الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

غفوات مسمومة..

  ما الذي تتذكره قبل الحرب، وتشتاق إليه فعلا ؟! .. الحق يقال لم أعد اتذكر الكثير، هل كنت حقا متواجدة هنا قبل قيام الحرب ؟!، أحسب نفسي جديدة على هذه الحياة والدليل انني القي التحية بتهذيب على المرآة صباحاً حين أقابل انعاكس الوجه الغريب عليها.. 

 وكأنني ولدت مع بدايات هذه الحرب، صرختي الأولى كانت لحظة سقوط عمران، وحبو جسدي كان حين فررت من صنعاء إليها وقد اطبق عليها الحصار..

 تراودني بضع خيالات عن حياة عشتها قبلا، ليست كلها خيالات سعيدة، كان الحزن يزورني كالجميع، لكن كضيف خفيف، لا يبقى في القلب، لا أعلم ما الذي اغضبه وغير من طبعه ليمسي ثقيلا لزجاً يتعلق على جدران الروح ولا يرضى مفارقتها، لعله هو أيضاً يخشى الحرب فيختبىء منها فيني !!..

 أكثر ما افتقده من تلك الخيالات هو نومي المبكر وساعاته الطويلة وقد استبدل بساعات غفوة متقطعة لا تسمن ولا تغني من نعاس، أكبر النعم التي يهبها الله للإنسان هي النوم، ألذ من طعم الشوكلاتة، وأكثر رفاهية من سيارة نيسان بيضاء مصفحة بدفع رباعي، وأكثر إنسانية من أفلام توم هانكس وصوته الرخيم الدافئ ذو النبرة المزدحمة بالمشاعر!!.. 

 لم أكن قبل الحرب أعرف معنى السهر، اتباهى وقد استيقظت مبكراً كدب خرج من بياته الشتوي، أعجب واضرب كفاً بكف حين أسمع من أحدهم استمتاعه بعيش حياته معكوسة، يصحو ليلا لينام في النهار، عندما كنت أتأخر للساعة العاشرة مساءً اصحو وأنا اشكو لحجارة الأرض ساعات أرقي الطويل وسهادي، واتخذ كل المحاذير والاحتياطات اللازمة من موز وشمام وكؤوس الحليب الساخنة لاعوض ذلك السهر في الليلة التي تليها.. 

أسابق الليل لاحلامي واشباحي الرقيقة الناعمة، لا تندهشوا مرڤت أمين موجودة منذ البداية وقد تستمر إن لم أكتشف سر بقائها تحت سريري، لكنها كانت أكثر وداً ولطافة لا أنسى كيف كانت تسخن لي كأس الحليب ليساعدني على النوم .. 

النوم، ذلك اللغز الجميل الذي لم اشبع من ساعاته قبل الحرب لأتمكن من حله، ربما بعض الألغاز لا تحتاج لفكها، سحرها واثارتها يكمن في غموضها، كيف لنا أن نحل شفرة شربة الماء الباردة وهي تطفىء عطشنا أو اللحن الجميل حين يسري في خلايانا لنتمايل عليه ، وكذلك هو النوم .. 

 أين يذهب النوم في الحرب ولماذا رضي باستبداله بهذه الغفوات المبتورة المريضة، هل غادر لعدم تلهفه على الغد؟!، أم أن الجبهات في حاجة إليه أكثر منا؟!.. 

كل ما أخشاه عدم عودته، أو عودة لا أتعرف عليه من خلالها، اطرده عن جهل رغم انتظاري ولهفتي له وقد نسيت شكله الذي شاخت ملامحه كما شاخت روحي حين إعتادت على الغفوات القصيرة، وسمومها.. 
 نور

السبت، 24 أغسطس 2019

تجارة خاسرة


نور ناجي

من السخف اعتماد لفظ "الخيانة" على العلاقات بين الدول، فالمصالح كانت ومازالت الدافع الذي يحرك تلك السياسات، إلا أن المواطن اليمني أختار تغليب عواطفه وأصر على أن التدخلات الساعية لانفصال وتقسيم اليمن ليست سوى فعل خائن، على الرغم من أن سرية التخطيط ومفاجأة الفعل، شرطا وقوع خيانة ما، غير متوفر لإسقاطه على ما حدث، كما أن ذلك التدخل لم يكن مرفوضا بالنسبة له حتى تجاوز حدود "تدخلات سابقة" حملت موافقته الضمنية!
 
فقد اعتاد اليمني على تدخل المملكة العربية السعودية في شؤون بلاده منذ تأسيسها، وبرر ذلك الاعتياد بالحاجة واقتضاء المصالح والجوار الذي يربط الدولتان بمصير مشترك، فمهما بلغ الاختلاف مع المملكة لن ترجح الجارة فوضى ملاصقة على بقاء دولة لا تمثل أوضاعها الاقتصادية تهديد خطير.
 
استخدمت المملكة لتنفيذ نهجها السياسي في اليمن وجاهاته القبلية والشخصيات ذات الثقل الاجتماعي بالإضافة إلى الأحزاب على الرغم من خطورة ذلك الاستخدام، فاحتمالية الانقلاب عليها وارد وغير مستبعد أمام مزاج القبائل أو أولويات الولاء والانتماء للقوى السياسية، إلا أن مكانتها كدولة تحترم نفسها منعها من تغيير تلك السياسة على الرغم الانتقادات التي لم تكن تسلم منها من قبل الرافضين لذلك التدخل.
 
لم تعتمد الامارات ذات السياسة بعد توغلها في الداخل اليمني، قد يكون تدفق الأموال النقطة الوحيدة التي ربطت دول التحالف مع الأطراف اليمنية مع اختلاف الطريقة والأسلوب، قد يصاب البعض بالحيرة أمام سياسة الإمارات، فبعد انضمامها الحماسي للتحالف الساعي لإزاحة انقلاب صنعاء وإعادة الشرعية لموقعها، لم تنكر دعمها المبكر لفكرة تقسيم اليمن.
 
لم يمثل ذلك الدعم خطراً حقيقياً في حينه فلم تكن الأدوات التي استخدمتها بشخصياتها الهزيلة تنبئ عن رغبة حقيقية للانفصال بقدر ما كانت أوراق ضغط على الدولة اليمنية، إلا أن تلك الأوراق احرقت حين وضعت على الطاولة في توقيت أبعد ما يكون عن تحقيق هدف الانفصال المعلن.
 
حول اليمني نظره الى الشقيقة الكبرى في نظرة مليئة بالشك، هل غيرت المملكة سياستها القديمة؟ وانبهرت بسياسة القراصنة التي لا تحمل الكثير من الأعباء رغم خطورتها، أم أن الامارات قصدت بدعمها الانقلاب اظهار المملكة بهذا العجز والضعف.
 
هل المملكة فعلا بهذا الضعف، يتساءل اليمني وهو يراقب ردود أفعالها البطيئة عبر ورقة الشرعية التي تمسكت بها المملكة في أروقة فنادقها، وقد أدرك أن انفصال اليمن لم يكن السبب الحقيقي لدعم الامارات المفاجئ للانقلاب بقدر ما كان الطريقة الاسرع لقطع الطريق أمام مطامع ونفوذ جديدة.
 
من السخف اقرارنا المتأخر بأننا مجرد متفرجين عديمي الإرادة أمام ما يحدث على بقايا دولة يفترض أنها ما تبقى لنا، أخذنا دور المشاهد والمراهن على المنتصر والأرباح التي يمكن أن نجنيها من ذلك الترجيح، على الرغم أن تجزئة اليمن التي تدعو إليه الإمارات لا يختلف فعليا عن ابقاءه عاجزا ضعيفا أمام الجارة الكبرى.
 
قد يكون إلقاء اللوم على الغريب هروب من حقيقة أننا أصحاب الخطيئة الأولى بتجاوزنا عن التدخلات الخارجية السابقة واعتبارنا شراء الولاءات مجرد لعبة ستبقى بتكاليف مخفضة، دون أن ندرك أننا أصدرنا بقبولنا لها تشريع مبطن للخيانة سيجعل المواطن البسيط ينظر إلى ما يحدث على ارضه بلامبالاة وكأنه اي من الأحداث لا يخصه، في أحسن الأحوال سيكتفي بالركون الى حق سيأتي دون تفعيل اسبابه!!، ناهيك عن محترفي التجارة الذين وجدوا في الحرب المستمرة وفوضاها سوق لا يختلف عما سبقه من مزادات شراء الولاءات والذمم.
 
لكن الأسواق لا تبقى مشرعة أبوابها للأبد، في لحظة ما سيتفرغ روادها لإحصاء الخسارة والربح، وللأسف سيكتشف اليمني الذي تاجر بأرضه أنه الخاسر الأكبر، وأن الدولة الهشة التي استخف بوجودها وسعى لإضعافها ستكون أقصى طموحه حين لا يجد أرض تحتويه بأقل قدر من الاحترام.

السبت، 17 أغسطس 2019

ذرات تحت السجادة


نور ناجي

مازالت الأجيال تتوارث عيوبها، قلت هذا لنفسي بعد أن رفعت السجادة في إطار حملة " تنظيف دورية" كنت توقفت عنها حين اعتمدت على غيري، التاريخ يعيد نفسه بمنتهى الفجاجة ولن تتوقف الصغيرات عن إخفاء الأوساخ والأتربة في غفلة من الأهل تحت السجادات، لكي تتأكدوا من هذا الأمر ما عليكم سوى رفع أطرافها قليلاً.
 
يفترض أني في حالة نقاهة بعد أحداث الانقلاب الأخير في عدن استعدادا لآخر، - من المسلي أن تحيا في فترة تاريخية تركزت فيها انقلابات العالم في محيط بلدك -، لكن ذرات الغبار المتراكمة تحت سجادتي اعادتني وبمنتهى القسوة للتفكير فيما جري ويجري على الساحة اليمنية، البعض يبحث عن طريقة للانتحار بطريقة غير مباشرة ولن يجد أفضل من متابعة أخبار اليمن لتنفيذ خططه!
 
متى تراكم هذا الغبار، وكيف اختفى عن بصري؟!، سالت نفسي وأنا امرر أصبعي على ذرات الغبار، ما اشبهه حال أرضية الديوان تحت السجادة بأرض اليمن!، لم يكن أسوأ المتشائمين ليتوقع أن هذا يمكنه أن يحدث.
 
ربما لست دقيقة في هذا التعميم، فقد استبق شخص هذه الأحداث وهدد بحدوثها حيناً وساخراً حيناً آخر، لكننا رفضنا تصديق تنبؤات الرئيس السابق علي عبد الله صالح على الرغم من أنه كان الأكثر دراية بأحوال اليمن، ليس لأنه بالغ الذكاء أو يمتلك حاسة سادسة بل لأنه كان السجادة التي غطت اليمن طوال أكثر من ثلاثة عقود.
 
قد يغضب البعض لهذا التشبيه، وقد تمنع البعض كراهية عمياء للرئيس السابق من الاعتراف بحقيقة أننا لسنا بالطهر الذي كنا ندعيه وإن الرجل أخفى الكثير تحت حكمه، بقصد او من غير قصد، ربما لم يكن حرصه على مصلحة اليمن هو الذي جعله يقوم بدور السجادة الزاهية في المقام الأول بقدر رغبته بالبقاء على سدة الحكم أطول فترة ممكنة، على أي حال لم يكن استمراره بالحكم أو إزاحته عنه سيحدث فرق سوى اختلاف توقيت معرفتنا بما كنا نخفي، فلم يملك الرجل رغبة حقيقية في إزالة ذلك الغبار أو ربما لم يتمكن من ذلك.
 
أزيح الرجل من مكانه، وفارق الحياة لتختفي مع رحيله كاريزما هائلة لا يمكن للعدو قبل الصديق أن ينكرها، وتوقع المنظرين أن رحيله سيفسح المجال لظهور وجوه كانت تحجبها شعبيته إلا أنهم تفاجأوا بساحة رمادية فارغة، واتضح مع مرور الوقت أن وجوده هو ما كان يمنح معارضيه ومؤيديه على السواء بعض من تألق ولمعان!
 
قد يكون في مثل هذا الحكم قسوة على المعارضة التي واجهت صالح في السابق بمنتهى الجسارة، فقوانين حرب اليمن المعكوسة كان لها دور كبير في التأثير على ما كان متوقع منهم، يفترض بالحرب أن تخرج رجالها، قادتها الذين انضجتهم التجربة القاسية، هذا ما اعتادت الحروب التقليدية على القيام به بجانب القتل والتدمير، لكن هذا لم يحدث في اليمن وافرغت الصور القديمة من محتوى كان يظنه البعض فيها.
 
كنا من السذاجة في فبراير حين أيقنا بأن كل شيء سيسير على ما يرام بمجرد ترديد النشيد الوطني بإخلاص وتفاني دون أن نتدارك خطيئة تقليص مساحات اليمن بساحات الاعتصام واغفلنا حقيقة أن الاقسى من المؤامرات قد يحاك تحت ألوان الأعلام الوطنية، وهذا ما قام به الحوثي وجماعته حين تسلل للساحات متخفيا بشعارات الديمقراطية والدولة المدنية وجعل منها الطريق الذي قادهم الى صنعاء.
 
سيتهم الكثير الرئيس السابق بمساندة جماعة الحوثي في انقلابه نكاية بالشعب الذي تظاهر ضده وأرغمه على تسليم سلطة لم يكن يخطط لتسليمها يوما، قد يكون ذلك حقيقي بنسبة كبيرة، لكن صالح لم يكن الوحيد الذي مد يد العون لهذه الفوضى، كل ما فعله أنه أزاح جزء من سجادته نكاية بسذاجتنا، وترك لذرات الغبار أن تقوم بما توجب عليها فعله، وقد قامت بذلك بجدارة لا يستطيع أحد انكاره عليها.
 
مخطئ من يظن أن عقاب الرئيس السابق ابتدأ لحظة تمهيده " وغيره " لإسقاط صنعاء ومن ثم الوطن بأكمله، فقد أنجز معظم مهزلته حين اسقطنا كشعب بين الايادي الأمينة التي أصر على تسليمنا اليها وهو على ثقة بأن لا أمان لها، لن تجد أقدر منه في معرفة ما تخفي سجادته، ليتضح لاحقاً أن اتهامات الفساد والعمالة التي وجهت له ليست سوى ذرة صغيره تحت ركام من خلفه.
 
نال الرجل عقابه، سيقول البعض متشفياً، لكنه لم يكن المذنب الوحيد، من الجائر القاء العنصرية والمناطقية والحزبية التي مارسناها ضد بعضنا البعض على الرجل، وليس من اللائق التنصل من العمالة التي أصبحت مشاع وتهمة يسعى الكثير للالتصاق تحت بساطها، حتى جعلتنا نتأكد أن ما نعانيه ليس سوى جزء بسيط مما نستحقه.
 
يبدو الوضع بائس ومزري، وهو كذلك بالفعل، لكن نظرة بسيطة للخلف ستجعلك تدرك انها ليست المرة الأولى، فعلى مر التاريخ اليمني كانت هناك الكثير من لحظات سوداء غطت الأرض والسماء بعواصف هائلة لم تكتفي بحجب الرؤية بل حجب الامل أيضا، إلا أنها انتهت، فالأرض تطهر نفسها تلقائيا بالأقدار التي تتهيأ لها، وليس ما نواجهه في نهاية المطاف سوى مجرد غبار، ومصيره الزوال.
 
بالنسبة لي سأنتظر تلك اللحظة بقدر التفاؤل الذي سيمنحني إياه تنظيف سجادتي وقد عاهدت نفسي أن لا اركن لأي أيادي أمينة من الاقتراب منها مجدداً.

السبت، 3 أغسطس 2019

أطلال شعرية


نور ناجي

 يقول لبيد بن أبي ربيعة في بداية معلقته:
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَـا بِمِنىً تَأَبَّـدَ غَـوْلُهَا فَرِجَامُهَـا
فَمَـدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَـا خَلِقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِىَّ سِلامُهَا..
 
مازالت أتذكر تأكيد معلم اللغة العربية بأن الوقوف على بقايا الديار من أهم السمات التي تميز بها الشعر العربي القديم والذي قد يلحقه قليل من غزل صعب المفردات.

ألم يكن بإمكان شعراء ذلك العصر اختيار مواضيع أكثر مرحاً وتسلية، تساءلت حينها بملل بينما أنتقل من القصيدة لأخرى، لم يكن من داعي لمحاكاة بعضهن البعض في النواح والعويل إلا أن كانت الكآبة سمة ذلك العصر!..
 
لِخَـوْلَةَ أطْـلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَـدِ تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وُقُـوْفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُـمْ يَقُـوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّـدِ..
 
تكاد ترى طرفة أبن العبد وهو يترك مطيته ويسير على الرمال قبل أن يغرس كفيه بلوعة بين ذراتها الساخنة، ألم يكن الأجدر به القتال في سبيل بقاءه جوار خولة على مغادرتها ليعود بعد سنين باحثاً عن " وشم " يبكيه؟!..
 
ربما يتهم البعض خولة ويلقي عليها أسباب ذلك الهجر !، لكن ماذا لو كانت بريئة، ولم تكن هي البطلة الحقيقية أو المعنية بتلك الأبيات، قد يبدو الأمر صادماً، لكن قراءة البيت أكثر من مرة يشعرك أن وقوف الرجل لم يكن سوى محاولة منه لإحياء ذكرى موضع جمعهما، فأسى الأبيات انصب على ماضي المكان وتضاريسه أكثر من اهتمامه بحال خولة أو أخبارها!..
 
لن أستغرب أن يكون الحنين للماضي هو ما حرك مشاعر أبن العبد، أليس الشوق  في حقيقية الأمر هو ما يجعل منا بشر، ما يجبرنا على الاستدارة بين الحين والآخر لمعرفة القيمة الحقيقية لما خلفناه في الحياة..
 
لم يكن امرؤ القيس بأقل من طرفه فكان لزاماً عليه أن يقف هو الآخر على أطلاله ويجبرنا على حفظ خريطتها :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ..
 
ما بال العربي لا يترك أرضا حتى يعود للبكاء على أطلالها، يتعمد الهجر دون أن تعجزه الأسباب، ولا يرجع حتى يتأكد أنها أمست بلا حياة؟!..
بعيدا عن هاجس الشهرة وخلود القصيدة الذي لا بدّ وأنه راود كل شاعر، إلا أن استنزاف أرواح البعض منهم أمام تلك الإطلال بدا وكأنه عقاب لأنفسهم يزيدون من قسوة جلداته كلما برد لهيبها، الا يثير  ذلك النعي المبالغ فيه فينا الريبة، ويجعلنا نشكك في أمره وأسبابه أحيانا؟!.
 
هل كان امرؤ القيس يبكي أرضه حقا أم أن دموعه أخفت رغبة دفينة في هلاك كان تمناه لها؟!، هل تذكر سنوات عمره التي اختطفت منه وهو يبحث عن سبيل عودته إليها، أم أنه وقف مندهشا أمام رقصة أشباحه المحتفلة بما أصابها من بعده؟!..
 
أي أرض لا تقبل بك حتى تنزف نفسك وغيرك للحصول عليها؟!، لعل الأمير المقروح أخفى بعض من تشفيه، وشماتته لأرض رفضته سابقاً فمنحته لحظة وقوفه على ركامها بعض من سلام كان يرجوه؟!، أيا كان شعوره لم يكن ليمنعه من البكاء الصادق، لعل الصدق يزيح بعض مما علق بالروح من تعب! ..
 
بإمكان البعض رفض هذه النظرية، وتقديم دليل خطأها عبر خطاب عنتر بن شداد لمنازل عبلة، أليس هو القائل:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـم
يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي وَعِمِّي صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِي..
 
لم يستنكر عنتر الوقوف على الأطلال واعتصار روحه في سباق البكائيات وحسب، بل انتقد وبكل شجاعة شعراء لم يتركوا أثرا إلا وقتلوه وصفوا وتباكيا، وانحنى رغم كبرياءه لمنازل عبلة وطالبها الحديث نيابة عنه وهو الشاعر الفذ ذو اللسان الطليق، دون أن يبدو عليه رغبة لتحولها حطام وهباء منثور..
 
مخطئ من يظن أن عنتر كان مختلف عن  الآخرين، ربما كان أكثر الشعراء الذين اعترتهم الرغبة في البكاء، بكاء طويل، إلا أن الظروف التي عايشها جعلته يكتم ضعفه وينظر لتلك الديار بطريقة مختلفة، فقد قضى سنوات طويلة من حياته في عبودية كان شرطها الأساسي أن لا يتجرأ مملوك على فكرة امتلاك جسده فكيف حين يفكر في وطن خارج حدود مالكه، لكن الشاعر الأسمر كان عنيدا واختار بكل تصميم وإرادة تغيير حدود أرضه..
بعض الجدران تكفي من لا وطن له، لكن لا أحد يعلم ما الذي كان سيقول عنتر لمنازل فارغة من الأماني إن طالت به الأيام وهو يسكنها؟!..
 
اختلفت نظرتنا للقصائد عما كانت منذ زمن، ولم تعد ثقيلة الوقع على مسامعنا بل أمسينا نحن من يتنقل بين أبياتها علها تخفف عنا بعض من وحشة ومعاناة وقد أدركنا مدى الشبه والتطابق بين مشاعرنا وبين ما حملت تلك القصائد من شجن.
 
مازلت أوطاننا قاسية علينا، منذ حطت عليها بدايات أعمارنا وهي تدير لنا ظهرها، ويبدو أن العشق الذي مازلت حروفنا تذرفه عليها ليس كاف ليشفع لنا، قد تكون الشوائب العالقة فينا والعصية عن النزع سبب ذلك الصد والتجني!.
 
لكننا لسنا سوى مجرد بشر ومن الصعب على قلوبنا تبادل حب نقي مع عاشقة لا تملك قلب، ما أن تستبشر بكاس ماء من يدها حتى تختنق بملوحة لا تزيدك سوى عطشاً..
عاشقة كان قد وصفها عبيد ابن الأبرص قبلك بأن الخطوب قد " بُـدِّلَـت أَهلُهـا وُحـوشـاً وَغَيَّـرَت حالَهـا"، فلم يعد تخليها عنك في محنتك وترك أبوابها مشرعة لغيرك وأنت تعاني الريح والبرد وحرمان الأسقف الآمنة بأمر مستغرب عليها..
 
مازلنا كأجدادنا نسعى للهجر_ ما أن يتاح _ إلى أرض جديدة قد نتمكن فيها من الارتواء، بالطبع لن نحظى بذلك الحنين الممزوج بقطرات دماءنا، لكننا لن نعجز عن خلق غيره، وإن عجزنا وباءت محاولتنا بالفشل، لا ضير من خلو ذاكرتنا من الأوجاع، لعنا بذلك نرتاح من النظر المتكرر للخلف والتعلق بآثار لم نسلم من أذاها، ونكتفي في رحلة وداعنا بأبيات أطلال باكية حتى نطيق الوداع:
 
وَدّعْ هُرَيْـرَةَ إنّ الرَّكْـبَ مرْتَحِـلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَداعـاً أيّهَـا الرّجُـلُ؟ ..الأعشى
  •  

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...