صندوق اللاشيء..
بلهجة محببة، وثقة مبالغ فيها :" ادمغتنا نحن الرجال عبارة عن صناديق سوداء، محجوبة مهما حاولت النساء التسلل إليها لفتحها ومعرفة ما فيها ستبوء بالفشل، فصناديقنا عصية وإن استعانت بأمهر صانعي الاقفال واكثرهم خبرة"..
أدار المقعد الدوار على نفسه بشكل طفولي وهو يكمل بهدوء مستفز :" هناك صندوق للتفكير بالعمل، وآخر نضع به أدوات القياس وأوراق شفافة لرسم وتخطيط المستقبل به، وآخر للأصدقاء بالذات اصدقاء السوء منهم، وبجواره يقع صندوق رؤساء العمل"، أشار لي أن أبتعد قليلاً وهو يواصل حديثه :" ذلك الصغير خلفك صندوق الزواج والاطفال، والاخر المنزوي في الظل صندوق المتعة الخفي!!"..
استدرت حيث أشار لاتفاجأ بالمكتب وقد تحول لدماغ بشرية ظهرت من العدم، تعمل بكل نشاط وحيوية رغم ازدحام صناديق سوداء على أرضيتها وحوائطها!!..
ترك مقعده وسار على تلافيف دماغه بكل بساطة متجنبا صناديقه كلاعب محترف للقفز عبر الحواجز، وهو يشرح وظائف الدماغ الحيوية!!..
تنبهت فجأة لصندوق كبير الحجم نسبياً عن غيره من الصناديق يحتل موقع متميز منتصف المكان !!..
حاول التملص من سؤالي عن الصندوق بمواضيع مختلفة، إلا أني ضيقت عليه الخناق ليعترف :" ستكونين أول امرأة ترى هذا الصندوق فمن غير المسموح لغير الرجال لمسه أو حتى النظر لمحتواه !"..
رفع عنه الغطاء لأجد مساحة غير طبيعية تطل من قاعه، تخدعنا الصورة أحياناً، فمن يرى الصندوق من الخارج يعتقد جازما أنه قد لا يتسع لكتاب متوسط الحجم، لكن بمجرد رفع غطائه ظهر لي فراغ واسع يكفي لإدخال عربة دفع رباعي، هل هو الصندوق المختص بالسياسة وإشعال الحروب !!..
لمحت نظرة سرور تلمع في عينيه وهو يرى مقدار حيرتي قبل ان يقفز الى الصندوق ويفرد جسده عليه بكل أريحيه واضعا كفيه خلف رأسه كوسادة، صاح بجزل وهو يضع ساق على أخرى على طريقة آل باتشينو :
" اوهيااااااا، أنه صندوقنا المفضل، صندوق اللاشيء" ، تنبهت حينها لفراغ الصندوق ونظافته من أي ادوات فعلا !!
سألته مستنكرة :" وما وظيفته؟!، ما الذي يمكن عمله في هذا الفراغ عدى أخذ قيلولة داخله؟! " ..
لم يجبني وهو يتعلق على حافته مغادرا إياه بحركة بهلوانية سريعة، وانحنى على قفله ليغلقه بأحكام قبل أن يخفي مفاتيحه في جيب بنطاله، ويلتفت الي بهدوء :" احسنتِ، هذه هي وظيفته تماماً، حين تجد المرأة الرجل منغمسا في تفكير عميق ويبدو على ملامحه خطورة الموقف وهو يهرش شعر رأسه ولحيته بعنف باحثا عن حل لمعظلة تؤرقه، يكون في حقيقة الأمر وسط الصندوق، لا يفكر في شي، أو بشكل اخر يمكنك القول إنه يفكر في اللاشيء!"..
لم استطع تمالك نفسي وقد شعرت بغصة في صدري للهدوء الذي بدا على ملامحه بعد مكوثه ثوان قليلة في الصندوق :" أي منطق هذا، حين أتوقف عن الحديث، أو العمل، أو معاركي مع أطفال العائلة وأمهاتهم، انشغل في قراءة كتاب، سماع اغنية، انفض عن نفسي بلا جدوى التفكير في الحرب ونهايتها الضبابية، أعمال المنزل التي لا تنتهي، عرس بنت خالة صديقة صديقتي وكيفية تخلصي من الذهاب إليه، البوم عمرو دياب الذي لم اسمعه حتى اليوم..
أجبر نفسي على الصمت مقبضة على أصابعي بعنف حتى لا أكتب منشور أو مقال أندم عليه وأنا أصف معارك الفيس بوك البائسة، وان تخلصت مما سبق اختار الصمت للتفكير في مشروع يدر علي أرباح سريعة سهلة قبل الشروع في التنفيذ العملي لفكرة السطو على الكريمي للصرافة، لن يعترض مالكها على ما سأقوم به، فأنا أولى من الميليشيا، ولن اطمع في اكثر من حاجتي !!"..
تناثر لعابي من شدة انفعالي :"
" من يراني يعتقدني صامتة لكن عقلي يستمر بالتخطيط وتبادل الحوارات مع نفسه، الصراخ والتمتمات والهمسات، لا يقوى حتى النوم على اسكات ضجيجي أو التخفيف منه، فعن أي استرخاء تتحدث؟!" ..
توقفت عن الكلام ولم يتبقى مني غير لهاث ساخن غاضب، لاسمعه يقول :" وهنا يأتي الاختلاف الجوهري بين الرجل والمرأة، عقولكن عبارة عن شبكة شبيهة بشبكة الإنترنت، لا تتوقف عن العمل وربط الاشياء ببعضها البعض، تتذكرين تهديد اختك مساء البارحة ووعيدها بسبب تأخر موعد انتهاء الحرب وتحميلك ذنب ذلك التأخير نتيجة تحليل استقرأته قبل سنوات، في حين أن السبب الحقيقي لغضبها قد يكون انتهاء الطاقة في بطاريتها الشمسية، أو خلافها مع صاحب البقالة الذي مازال مصراً على نهبها بورقة الدين التي لا تقل مهما سددتها، على العكس منا نحن معشر الرجال، كل شيء موضوع في صندوقه، لا يتعدى وظيفته المخصصة له ولا يخرج منها إلا في حالة استدعائه في الوقت المناسب له ؟! ..
حاولت المكابرة ورفض نظريته والاعتراض عليها، وأنا ابحث في ثنايا عقلي عن صناديقي، إلا أنه قاطع ذلك البحث، لا أعرف السبب الحقيقي الذي يدعو الناس لمقاطعتي، لن انسى موقف اغضبني ولم استطع نسيانه منذ سنوات، حين قاطعتني اختي " المتوعدة لي" وانا أسرد عليها قصة نضال مانديلا ضد العنصرية وسنوات سجنه الطويلة، لماذا لا يرغب الناس في حكاياتي ويقاطعونها باستمرار، هل تكمن المشكلة في طريقة سردي، أم سوء اختياري للتوقيت؟!..
لعل الناس يفضلون أخبار زواج الفنانين من الدعاة، أو مشاهدة رقصة كيكي عن نضال الشعوب ومعاناتها، وبالرغم من ذلك احمل أنا وزر الحرب وسبب استمرارها!..
عزوفنا عن معرفة الملاحم الإنسانية التي سبقتنا ورفض تعلم الدروس والمواعظ منها هي السبب الرئيسي لما نعانيه، بالإضافة للفشل الذريع للحكومة والتحالف بالطبع..
تركت مانديلا جانبا لاكمل استماعي لفلسفته غير مقتنعة :" لا تبتأسي، مازال هناك نقاط تشابه بيننا، نادرة لكنها موجودة"، أمسك جبينه محاولا تذكر إحدى تلك النقاط قبل أن يكمل :" اممممم لا تسعفني ذاكرتي في الوقت الحالي لكنها حتماً موجودة، لا يعني اختفائها أو اختلافنا الوصول لحد التصادم"، استدار عائدا لمقعده وهو يتمتم بهدوء :" لن أوصف اختلافكن عنا على أنه عيب مصنعي، من الممكن اعتباره خط انتاجي بمواصفات مختلفة !!"..
لملمت أفكاري مغادرة المكان، وقد اختفى الدماغ البشري من حولي واستعادت الجدران واثاث المكتب اماكنها، فتحت باب الخروج قبل أن التفت اليه واجده مستغرقاً في تأمل الفضاء وكأن شيء مهم يشغله بعمق، هل انتقل لمكان اخر؟!..
أنه في الصندوق حتماً !!..
يبدو أن عملية الكريمي ستتاجل، فهناك ما هو أهم منها، سيكون لي صندوقي الخاص، وعقابا لغروره وثقته المتضخمة، لن أقبل بغير جمجمته للسطو عليها !!.
سيتعلم درس في فائدة الشبكة الدماغية التي املكها وأنا اتسلل متخفية من نقطة لأخرى بينما هو مستغرق في إحدى صناديقه، سأنتظر انتقاله لصندوق كرة القدم، لا أجمل من الاستماع لهتافه الساخن لمشجعات المدرجات، وأنا أودع دماغه قابضة بكفي على "صندوق اللاشيء" وقد أصبح خاصتي!!..
نور