجة لعمر إضافي لمحاولة رأبها. إلا أن شقوق البعض، بقدر ما تجرح صاحبها، تسمح للضوء بولوجه. لذلك تجده مبتسم بثقة طوال الوقت.
 
أعادت لي ذاكرتي الضعفية بعض من قصتها وهي تجلس بجواري: انتزاع أطفالها الصغار من أحضانها بعد أن طلقها والدها من زوجها الذي كان قد أغضبه في جلسة مقيل. أتذكر جيداً وجود "هَجَر" لم يدفع للوالد، "وثور" لم يقبل الزوج بذبحه. لتقضى فتحية حياتها وحيدة إلا من بعض زيارات لأبنائها في سنواتها الأخيرة.
 
لم أتوقع أن الهربَ من حديث الحرب أمر صعب حتى مع فتحية المرأة القروية البسيطة، التي أمسكت بغصن القات الذي غرسته وسهرت على حمايته بيديها، لتبدأ بسرد الأحداث الدائرة في جبهة مريس ودمت. صححت بطرف الغصن على أرضية الديوان خريطتي الخاطئة لسير المعارك بكل دقة، وهي تؤكد حقيقة المعارك لسماعها بعض الانفجارات ومشاهدة هروب بعض من أفراد الميليشيا بأم عينيها.
 
"كانوا حفاة الأقدام، شعث مدبرين" قالت فتحية؛ يتلفتون حولهم خوفاً من اقتراب جنود الجيش الوطني الذين لم يفصلهم عنهم سوى ساعات وإرادة (أرجو ألا زيف فيها هذه المرة). لوت شفتيها بقرف وهي تعيد العبارة التي ألقتها عليهم ما أن لمحتهم أسفل حقلها: "لو مسكت أنت وهو المفرس، وشقيت بأرض أبوك وجدك ما تبهذلتم هذي البهذلة". أعادت الموقف أكثر من مرة على مسامع النساء اللواتي شدهن ضوء ابتسامتها المنيرة للمكان، وكأنها تسرد نصر شخصي لها. هتفت احداهن: "ما خفتي، لا جبرش"؟ جزت فتحية أسنانها بصوت مسموع وهي تجيب: "والله لو معي سلاح كنت قنصتهم بنفسي".
 
ألقت بعض النسوة عبارات ساخرة على تباطؤ وتخاذل حكومة الشرعية والجيش الوطني، لتتصدى فتحية للدفاع عنهم باستماتة وإيمان أعمى لم أجده في أكبر منظريها وصحفييها، دون أن تتوقف عن رجائها من الله إتمام نصره عليهم، وهي تغلق كل عبارة بدعوة: "أنا فدوهم".
 
اصابتني حماستها بالدهشة! ما سر حربها الصغيرة التي تقودها في المكان، سيدة لم تقرأ يوماً ولم تعرف التاريخ لتدرك الأبعاد السياسية أو العقائدية لفكر جماعة الحوثي؟! ليست موظفة لتتضرر من قطع راتبها، ولم تقم الجماعة نقطة عسكرية حال بينها وبين حقلها. على العكس من ذلك، مُنعت اغنامها من الرعي بالقرب من معسكرات الدولة سابقاً، كما ذكرت لإحداهن، فلماذا نصرت الشرعية دوناً عن أي جماعة غيرها؟!
 
ترددت قليلا قبل طرح سؤالي، وتلقي رده منها: "يا بنتي لازم الحق ينتصر مرة، الى ايحين بيبقى الظلم محلق فوقنا"؟ غص قلبي حين أطل من عينيها، وفي لحظة ضعف، الوجع الذي قضت أيامها في طيه وكتمانه. توق وحاجة إنسانية لهزيمة ظلم بيَن بلغ غايته. ترجو هزيمته والنصر عليه، سواء نالت جزء من ذلك النصر وعدالته، أم مر عليها دون أن تصيبها ثماره.
 
لم تكن فتحية فقط من تطالب بالعدالة. ملايين من هذا الشعب طالب بها بسلمية قريبة للسذاجة قبل قيام الحرب. ومازالوا يحملونها، وان اختلطت بالكثير من الخيبات. ورغبة، وإن كانت خفية حتى عن أنفسهم، باستخدام العنف (كفتحية تماما)، لتحقيق ما يصبون اليه، بينما يراقبون وهج المعارك التي لا تلبث أن تشتعل حتى تخبو.
 
تسير فوق مأزق وجودي صعب، حين تضطرك الحياة للبحث عن عدالة. تخشى من السير مرغماً على ما يراد لك من عبودية لا تقبلها على نفسك. وتفزع في نفس الوقت من لحظة انهيار جدار انسانيتك الهشة وانزلاقك لمنفذ وحيد ينتظرك وهو يمد لك بسلاح همجيتك الجديد...!
 

الاثنين، 19 نوفمبر 2018

والقلب اذا هوى !!..
" ٢ "
لم أكن قد ميزت إن كان ما أراه حقيقة أم انني ما زلت ملتصقة بالنوم كناموسة على سطح صابون مبلول، دققت نظري بأجفان شبه مغلقة، قبل أن اعاود اطباقها سريعاً، "هل لمحتني يا ترى؟!"،
صرخ قلبي مستنكراً :" ما الذي أتى بها اليوم ؟!، رباااه، إن كنت في حلم فايقظني على عجل، وإن كانت زيارة حقيقة أرجوك اخفني في أحد كهوف النسيان لبضع مئات من السنين فقط!!"..
لعلكم تتسائلون عن المتربعة فوق مقعد التسريحة، وتحدق فاغرة فمها للمرآة بتركيز لنزع شعرة من حاجبها الأيمن؟!..
أنها " انا"، بشكل أدق النسخة المتفائلة من " نور "، تلك الساذجة التي لا تكف عن طرح المشاريع الفاشلة ورسم خطط الخزعبلات الوهمية التي لا تخرج عن نهاية مكرمشة ملقاه أوراقها في سلة المهملات، ما الذي جاء " بنور المتفائلة" هذا النهار بعد غياب ظننت أن لا رجعة له ..
طال وقت ادعائي النوم حتى يتسلل اليها الملل لعلها تغادر بصمت كما جاءت، لكن يبدو من خلال استراقي النظر لجلستها المستريحة أنها ستنتظر في الغالب لحظة استيقاظي ، لا مفر اذن، رفعت رأسي اخيراً من الوسادة اهرش شعري متثائبة في تكاسل :" ما الذي جاء بك في هذا الوقت المبكر ؟!"..
تركت " نور المتفائلة " المقعد لتقفز على طرف السرير بحدقات تلمع عليها آلاف النجوم، وهي تخرج عباراتها التي يبدو من سرعتها انها معدة سلفاً :" صباح الخير، مفاااااجاااأة، جئت لكِ بفكرة عبقرية، غير معقولة، سأنال عليها شكرك العميق لبقية أيام حياتك أو حياتنا لا فرق "، زممت شفتي وأنا أفكر بطريقة اقطع فيها الرباط المقدس بيننا، قبل أن اهز لها رأسي أن تكمل :" التوقف النهائي عن أحاديث السياسة، لا اخبار، أو متابعة للجبهات المفتوحة او تلك التي لم تكتفي من الإستراحة، لن نأتي مطلقاً على ذكر المفاوضات أو غريفث، لا حرب بعد اليوم، عملية فورمات كامل  لذاكرتنا حتى اربع سنوات مضت، وإن اضطررنا لمحو جميع ذكرياتنا لآخر رمق "، ..
تلفت حولي باحثة عن أي شي ثقيل بزوايا حادة لالقيه على جبينها، من المؤسف فقداني للمنشار الكهربائي فقد كان وجوده مفيداً، مثل " نور المتفائلة" لا تحتاج لمحو ذاكرتها، فذلك يتم تلقائياً دون أي مجهود، كيف لها أن تنسى تكرارها لهذا العرض السخيف لأكثر ١٤٦٠ مرة على الأقل منذ نشوب الحرب، فما الجديد الذي تطرحه اليوم، وقد كانت جميع اقتراحاتها فاشلة ومخيبة للآمال!..
نُجبر كثيرا على تحمل سخافات الغير ، فلماذا نزيدها بسخافة ما تلقيه أنفسنا علينا؟!..
لم تنتظر اعتراضي واكملت: " منذ هذا النهار سوف نملاء فراغات حياتنا بالمحبة، نحن بحاجة لمشاعر الحب، جميعنا في أمس الحاجة اليها، أكاد اجزم بأن اهم أسباب قيام الحرب هو فقداننا للحب ومشاعره"، اكملت الإستماع إلى نور المتفائلة الهائمة وأنا أحاول اخفاء سخريتي، فبرغم سخافة ما تقول، إلا أن موضوع كالذي طرحته لا يخلو من تشويق!..
رفعت حاجبي متسائلة :" الى اين هذه المرة ؟!'، أجابت بثقة :" مفاجأة !"..
لم تنتظر تبديل ثيابي أو تسريح شعري المنكوش بل أمسكت بكفي على عجلة لتختفي جدارن حجرتي الباردة الصغيرة، وتتحول إلى مساحة شاسعة من حديقة خضراء لا حدود لجمالها، رائحة الأزهار المنعشة تعطر الجو، أعشاش العصافير  على أفرع الأغصان تنبىء بصيصان مغردة محتمية فيها، نافورة مائية خلابة بألوان فسيفساء الفيروزية المتدرجة تتساقط بغنج ساحر، وكنت مع نور المتفائلة نقف على ممر حجري منقوش يشق تلك الحديقة الى مجهول، بدأنا بعبوره لنصل الى ما يحمله من مفاجأت..
مع تقدم خطواتي يزداد شعوري بالاحراج وقد لاحظت عدم تناسق قطعتي بيجامتي والوانها، "ما سنقابله أو من"، سيكون مهندما وانيق كهذا المحيط، ابطأت من دعساتي لأخفف من طرقعة الشبشب الذي ارتديه، وتلفت حولي قبل أن أبلل أطراف أصابعي بريقي لمحاولة تشذيب شعري الذي صمم على وقفة الكبرياء التي استيقظ عليها، وعضضت على شفتي بشدة حتى كدت أن ادميها لاضيف لها بعض من لون وردي..
صادفنا عبر الممر ذكر طاووس بالوانه الزاهية ينظر الينا بطرف عينه بازدراء، ربما اقتلع بعض من ريشاته في طريق عودتي لازين بها حجرتي، لا يهم عدم وجود وعاء يحملها، " قلص كبير" كفيل بذلك، حاولت استدراج" نور المتفائلة" التي تسبقني بخطوات، ومعرفة ما يحوى نهاية الطريق الا أنها أجابت:" لا تفسدي مفاجأتي يا نوررررر"، أعلم أنني ونور نحمل ذات نغمة الصوت الا أن ذلك لا يمنع شعور الاستفزاز الذي يصيبني حين أسمع حرف الراء الصادر منها، فلترحمني السماء حتى نهاية رحلتنا ..
تسللت إلى أسماعنا نغمات اوتار عود رقيقة قبل أن يطل قصر مهيب كان متخفيا بحذر خلف أشجار الحديقة الوارفة، كل ما حولي بديع، قريب للجنة الموعودة، إلا أن الجنة لن تأتي بسهولة انتقالي عبر قبضة يد نور المتفائلة، ابتسمت بدهاء وانا اهتف :" وجدتها "، لم تدر نور رأسها نحوي لعلمها أن ذكائي الحاد قد يكون احرق مفاجاتها، فما حولي ليس بعيد عن اسبانيا بين آواخر القرن الأول، حتى النصف الثاني من القرن التاسع!!..
أنا في الأندلس بنسبة تقارب المليون في المائة وسأجد نفسي بعد لحظات مباشرة أمام ابن زيدون وهو يتغزل بولادة " حبيبة القلب" ويبث لها من خلال ابياته لوعته وشغفه:.
‏‎ما سرّح الدّمع من عيني وأطلقه
إلاّ اعتياد أسى في القلب مسجونِ
صبراً! لعلّ الذي بالبعدِ أمرضني
بالقربِ يوماً يداوِيني، فيشفيني
لم أكد احرك شفتي بأبيات إبن زيدون، حتى أفسد الجو نواح نسائي، " ليس لمثل الأميرة ولَادة أن تنوح!! " قلت في نفسي، متداركة ما حولي وقد اقتربنا من مصدره ونحن نعبر بوابة القصر المفتوحة !..
لحظات قليلة وضحت بعدها الرؤية في صالة استقبال القصر، ما أن لمحتها حتى عرفت شخصية المرأة الباكية، أنها تلك الممثلة السورية التي لا أعرف إسمها، في مشهد قريب لذلك المسلسل التاريخي السوري الذي لم أتابعه والدائرة أحداثه كما توقعت  في الاندلس، ادرت رقبتي في أنحاء القصر المفتوحة بحثاً عن بطل المسلسل  " تيم حسن " الذي لا يمكن لأحد نسيانه، وهو يؤدي دور رجل الدولة القوي" صاحب تعز " محمد ابن أبي عامر!!
لعله في غرفة تبديل الملابس وسيظهر في  اي لحظة، أعدت محاولتي الفاشلة في تهذيب ملابسي، قبل أن تعود موجة بكاء جديدة للانفجار!..
لا تتوقف النساء عن الدراما حتى خلف الكاميرات!!،  كانت تجلس على الأرض كنائحة مستأجرة تلطم خديها وتصرخ بين لطمة وأخرى" الخائن الغشاش"!!..
أصبت بصدمة، يبدو أننا قد وصلنا متاخرين ونحن في نهاية الأحداث، ولا وجود لتيم حسن بكل تأكيد، لسنا في قصر الحكم بل بين جدران المنفى الذي حبست فيه" صبح البشكنجية" أو"  أورورا " محظية الخليفة الحكم المستنصر بالله، و أم ولديه عبد الرحمن و هشام، والوصية على عرش الخلافة..
غمرني شعور بالشماتة وأنا أجد " نور المتفائلة " تلقي بنفسها على " صبح " وتشاركها البكاء، وانا أرقص لها حاجباي خفية، واتمتم ساخرة " القانون لا يحمي المغفلين "، لا يحمينا الحب أيضاً من مواجهة الحروب، بل لعل عيونه العمياء تقودنا إليها وإلى أسوأ منها!!.
جلست بجوارهما وقد بدى لي أن أجواء الكآبة ستطول، لامد يدي لصحن نحاسي ملئ بما لذ وطاب، " لم يتغير سعر العملة اذن، ولم تفقد صبح  راتبها"، ابتلعت من الاطباق المرصوصة عليه دون أن ابالي بالرجيم الذي لم يبدأ بعد، بينما استمرت صبح ونور المتفائلة تبكيان نعش حب أناني وعرش ملك ضائع، لم يبق لها منهما سوى قصة عشق مخلدة على صفحات بعض كتب!!
فجأة شعرت بالاسف، لقد نالت صبح بعض من أبيات بليغة، ذكرى لن تنساها بحلوها وبمرارتها، على العكس منا نحن اليمنيين، أضعنا بلادنا بذنب خطيئة مخجلة، لن نتجرأ على تدوينها ولا نستحق ذلك، ما الذي يمكننا أن نبرىء به أنفسنا تجاة خطيئة الشراهة التي أطاحت بالبلاد، البطون والكروش الواسعة لمن يسمون بالسياسيين والوجهاء" جعل لهم السم "..
أفواه جراد ابتلعت الاخضر واليابس ولم تدرك أنها بشراهتها تقرض خارطة اليمن معها، نظرت للمائدة وقد فقدت شهيتي، ولم ابحث كالعادة عن قدح قهوة واكتفيت بشراب بارد من منقوع الزيزفون المختلط بماء الورد المصفى، حتى تمسح نور دموعها وتستعد للخروج.
عادت طرقات شبشبي تضرب أرضية الممر بتباهي بينما أنادي بصوت أملس:" أين أنت أيها الطاؤوس، أحمل لك مفااااجااااأة"، نكست نور التي لم تعد متفائلة برأسها مع حروفي التي نكزتها، وحثتني بالإسراع قبل أن تسأل: " هل من رجاء قريب في فتح جبهة نهم ؟! "، هززت رأسي بعلامة استفهام لا تحمل جواب وعدنا من رحلتنا..
نور ناجي

السبت، 17 نوفمبر 2018

ليس الظلام سيئ بقدر الصورة المأخوذة عنه مسبقا ..
إن حاولت اغماض عينيك وتقبل السواد عن طيب خاطر لا يصبح بذلك السوء، قضيت معه فترة لا بأس فيها مؤخراً، ورافقني اليوم بضع ساعات، لم يكن وحيداً بل طرق بابي مصطحبا معه موسيقى عالية لابنة جيراني المراهقة..
يبدو أنها غيرت ذوقها الموسيقي فجأة ووضعت علي عنبة جانباً واقامت صداقة جديدة مع المطرب اللبناني" جورج وسوف"، أسمعه الآن يصدح بمواويله من منور العمارة، لعلها بركات عيد الحب !!..
تغيير حميد على أيه حال، احييها عليه..
توقفت عن التجوال منفردة في قعر جمجمتي!!.. مازالت فارغة كما هي من لحظة ميلادي، لا أجمل من التخفف من الأفكار والذكريات..
لست بحاجة لوزن زائد لا طائل منه وأنت تنوي خوض غمار ريجيم قاسي ..

تنبهت لاقتراب جورج وسوف من أذني بشفتيه الرقيقة وعينيه الذابلتين : " يا الي تعبنا سنين في هواه ، عامل نفسه ما يعرفناش ، بعد العمر دا كله معاه، فاتنا وقال راجع ولا جاش، واهو دلوقتي لما باقابله عينه في عيني ما نزلهاش، حتى ازيك مستخسرها، مستكترها ما بيقولهاش يالي في حبه ضيع قلبي ورحت بلاش  !!"..
كيف لي ان اُفهم" وسوف" أن المشاعر التي ترغي وتزبد في صدره مجرد أوهام، كيمياء هرمونية لا أكثر تنتهي بمجرد توازنها، وليس من حقه أن يزعجني بها اولا واخيرا..
 فلتكن يا جورج ضيفا خفيف الظل!!..

حركت جفناي وانا التفت إليه لأجد الظلام الذي اخترته قد بهت سواده وانقشع عن صورة لساحل ميناء متوسطي بسمائه الرمادية الباهتة، كلانا انا وجورح نلبس معاطف شتوية ثقيلة ونجلس على الرصيف الرطب أمام الأمواج  المتكسرة، ، للعلم لن ينتهي هذا الشتا ابدا، لقد انتهت مفردة " الصيف " من حياتنا للأبد، ولم يبقى لنا سوى الشتاء البارد الأجواء والمشاعر..

تابعت مع جورج ورقة صفراء يابسة تصرخ وقد عبث الريح بها : " تركني وغاب وجوا في العيون دمعة، فراق احباب ، فراق مكتوب بلا رجعة ، يا دنيا يا زمن جراح ، تعبت اشكي حبيبي ساب لي قلبي وراح، لمين احكي  "!!..
لهذا الرجل قدرة غريبة على جعلي احزن بلا اسباب، ربما كنت جائرة في حكمي المسبق على علي عنبة!!..
فعلي عنبة لا يجعل منك كئيب يحاول اخراجك  من حالة السلام المتشبث بها ليختل توازنك !..
ربما علي عنبة يرفع من ضغط دمك لكنه لا يقترب من اوتار قلبك البتة!!..

تابعت بعيني الورقة الصفراء وفوجئت بها وهي تلقي بنفسها على حجري، أمسكتها لأتأمل الخطوط عليها، من المضحك أن لا تهديك الدنيا الا أوراق خريف ذابلة، وحين لا تطلبها!!..
 هل سقطت علي من باب الصدفة ام انها تعشق السخرية السوداء، بحث في حدقات جورج عن إجابة لسؤالي فأجاب:" مافيك تغمض عينيك، وتعمل حالك مش شايف ، صدقني بتروح عليك ، قوي قلبك ليه خايف، شو هالزمان الي وصلنا له ، ما بيترك حدا لحاله ايه والله صدقوا الي قالوا، هالدنيا خلقت الشاطر!!"..
شعرت بالضيق، لا احب النصائح الخفية " عندك شي يا اخينا، تحاكى، ما اشتي الغاز!!"..
ربما جورج على حق في نقطة واحدة ، الدنيا لم تخلق سوى للشطار وقد اجادت معاجم اللغة العربية في وصف معنى الشطارة !!..
قبضت على الورقة الصفراء حتى حولتها الى فتات..
تعودت الدنيا على خداعي ، لا تعطيني ما أريد حتى يصيبني اليأس منه أو أفقد  اهتمامي به ، لم اعد أطمح  في شيء نفخت بقايا الورقة في الهواء بغل، وطلبت من جورج اغنية عاطفية، وحذرته لا مزيد من الالغاز والنصائح ، فعاد ليغمض عينيه وهو يهز رأسه :
" باسأل على الناس كلها دائما علشان اسال عليه!!"، بعض الأغاني تجعل منك مغفل دون أن تدري!!..
لا احتاج للسؤال عن العالم ولبس أقنعة لآصل بطريقة ملتوية لأخبار شخص ما، حين اريد السؤال عن أي شخص سأسال عنه بمنتهى البساطة حتى أن كان " نتنياهو"، لم اعد اطيق تعقيدات هذا العالم، ولم اعد اطيق جورج وسوف، وربما لم اعد قادرة على تحمل نفسي!. 

من حقي ان ابقى في الوحدة المظلمة التي فضلتها أو فضلتني، لا اعرف تحديدا من منا متشبث بالآخر ، لا اتذكر دعوتي لجورج وسوف ولا لمواويله الساذجة ، ربما كنت مخطئة حين سمحت له باقتحام وحدتي..

استأذنكم سأغلق المنور بعد أن القي جورج وسوف   خارج حياتي، فانا مقبلة على غمار مغامرة شاقة وصعبة..
 ومنعطف جديد في حياتي..
الانغماس في الصمت، صمت اختياري، لا مزيد من اغاني جورج أو علي عنبة..

أو حتى من نفسي الأمارة بالمواويل والغناء..

نور
توقعات صائبة


 السبت, 17 نوفمبر, 2018 - 08:27 مساءً

نور ناجي

 كان ذلك قبل الحرب بسنوات. تقريباً مع نهاية أحداث فبراير، والتي انتهت بتوقيع المبادرة الخليجية. كنت في جلسة صغيرة مع بعض صديقاتي، قادتنا حواراتنا للإحداث في اليمن والتوقعات المتشائمة التي تنبئ باقتراب قيام حرب وشيكة. شعرت بالضيق وحاولت قطع الحديث أو تغيير مساره، إلا أني فشلت. فتابعته بحنق محدثة نفسي: "إن كان الطريق سيقودنا للحرب، فما الداعي لاستعجالها بالتنبوات!" ..

كانت روح الفكاهة مسيطرة على الأجواء، كل من فيها يتخيل مآل مصيرنا حال قيام الحرب فعليا. لم نكن من السذاجة لنتوقع أن حدود جيراننا ستفتح للاجئ. قد يفرض الجيران مبادرات؛ تسويات تضمن عدم الازعاج في المنطقة، وحفظ توازن قوى مريح بالنسبة إليها، لكن كرمها سيتوقف بعد ذلك على مساعدات إنسانية تُلقى من خلف الحدود، تريح الضمير وتحفظ المظهر العام أمام العالم..

اعطتنا تجارب الدول المنكوبة، التي سبقتنا، بعض من الحكمة. فلم نغلق علينا الأبواب المستقبلية للدول الفقيرة نسبياً. فالعلاقات بين الدول قريبة الشبة من الارتباطات البشرية. من تذوق الوجع، سيحاول التخفيف عنك بالكف عن آذاك، على الأقل. وترك بصيص من منافذ تبقيك على قيد الحياة.

ويبدو أن تلك التوقعات لم تكن بعيدة عما حدث فعلاً، ونحن نرى مئات الآلاف من اليمنيين متفرقين في كل من دولتي مصر والأردن.

كان المسلي في حديثنا الإجماع على أن الصومال ستكون ملجأ آمن!!. لعل ذلك يرجع لتهديدنا المتواصل بـ"الصوملة"، أو لنظرات دهشة الجالية الصومالية، التي تضرب كف بكف وهي تسترجع بدايات نكبتها ومقارنتها بالمسلسل اليمني الذي تعيشه. تسألت حينها: هل رفقت اليمن بأهل الصومال، أم سندفع غالياً ثمن لجؤنا المتوقع؟ خاصة وأن شهاداتنا، في بلد نفتقد للغته، لن تكون ثروة تغري أحد باستغلالها !

ومرت السنوات، لتتحقق نبوءة كان يخشاها الجميع: استلقت الحرب على اليمن بتكاسل، ونحن تحت رحمتها عاجزين، تخرج لنا لسانها بين الحين والآخر، وهي تلاعبنا بين أصابعها ككرات "بلي" زجاجية ..
قُتل الآلاف، وشرد مثلهم. ومن لم يتمكن من الفرار، بعد أن سدت عليه أبواب الهجرة، تعلق على القضبان المحاصرة لليمن بانتظار المجهول..!

مازالت أعيننا تلتفت بين الحين والآخر إلى الصومال، ليس لتعلم لغة مفقودة، أو البحث عن ملاذ، بل لتوقع ما قد يخرجنا من الحرب عبر استنساخ طريقتهم في النجاة. وقد تأكد لي أننا شعب يجيد التوقعات المستقبلية، دون أن نمتلك الأجوبة الصحيحة عن أسئلة الحاضر..!

لا يحمل اليمني، عموما، طبع التشاؤم. على العكس من ذلك. لكن طبول الحرب، التي لم تتوقف، أجبرته على ذلك، ولم تشفع له سخريته من نفسه أمام أيامها.

للأيام ذاكرة قوية، وطبائع ثابتة، لا تنزعها عن نفسها. إحداها مبادلة السخرية بأقسى منها. لعلنا نتوقف بعد هذه الحرب عن التنبؤات المتشائمة، وقد تعلمنا عدم المزايدة عليها..

الأربعاء، 14 نوفمبر 2018

يقولون أن الأمهات تموت، يقولونها بفجاجة وقحة !
يجدر بكل من يقول ذلك أن يموت، أصحاب مثل هذي المزحات القاتلة لا يستحق الحياة، حتى وإن صدقوا الوهم الذي يرددوه، لن اسمح باسقاط ذلك الوهم علي، وكلي ثقة أنه لن يصيب امي ابدا،،
قد تختفي أمهات الغير لبعض الوقت، اختفاء مؤقت!، ربما كن يمارسن لعبة تخفي على ابنائهن وأضعن طريق العودة، لا وجه تشابه بين الموت ولعبة الاختباء!
ثم إن أمي الطيبة لم تجد تلك اللعبة ابدا، انحصرت مهارتها الطيبة في الانهزام في لعبة " الباصرة "!!..
فأي دنيا تموت فيها الأمهات الطيبات، أي أرض !!..

لا تموت الأمهات من مجرد حمى، الأم أقوى من الحمى، أمي أنا أقوى من الحمى، هزمت من قبل الضغط ومرض السكر ، هزمت الحرب وواجهتها أشد مما واجهها الرجال فكيف تريدون أن اصدق بأن مجرد حمى بسيطة تغلبت عليها، لقد أكد لي الجميع أنها ماتت على سرير مستشفى بارد، لم تخشى أمي البرد مطلقاً، كانت أشد قوة منه، تستمع بشعوره على اطرافها،  أتذكر سخريتها وضحكتها الجميلة على ضعف جسدي المرتجف بينما تطلب المزيد منه بتحدي، محال أن تموت تلك الضحكة وتتركني لتستمع بكمية أكبر من نسمات البرد !!
أي أرض تغادر فيها الأمهات من أجل نزهة باردة؟! 

غرست بي أمي على الدوام فكرة تأجيل الانتقام أو إلغاءه من قاموسي نهائيا، تهز راسها بثقة غريبة، بأن حق الله وعدالته قائمة دون أن أسعي أو ألطخ قلبي بها، وانتظرت معها فقد كانت تحمل هي أيضاً قائمة لبعض نقاط العدالة المستحقة لها، فكيف استطاع أحد ان يلفق مثل هذه الكذبة!، كيف تموت أمي دون أن ترى العدالة كما وعدتني ووعدت نفسها بها؟!، في مثل هذا التصرف مخالفة لاتفاقنا!!..
أي أرض تموت فيها العدالة المستوجبة لامهاتنا؟! ..

حرمتها مني ساعات كثيرة، فكانت تهمس لي وهي تزيح عني عبء التقصير " لا تخشي، أنا راضية عنك، راضية جداً، أريدك فقط كما تحلمين، وستجلسي معي ما أن تحققيه" ؟!،
أي أرض هذه التي تموت فيها الأمهات قبل أن تلمس أحلام ابنائها؟!

أدين لها ببعض المال، أطلبه منها على استحياء لتعطيني سرا، حيناً انكس رأسي خجلا، وأحيانا ادعي القوة والثبات وأنا أؤكد اعادتي لاموالها قربباً، تحول ذلك " القريب" لعدم لا  معنى له في مفرداتي، أريد من ذلك " القريب" القليل جدا لتسديد  ديوني لامي، لا يجوز لاحد أخذ ما لا يخصه، خاصة ٱن كان يخص أمي!!.
أي أرض تسرق الوقت من بين أيدينا حتى لا نتمكن من سداد ديوننا الثقيلة تجاه امهاتنا ؟! ..

اكره الوداع، الجميع يعلم ذلك عني، اسمع تهامسهم بالانانية التي تجعلني الوح واهز رأسي على بعد مسافة كافية من الوجع، هربت سابقاً من وداع والدي واخوَي، لتعاقبني الحياة بكل سخرية وهي تحقق ما يليق بأنانيتي،،،
 لعنة استحقها بكل جدارة، حين كتب علي أن لا احظى بعد اليوم باستقبال مرحب لامي أو لقبلة وداعها،،

أي أرض تحرمنا من قبلة وداع؟!..


لا تغادر  الأمهات منازلهن دون تمهيد أو ترتيب مسبق، تتفقد كل شاردة وواردة حتى تتطمئن وتتأكد من وجود ما يكفي مؤنة منزلها، فكيف لامي الأكثر اهتماما من بين كل أمهات العالم أن تغادر ونحن على أبواب الشتاء!!، من غير المعقول أن تنقاد لحمى تجر  بيدها باستهتار وتفارق  منزلها دون النظر للخلف ولو لمرة واحدة !!
أي أرض تسرق الحمى فيها أكف الأمهات ؟!..

ربما لم تمت أمي، مازلت مصممة على ما أقول ، أنا من توفى دون أن أدرك تغير الزمان والمكان، لطالما كان يشدني الفضول لمعرفة ما يحدث بعد الموت، تراودني لحظات الشك عن عدم وجود حياة بعدها، حتى تأكدت اليوم، من وجودها فعلياً، حياة ميتة اخترقتني واستقرت بي لحظة أخطأ الأطباء تحديد شخص المتوفي، لم يدركوا أنني من فارق الحياة، والقي بي جانباً جسد بلا روح، كومة من تعب، ما يحزنني حقاً هو بكاء أمي على فراقي، لكني سأزورها في المنام، أعدها بذلك، لن اسمح بأن يؤلمها وجع فراقي، يكفي أن تعيش هي لأعبر  غربة موتي الجديد، وأنا مطمئنة أن والدتي حية، محال أن تكون قد توفت فعلا ..
محال أن تقبل أرض الأموات بحياة عامرة كروح أمي ؟!..


السبت، 10 نوفمبر 2018

رسالة من مهاجر..

حَسب الحرب أنها حرب، لن تضيف الكلمات والحروف لأمرها شيء. تنتصب أمام لياليك الثقيلة برتابة حجارة سوداء حتى تحسب ألا هروب منها سوى بالاحتضار.

ينتابها حس الدعابة، غالباً. فتسلى نفسها بالتلاعب بك، بسخرية متعمدة وهي تعيدك لأسواء ذكرى في طفولتك البعيدة. طفل حائر، تكاد أن تداس بين الزحام بعد أن انزلقت اصابعك الصغيرة من كف والدك. لم ينسى ذلك الطفل ضياعه، وغصة الشعور ببعض الخذلان من الكف التي كادت أن تفلته!..

يحسب من يعيش أيام الحرب، أنها عقاب خاص به وبمن ابقتهم الظروف في محيطها. لكنها لا تستثني أحد. ما أن اختارت اليمن مقراً لها، حتى ارخت من كبح شياطينها ليطيحوا شراً باليمني أينما كان. وإن ظن أحدهم أنه نفذ من شراكها، وشرك الحدود المقيمة بها، تستمر بملاحقته، والتعلق على ثوبه بكل تصميم وعناد ..

نبهني بريدي، قبل أيام، بنغمة رسالة واردة. فتحتها لأجد كلمات وحروف منهكة، تلهث تعبها على الشاشة وهي تحثني برجاء أن انشرها. لم أجد لها رداً. نعتقد لأوقات كثيرة، أننا مارسنا الوجع بإخلاص. تذوقناه، حتى التصقت ثمالته مُرَة على حلوقنا، اجتاحنا ووضع بصمته على قسمات وجوهنا، حياتنا، دون أن يستبعد نفسه عن تسكع الفتيان وضفائر الصبايا المخفية. لكن يبدو أن شهية الأوجاع مفتوحة وتحتاج دوماً للمزيد.

لذلك، قررت نشر الرسالة، لعل تقاسم بعض الأوجاع يمنحنا بعض من صبر وقوة:

"اختي نور؛

أكتبي عن وجع العزيز إذا أجبرته الظروف على طرق أبواب لا تفتح. أكتبي عن اليمني باني السد، وصاحب الحضارة، كيف أمسى مشردا، يبحث عن مساحة أمان لم يجدها تحت سقف أي سماء؟ إحساس من العدمية تنال منه، وهو محشور وسط الجموع التائهة، الباحثة عن أوطان بديلة تجد فيها راحتها..

اكتشفت بين جموع اليمنيين، أننا شعب لم يذق الراحة منذ سنوات..، سنوات أطول من الحرب نفسها!. محال أن يعرف الراحة من شعر بوطنه وهو يرزح تحت قلق متسابق نحو الحرب. فكيف به، وقد غرق في مستنقعات صراع لا بصيص رجاء لنزع سلاحه!!.

مئات من اليمنيين يسابقون الفجر، للاصطفاف أمام مكاتب المفوضيات، يسندون أنفسهم بالألم والمشقة إلا أن يقفوا على رأس تلك الصفوف. شاهدت بعضهم اليوم؛ بدت هيئتهم وكأنهم وصلوا للتو من اليمن، فمازال غبار الأرض على ثيابهم‏ وأرواحهم. لست غريب عن تلك الرائحة، فبعضها يبقى في قعر النفس لا يغادر ..

اقترب مني بعض الفتية متسائلين، لم يتجاوزوا الطفولة بعد، بأوراق ونظرات تائهة. كان الزي المدرسي للمرحلة الأساسية يغطي هزال أجسادهم. لكِ أن تتخيلي معنى عدم قدرتهم على شراء ثياب جديدة للسفر!..

ما نتحمله كثير. أكثر مما نطيق. لا أعلم حقاً مدى قدرتنا على التحمل أكثر!".

صمتت الحروف، وانتهت الرسالة، دون أن يذيلها مرسلها باسم. ربما أختار أن يكون مجهولاً، أضاعت الأيام موطنه، وظن عليه المهجر بقليل من أمان..

الجمعة، 9 نوفمبر 2018

انتقام 

نحن في عصر يتطلب العنف، القليل منه، بعد أن فرض علينا كمادة إجبارية..
ولكي اتخلص من بعضه الجأ للاختباء خلف قصص وهمية اعيشها مغمضة عيني أو اسردها عبر قلمي، فالحرف أقوى الأسلحة التي أؤمن بأنتصارها على ذواتنا الواعدة " بالانتقام" أو الغضب المفرط..

وبرغم السوداوية التي لطخت العالم، مازلت أملك علبة الوان مخفية بين طيات روحي اخفف بها حدة السواد الذي نحيا فيه، فالعالم برغم كل شيء أجمل مما نظن!!
ارسم بخربشاتي طريق آمن " لقمر " لا ظلم أو قهر أو حرب فيه، للأسف أملك من الأنانية ما يجعلني اخلع العالم وانجو بألواني وحيدة، فلا مكان شاغر في رحلتي ولا يجب أن يعاني القمر هو أيضاً من حرب بشرية جديدة, جميعكم يدرك أن العالم يزداد عبثاً مع انتشاركم فيه وازدياد قوتكم..

قد يعتقد البعض أن ما أكتب انعكاس لي ولمصاص دماء يسكنني، يقيده تابوت وحزمة من الثوم، والبعض" الاكثر لطفاً " يراها مجرد فضفضة تجهد نفسها لتبدو كوميدية أو لطيفة بعض الشيء..

أكثر ما أثار استغرابي اتهامي بشعور حقد دفين لسلالة بعينها وأن ما أكتبه ليس سوى انتقام لنقص حاد أشعر به في نفسي تجاهها !!
لن اتباكي محاولة استدرار النخوة والحمية للدفاع عني، لكن تلك العبارة اخذت من تفكيري الكثير!!..

بعد كل الدمار الذي لحق ببلادي وباهلها، دمار بدل ملامحها وغير كل شيء فيها، كل شيء عدى تفكيرهم !!
هل حقاً لم يدركوا حجم الكارثة التي وضعونا فيها، الم يصلهم أنين الموجوعين، وبكاء الأرامل ؟!..
ما الجين المسبب لتبلدهم ؟!
البعض لا يستحق عناء الرد، لكنه يحثك على التفكير ، البحث عن حل ..
لا أنكر أني غالباً أسقط الواقع السياسي في ما أكتب على الرغم من اعترافي الصريح بجهلي لعقول السياسيين ..

لكن فكرة الكتابة للانتقام، بعيدة كل البعد عما أكون، وربما العكس !.. 

حين أقرر أن أكون شريرة، لن اتخفى خلف أزيز نحلة ما، ولن أحاول كسب شهرة على حساب وحش محترم يقوم بعمله ودوره في الحياة بكل اتقان وتفاني!!
كما أني لا أملك الوقت الكافي لرسم الخطط والتسلل عبر أسطح مواقع التواصل الاجتماعي لالقي بوعاء ماء ساخن على رأس جماعة ما ؟!!!
اصدقكم القول، راقتني الفكرة وأنا اكتبها، هل من الممكن القيام بذلك ؟!، فكرة مثيرة، أيقظت الوحش الكامن بي!!..

الخلاصة ..
لن ادفن نفسي تحت مساماتي لأنفي تهمة الحقد عني، ولأكون في نظر البعض أكثر رقة ووداعة، ساخطط لجرائمي متى أحببت، وارسم" انتقاماتي" ووحشيتي حين يريد قلمي..

قد اصحو يوما لابقى مستلقية على سريري واقضي نهاري مع نغمات محمد منير، وفي يوم آخر ساوقظ صنعاء قبل أن تستيقظ الشمس لترقص معي وقد نفضناهم عنا، على الأقل تخلصنا منهم في خيالنا حتى حين..

قد أعشق يوماً ضفدعاً ينتظر قبلة تحوله لأمير، وربما ساسخط أحدهم بلعناتي ليصحو ونقيقه يملاء الشارع..
سأحيا كما أريد وسأكتب بالطريقة التي أهوى،  وبكل عناد سأبقى على هذه الأرض حتى يصابوا بالملل، ويغادرونا ..

نور ناجي ...

السبت، 3 نوفمبر 2018

السلالة الذكية

ليست الحرب بذلك السوء. لا أقول ذلك بسبب تجارتها المربحة التي تُخلق من العدم، أو هبة الإثراء غير القابلة للتفسير والتأويل، بل لمفاجأتها المبتكرة، الأقرب للصفعات!!..

كانت الثانوية العامة لعشرات السنوات، الوسواس القهري الذي يحمله الطالب في حقيبته المدرسية منذ عتبات يومه الدراسي الأول. يستمر ذلك الوسواس في نخر عقله حتى يتحول إلى كابوس، "وحش مرعب" لا سبيل للفكاك أو النجاة من أنيابه حتى لحظة اجتيازه امتحانات التقدم إليها. فقد كانت الثانوية العامة المنظومة التي اختارتها دول العالم الثالث لتقدير قيمة الطالب، وتحديد طريقه المستقبلي، ونوعية الرداء الذي سيميزه بقية عمره..

برغم هزلية تلك المنظومة، إلا أنها تضمن للطالب ذو الدرجات المتوسطة مقعد مستقبلي في إحدى هيئات الدولة ووزاراتها، ليندب عليه حظه العاثر ويشكو الفخ الذي غرسه في الكتلة البشرية السميكة لموظفي الدولة...!

بينما يأخذ المتفوق ساعات وقت أطول في تسوية هندامه وتسريح شعره، قبل أن يعلق المسطرة الشفافة الخاصة بكلية الهندسة على كتفه، ويخرج متباهياً بها. لطالما كانت تلك القطعة البلاستيكية الشفافة مدعاه للتفاخر والتباهي، مقارنة بزي الطب الأبيض- بالنسبة لي على الأقل..

كل ما سبق كان من الماضي. فقد أنهت الحرب تلك المنظومة "الجائرة"، وقضت على كابوس قلقها وندمها، الذي كان مكتوباً على جبين الطلبة بعد أن أثبت علماء الميليشيا (المبزغين) نظرية علمية جديدة ستغير نتائجها من مجرى التطور العلمي الحديث ونظرياته، دون الحاجة للاستعانة بالمعامل وتجاربها المخبرية، التي تقتطع من الدول المتقدمة جزء غير هين من دخلها القومي..

لم تكن نظريتهم الثورية جديدة المحتوى تماماً. فقد حاول "هتلر"، الزعيم النازي، برهنتها عبر حروبه العالمية بالحديد والنار. إلا أن اختياره الخاطئ للمعطيات التي ساقها، قادته للفشل الذريع والانتحار، قبل أن يدرك مكمن خطاؤه وسر هزيمته. تلقفت ميليشيا الحوثي تلك النظرية، وتداركت معادلاتها بتعديل طفيف، حين نحت عنها الجنس الآري، واستبدلته بسلالة أكثر نقاءً وذكاء بالطبع..!!

في ثانوية الميليشيا، أنت متفوق، ليس لاجتهادك أو موهبتك، يد في ذلك. فارتقائك نابع من انتمائك للسلالة الإلهية المنزهة، ولولاء كاف لمبادئها. أو لامتلاكك مهارة في الغش لا يملكها غيرك. هذا ما أقرت به نتائج الثانوية العامة للمناطق الواقعة تحت سيطرتها في الأربعة أعوام السابقة. أما بالنسبة للطلاب الذين حاولوا مزاحمتك في كشوفات الأوائل- من خارج التصنيف السابق- ليسوا سوى طفرة جينية؛ خطأ مطبعي سيتم التعامل معهم مستقبلاً عبر امتحانات قبول الجامعة.

لم يقتصر فضل السلالة على المتفوقين من طلاب الثانوية، فقد أزاحت عن "السواد الأعظم، ذو الكفاءة المتوسطة أو الضعيفة"، عبء دفن مواهبهم وحياتهم في أرشيف حكومي. فلم يعد للدولة من أرشيف أو وظائف أو حتى هيبة، بعد أن تم افراغها من مفهومها وكيانها، وأبقي- لأسباب خارجية- هيكل كرتوني يمثلها ويحتاج لوقود بشري حي يحرق في الجبهات لإسناده..!!

لا تعتقد، عزيزي المواطن، أن ميليشيا الانقلاب ظنت على أبنك دخول الجامعات وحرمته منها..! كل ما في الأمر، أنها- بحكم تفوقها الإلهي في التفكير والتدبير- اختارت ما تراه الأفضل والانسب لجيل مازال ممتلئ بالطموحات والقوة.

وجدت نفسها منصفة، حين عوضت طموحات أكتافه بأسلحة الكلاشنكوف والبازوكا، واستبدلت القماشة البيضاء لزي الأطباء، بأكفان على أهبة الاستعداد لـ"ستقباله"!..


نور ناجي

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...