الأحد، 22 ديسمبر 2019

متلازمة "شرف الدين" -3-    


نور ناجي

  مازال يحدق بعينيه الجاحظتين؛ لم يبدُ عليه الخوف نتيجة الدماء التي سفكت على أرض الساحة، إلا أن ذلك لم يمنع ارتعاشة جوفه..
 
"كنت أشعر بذلك من قبل"، لعله قال ذلك في نفسه وهو يتذكر دخوله منتصرا إلى صنعاء، وهتافات الفرح وهي تطوقه، دون أن يمنحه ذلك أي شعور بالأمان. فأسوار المدينة الخائنة، التي لم توفِ بعهدها مع والده، مازالت تحيط به..
 
غادر "أحمد بن يحيى حميد الدين" مدينة صنعاء بعد قرار معاقبتها وتركها مستباحة لرجال القبائل الموالين له، ليتوجه هو للإستقرار في تعز. على الأغلب أن الرجل كان ينوي، مسبقاً، ترك المدينة قبل أن تُعجِل ثورة الدستور- (رحم الله شهدائها)- باتخاذه ذلك القرار. فقد طاف اليمن من قبل قامعاً ثوراته، واكتشف أن الأسوار قد تكون فك محكم إن ثار من يسكن خلفها!!..
 
كان بإمكانه إختيار "شهارة"- بمحافظة حجة- مقراً لحكمه كما فعل سلفه "المتوكل على الله اسماعيل". وربما ظن مرافقوه أنه سيلقى الأمان هناك في "حجة"، التي قاد من خلالها معارك إستعادة إمامته الضائعة. لكنه لم يكن يسمح لنفسه بالوقوع في فخ "متلازمة شرف الدين" مجدداً، فشهارة، أو حجة بكلها، ليستا سوى أسوارا لا تختلف عن ما يحيط صنعاء!!..
 
فهم الرجل قواعد اللعبة.. وربما ساهم ميراث والده، بشكل أو آخر، في التخفيف من أعراض تلك المتلازمة؛ أربعة وأربعون عاما من عملية تجهيل متعمدة، وضرب أسوار حديدية على حدود اليمن، أمر لا يستهان به!!..
 
لعلنا نرتكب خطأ حين نضيف لقب "الإمامة" على ذلك الرجل. وأعتقد أن من الصواب تصنيف "أحمد بن يحيى"، من بين أسلافه، بـ"الملك الأول" الذي تحرر من صنعاء وهجرها إلى مدينة أخرى..
 
إثنان فقط من يستميت في سبيل صنعاء: عاشقٌ لم ينل حظه فيها؛ وإمام ينشد التحصن خلف أسوارها. ولم يكن أحمد أي منهما..
 
على ما يبدُ، كان الرجل قارئ جيد للتاريخ. وبناءً على ما قرأه، أختار عاصمته الجديدة. كانت زبيد وتهامة خيارا مناسبا لولا الجرائم التي اقترفها بحق سكانها، لذلك كانت "تعز" الأقرب لمراقبة "مملكته"، ولدعم اقتصاده في الوقت ذاته. فاخضاع السهول والمناطق الخصبة، ستأتي له باليمن خاضعة، بما فيها صنعاء والقبائل المحيطة بها..
 
إلى ذلك الحد، يمكننا فهم الرجل، حتى نتوقف على إسم التدليل الذي ارتضاه "الملك" لنفسه: "احمد يا جناه"!!..
 
هناك خطب ما يشوب تلك السلالة!!..أن ينشأ شخص على فكرة: أنه مصطفى دون غيره؛ وأن السماء قدمته على بقية أهل الأرض بسبب جين معين في حمضه النووي.. لهو أمر لا يُنتِج- على الأغلب- سوى شخصية مختلة، فاقدة للمنطق، لا تنظر إلى الأشياء كما يراها الآخرون، معتقدة أن ما يطرح لها من قوانين عقلية سليمة ليس سوى هراء يبغي تخطي سلاسلته الوراثية!..
 
لم يتخلص الرجل إذن من متلازمة "شرف الدين"..!! كل ما في الأمر أنه استبدل أسوار صنعاء بجدران والده الحديدية. لذلك لم تمضِ سوى سنوات على تنصيبه، حتى ثار اليمني عليه، وتخلص من بقايا حكمه في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962..
 
بعد ثورة سبتمبر أعتقد اليمني- ساذجاً- أن مشاكله ستنتهي..!! حتى عادت المعارك بين الملكيين والجمهوريين، كراً وفراً، ليرفع الثوار في العام 1967 شعار "الجمهورية أو الموت"، في خضم الحصار الذي ضرب صنعاء سبعون يوماً..
 
 بالطبع كان من المهم أن ينتصر اليمني في تلك الملحمة؛ إلا أن ربط سقوط صنعاء بسقوط الجمهورية، كان "رهانٌ" أثقل كاهل المدينة وأعادها تحت رحمة الإمامة من جديد. فصنعاء ليست اليمن، ولم تقم المدينة- حينها- إلا بإحطة نفسها، خشية رصاصة طائشة أو صاروخ متعمد، بينما هب أبناء اليمن، ومن كافة مناطقه، لتخليصها من ذلك الداء..
 
هل تعَلّمَ حكام اليمن من ذلك الدرس، وحاولوا تقديم المزيد للمدن التي كانت متلهفة على العطاء بقدر حاجتها لمن يراها، أم أن بعض من متلازمة "شرف الدين" تسربت اليهم؟!
 
بالطبع، لم تعد المقارنة القديمة مناسبة تماماً لإسقاطها على صنعاء اليوم!. فقد توسعت المدينة فعلياً، وتحولت إلى أهم المدن الاقتصادية في اليمن. لكن المدهش أن الإمامة مازالت ترى فيها ذات الرداء الضيق، رغم تهدله عليها!. وأغلب الظن أنه ذاته الذي سيقضي عليها في نهاية المطاف.
 
يمكننا، ببعض الدراسة والمقارنة، فهم الطريقة التي تفكر بها الإمامة، سواء في الماضي أم ما جاد به وقتنا الحاضر. ما يثير الدهشة، ويستعصى على الفهم حقاً، هي المتلازمة التي أصابت الشرعية: "متلازمة الفنادق"، التي لم يسلم منها غالبية أفراد الحكومة، المفترض بهم تمثيل الشعب اليمني وجمهوريته!!
 
فبينما تقاتل الإمامة لتثبيت حكمها في صنعاء، مازالت الشرعية متشبثة بالفنادق المكيفة حتى آخر رمق!!..
 
وقد بدى واضحاً للعيان، أنها لم تعد تجد في أسوار صنعاء، أو غيرها في مدن اليمن، ما يرضيها أو يناسب طموحها!!

الأحد، 15 ديسمبر 2019


متلازمة "شرف الدين"..(2)


نور ناجي

ليست مفارقة غريبة أن يكون "المطهر يحيى شرف الدين"، والملقب بالسفاح هو من استدعى الأتراك لحرب والده "يحيى"، أنها "متلازمة شرف الدين"، الداء الذي يجعل المرء يحارب والده من أجل الدفء الذي تمنحه صنعاء؛ إن لم تكن الأسوار لي لن تكون لغيري!..
 
استقرت قوات الاحتلال العثماني في اليمن. كانت تعز  عاصمة لهم، إلا أن المدينة لم تجد الاهتمام الكافي حتى تترك القبائل المتقاتلة اسلحتها، وتتجه نحو قلب الدولة الاقوى. على خلاف ذلك، كان الاتراك قد اختاروا استنزاف طاقتهم في اليمن الأعلى، وتخلوا عن التزاماتهم للمناطق التي وجدت فيها ضررا أخف من أذى الامامة..
 
أدرك الاتراك متاخراً أن تمسك الإمامة بصنعاء لا يهدف لتأسيس دولة بقدر اعتمادهم على تحصينات لم يكن لهم أن يستوفوا شروطها، فلن تقبل القبائل استبدال الأئمة بالأغراب على أي حال، ليغادوا اليمن بعد ذلك يجرون خلفهم هزيمة مرة..
 
أطل النهار على"القاسميين"- الأئمة الأقوى في تلك المرحلة- ليجدوا أنفسهم قد انتقلوا من دور المعارضة المسلحة الذي اعتادوا عليه، الى حكم الدولة بأبسط تعريف ممكن: "مساحة من الأرض يعيش عليها مجموعة من الأفراد يفترض أن تديرهم سلطة لها الحق باستغلال الموارد في سبيل تقديم الخدمات وتوفير الأمن الداخلي والخارجي"..
 
كيف للإمامة، التي اعتاشت سابقاً على غنائم الحرب والتخفي خلف الحصون، أن تدير مثل تلك الدولة؟!..
 
كان لدى الأئمة عدة أمثلة لدول ناجحة قامت على أرض اليمن، قد تكون الدولة الرسولية التي استمر حكمها لأكثر من قرنين أبرزها..
 
مازال الجميع يتذكر كيف رست سفنهم على السواحل اليمنية، ليقع إختيار "توران شاه "- بعد نصح الاطباء- على سفح جبل صبر الخالي إلا من حصن "القاهرة"، دون أن تدخل صنعاء في أي قائمة للمفاضلة عليها ..
 
قد يكون الأمن الشخصي شرطاً لطول عمر الحاكم، لكن التخفي خلف الحصون لا يبني الدول أو ينشيء حضارات. فهناك الغذاء (الاقتصاد)، الحاجة الأساسية التي يفترض أن تتبادر إلى ذهن أي حاكم يستشعر مسؤوليته؛ أمن لا يشمله ورجاله بقدر ما يشمل أصحاب الأرض كافة. وقد تم اختيار "منطقة تعز" التي تتوسط مرتفعات زراعية خصبة، والمطلة بذات الوقت على أهم سواحل اليمن، لتكون مصدراً لذلك الأمن. ليس ذلك وحسب، فقد كان ميناء عدن الذي أخذ يرسل خراجه للمدينة أربعة مرات في العام على مدى بصر أولئك الحكام، ليبدا العامة بترديد مقولة: "تعز كرسي اليمن وخراجها عدن".
 
تخففت صنعاء من عبئها خلال فترة حكم بني رسول. لم تعد مطمع لما حولها. كما توقف النزاع والقتال في سبيل التحصن فيها، وقد تقلص كل إمام خلف اسواره الخاصة، يلعق متلازمته بألم متجنباً غضبة الدولة القوية. فهل حاولت الدولة القاسمية أن تقتدي بتلك الدولة أو غيرها التي لم تحجمها اسوار صنعاء، أم أن الداء مازال ملازما لها حتى وقد منحت دولة لم تكن لتحلم بنصفها! ..
 
كان من المدهش استيعاب أئمة الدولة القاسمية لكافة تفاصيل مظاهر حكم العثمانيين، على الرغم من نقدهم السابق واللاحق له. فلكل مقام مقال، وقد تحقق المقام الجديد، باستلامهم الحكم وإبقائهم على القوانيين الجائرة التي سنها الأتراك من قبلهم! ..
 
بالرغم من الإستقرار النسبي، والحركة الفكرية التي نشأت في بداية فترة حكم القاسميين، إلا أنك لن تجد لهم أي مشروع يوازي ذلك الإستقرار: لا طرقات، أو تطوير مؤاني وشبكات ري، أو حتى الشكل الابسط لتنمية تحتاجها أي دولة. فلم تكن الإمامة لتتخلص من متلازمتها بتلك السهولة، لن تركن للسلم وتترك أسوار المدينة في سبيل مدن أخرى أكثر انفتاحاً وموارد..
 
لكن ذلك لم يمنع القاسميين من إبداع صناعة إقتصاد خاص، لم يسبقهم إليه أحد!!..
 
كانت الإمامة أضيق من أن تخرج عن صنعاء فكيف لها أن ترى ما يحيطها إلا عبر ما برعت به على الدوام: "الفتاوى" واجبة التنفيذ لضمان دخلها وامنها أيضاً، ليس من السهل أن تجد دولة تعتمد على "الفتاوى"، إلا أن القاسميين فعلوها وبجدارة!!. ..
 
ربما كانت أشهرها تلك الفتوى التي جعلت من اليمن الأسفل مناطق "كفرية"، بسبب إقامة الأتراك "الكفار" عليها. على اعتبار أن البلد الذي تظهر فيه "كلمة الكفر" تصبح كفرية، ولو كان أهلها وسكانها لا يعتقدون الكفر ولا يقولون بمقالة أهله!..
 
أنه التكفير بالإلزام: تكفير الآخر، وهو لا يعتقد به ولا يقول بأي مقالة فيها كفر أو شبهة له !!..
 
حولت تلك الفتوى مناطق اليمن الأسفل، بالإضافة إلى يافع وحضرموت من "أرض عشرية" إلى "أرض خراجية"، لتتغذى الصراعات القبلية والمذهبية والمناطقية بين اليمنيين. كانت تلك اهم صناعات الإمامة المتخوفة: التفنن في خلق "عقد الذنب والنقص"، لا بد وأن يشعر بها كل من خالف مذهبها أو وافقه!..
 
ضمنت تلك النوعية من الفتاوى الخراج، كما دعت أفراد الطبقة الحاكمة من آل القاسم الى الخروج الحذر من صنعاء وتكوين اقطاعيات خاصة بهم، دون السماح بفتح ابواب مدينتهم المحصنة لسواهم. وقد أمسى سكنها منحة بإذن خاص من الأمام: "لا يسكن المدينة إلا من يستحقها!". هكذا قالت المتلازمة، التي مازالت تنظر بعين الريبة الى مناطق الأعداء خارج أسوارها..
 
بعيدا عن شعور أغلبية الأئمة، بأن كافة ما تنتجه الأرض "الكافرة أو المسلمة" يجب أن يكون من نصيبهم، كان مال الآخر رديف للقوة التي ستغري صاحبها ذات يوم بالانقلاب والثورة عليها، وقد واجهت الدولة القاسمية الكثير من محاولات التمرد التي قمعت بأقصى أنواع التنكيل، لذلك وجب تجنب أي تمرد جديد بإفراغ جيوب اليمنيين عبر "اتاوات" جديدة، على سبيل المثال: ضريبة الصلاة على الشخص الذي يصلي (مطلب الصلاة على المصلي) ، ضريبة التبغ، رسم مائدة الأمير (مطلب سفرة الوالي) ، رسم العيدين، وغيرها..الخ.
 
مازال الأئمة يشعرون بالقلق، واستخدموا الكثير من أبناء القبائل المؤمنة بمذهبهم لعلهم يزيلون عنهم ذلك القلق والتوجس. لكن ذلك الاستخدام لم يشفع لأبناء القبائل أو يمنحهم بعض من مساواة قد يطالبون بها، مازال رابط الدم هو الشرط الأساسي لقبولك كفرد كامل في دولة الأئمة.
 
ستجد أن إيراد قبيلة الحداء، في كشوفات مالية لواء ذمار، كان تحت بند "عائدات زكاة الخوارج"!!، على الرغم من أن القبيلة كانت قد اعتنقت مذهب "الدولة"، وقدمت فروض الولاء والطاعة منذ أيام القاسميين الأولى..!!
 
ربما شعرت القبيلة بالسوء نتيجة تلك المعاملة، لكن ذلك لم يمنعها وغيرها من الانضمام إلى أئمة آل القاسم، الذين رفعوا نداء الجهاد ضد الغزاة مجدداً!!..
 
من الطبيعي أن تبقى مثل تلك الدولة تحت ظل التهديد والخطر الدائم للغزو. لا تستقيم فكرة بناء دولة وادارتها مع أئمة يحكمهم السقم، لا يجدون قوتهم إلا عبر عملية إضعاف غيرهم، ليتلازم على الأغلب غزو اليمن مع حكم الإمامة لصنعاء ..
 
مازالت متلازمة "شرف الدين" تقتات من أصحاب ذلك الفكر دون أن تمنحهم يوماً دولة بقدر ما منحتهم سجن اعتادوا النظر من خلف قضبانه..
 
لكن برغم ما قد تستفزك تلك المتلازمة مازالت هشاشة اليمني أمامها هي الأكثر استفزازا !!
 

السبت، 7 ديسمبر 2019

متلازمة "شرف الدين"!..


نور ناجي

  كان يشعر بالسقم، مازال متحصنا في "حصن الظفير"، أعلى حجة إلا أن ذلك لم يمنحه الشعور بالأمان؛ لا طمأنينة حقيقية خارج أسوار صنعاء. يعرف ذلك جيدا، كما كان يدركه أجداده الذين لم يتوانوا لأكثر من مائتي عام عن حربهم ضد الدولة الرسولية، استنزاف باهظ جنى غيرهم مكاسبه!..

ورث الطاهريون دولة بني رسول كل من السلطة والنفوذ، بالإضافة إلى كافة إيرادات الضرائب والتجارة، والتي كان يفترض بها أن تصب في خزائن الأمامة. ليس ذلك وحسب، فمازالت المعاهد العلمية "الكافرة" التي انشاءها الرسوليون تهدد بفناء قريب، إن لم يتم تدارك الأمر..
 
"لا بد أن  يجد حلا ؟!"، تمتم الإمام المتوكل يحيى شرف الدين بن شمس الدين، قبل أن يبتسم ساخر: "أي إمام هذا الذي لم تتجرا القبائل الموالية له بالمبايعة!"؛ ما فائدة الألقاب والإمامة دون أنصار وشيعة، ودون "الشعور بالأمان"!.

واجهت الدولة الطاهرية في منتصف القرن الخامس عشر الكثير من المخاطر، أهمها الصراع الخارجي الساعي لفرض السيطرة على طريق التجارة البحري، والذي كانت السواحل اليمنية وموانئه أهم مراكزه. ومن جهة أخرى لم تسلم من التمرد الذي كان يقوده الأئمة الداعين إلى أنفسهم بحقهم الإلهي في شمال البلاد ..
 
إلا أن ذلك لم يجعل الملك "عامر بن طاهر" يقبل بالغزو المبطن الذي ساقه إليه "حسين باشا كردي"، القائد الأول لأسطول الشراكسة، تحت مسمى "طرد البرتغاليين الغزاة على الدولة الإسلامية"..
 
للبرتغاليين مطامع كبرى، لكنها لم تمنع الملك الطاهري من التقاط رائحة غدر المماليك، تعددت المسميات والغزو واحد!..
 
سمع الإمام "شرف الدين" بالخلاف القائم بين الطاهريين والمماليك، ولم يكن ليترك تلك الفرصة تفلت من يده، إن لم يمكنه ضعفه اليوم من العودة إلى صنعاء، لا بأس من الاستعانة بالغريب، وبدأ الرجل فعليا بمراسلة المماليك!.

أبدى القائد الشركسي المرابط، وقواته، في جزيرة كمران اهتمامه برسائل المتوكل، على الرغم من عدم تأكده من ولاء الرجل، إلا أنه وجد في انضمامه المحتمل تأديباً مناسباً للسلطان "عامر بن طاهر"، وعذر أخلاقي قد ينطلي على أهالي الأرض التي سيقوم باجتياحها، كما أن أي صراع قادم مع البرتغاليين سيكون أسهل حين تملك قواعد قريبة..

لعلنا نخطىء الظن، ولم تكن مراسلة  المتوكل ل"الغزاة الكرام"- كما أطلق عليهم- إلا ليقينه بأنهم مدافعين مخلصين عن الإسلام الذي كان يتعرض لحملة  شرسة من أعدائه البرتغاليين. نقول ذلك باحثين عن عذر ينقذ الرجل من  وصمة خيانة لأرض ولد وتربى من خيرها، حتى نتوقف أمام ما ذكره المؤرخ الروسي "نيقولاي إيفانوف" في كتابه "الفتح العثماني للأقطار العربية"، والذي لم يستبعد فيه تحالف الإمام شرف الدين لكل من الصفويين والبرتغاليين، الذين رأوا فيهم حلفاء مخلصين وتوقفوا عن اعتبارهم أعداءً منذ عام 1513م!..
 
لم تكن صنعاء عاصمة مثالية للكثير من الدول التي أقيمت على أرض اليمن. مازال الطريق إليها صعباً، وابتعادها عن السواحل يمثل عيبا خطيرا لحاكم يخشى على حدود بلاده أو سواحلها. إلا أن الإمامة تمسكت على الدوام بصنعاء. لن تجد أسطول بحري أو جيش مترامي الأطراف أقامه إمام على مدى السنوات التي حكموا الأرض فعلياً، كافة التمردات الداخلية تقمع بواسطة أبناء القبائل، كما أن المخاطر الخارجية لا تمثل تهديدا مادام الأمن مستتب بالمدينة الحصينة..

اعتادت الإمامة أن تحكم من وراء قرى ومدن "محصنة" أو من وراء جدر، ولم تمثل لها صنعاء تلك الأهمية إلا بسبب ما تملكه من تحصين جغرافي أو بشري عبر القبائل المحيطة والتي تمكنت من اختراقها والتحكم بها مبكراً..

على عكس المناطق المفتوحة أو تلك البعيدة عن تحصيناتها والتي كانت على الأغلب عبئ مزعج بمناخ قابل للتمرد، فلا ضير من مقايضته بين حلفائها حال القوة أو خسارتها حال ضعفها..
 
استمر "المتوكل" بتأكيد وعوده للمماليك، حتى انضم مع القبائل الموالية له للقوات التي أخذت تنزل أسلحتها النارية إلى السواحل اليمنية، لتنطلق المعارك سجالاً..
 
حاول الطاهري تخفيف وطأة الأسلحة النيرانة- التي لم تكن معروفة لليمني بعد- باستدراج الغزاة نحو المرتفعات الجبلية إلا أن الأيادي الغادرة كانت له بالمرصاد، بعد أن خذلته كثير من القبائل المنضوية تحت لوائه، وتركته يحارب وحيدا، بينما أخذت هي تجري حساباتها في الربح والخسارة التي قد تجنيها حال مساندتها للمحتل..

انتهت المعركة بمصرع الملك المظفر وأخيه وهما يصدان الغزاة عن مدينة صنعاء، وسيطر المتوكل شرف الدين على صنعاء بعد أن تحصن خلف أسوارها، لم يكن ليبالي بمحاولة البقية من أمراء بني طاهر إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرض، على الرغم من رفعه سلاحه هو الآخر ضد سيطرة المماليك على صنعاء، فالحصول على المدينة كانت معركته الحقيقية، جائزته الكبرى دون غيرها، ولن يتنازل عن ذلك الحصن في سبيل وحدة أرض، أو ثأرا لدم يمني كان المتسبب بنزفه في المقام الأول..
 
لا بأس بعدها من أي معارك سيجبر على خوضها، سواء مع أئمة يجدون في أنفسهم الأحقية في الإمامة، أو مع آخرين لا يختلفون عنه بتحالفهم مع المماليك، "ليس في الأمر عدالة إلهية ضده!"، يقول في نفسه، وقد أدرك ان المتلازمة التي أصابته من قبل أخذت تعيد دورتها من جديد على أئمة غيره..
 
مازالت الإمامة بخير حتى تغادر صنعاء، ما أن تفقد أسوارها وطمأنينتها حتى تصاب بحالة من الهلع. وليس تقوقعها في الحصون النائية سوى مرحلة من التأهب والإعداد لموقعة جديدة، دون أن تهتم أو تبالي بالخسائر..
 
"دائرة مرضية" لم تكن الإمامة مسببتها منفردة بقدر ما شارك اليمني بها، سواء عبر  الفرقة والانقسام، أم تغليباً لمصالح أنانية بعيدة كل البعد عن مصلحة الأرض والوطن..
 
لا يعيد التاريخ نفسه كما نظن، بل يمرر عبرنا بعض النكات التي وجد فيها مادة مسلية ومناسبة للسخرية علينا..

الأحد، 1 ديسمبر 2019

"علي بن الفضل" البراجماتي الزاهد..


نور ناجي

اخرج الطبيب المبضع من فمه قبل أن ينحني ويبدأ باستخدامه. راقب تدفق الدماء بإهتمام حتى انتهى من عمله وغادر الحصن. لم يمض بعض الوقت حتى شعر "الامير" بالسم يجري في عروقه، "لابد وأنه كان مغمسا في شعره!"، حدث نفسه وهو يتذكر. حرص الطبيب- ولعدة مرات- على مسح المبضع بشعر رأسه قبل أن يقوم بحجامته، "لقد فعلها إذن!"، هتف بحنق على الموت الذي بدأ ينشب به وصاح بجنوده: "اقتلوه حيث تجدوه!"، وبالفعل لوحق الطبيب وتم قتله في مدينة "يريم" القريبة من مذيخرة، عاصمة دولة "علي إبن الفضل"، الشخصية الأكثر جدلا في التاريخ اليمني!..
 
 
من هو علي بن الفضل، ولماذا امتلئ تاريخه بالكثير من المتناقضات؟! ..
 
 
ولد علي بن الفضل في جيشان/ العود، قبل أن ينتقل الى "عدن" أحد المنافذ التي عبر خلالها المذهب الشيعي لليمن، والميناء الأقرب لارض "فارس" كما كان يطلق عليها..
 
 
في حقيقة الأمر، لقد تشيع اليمني مبكرا، سواء في المناطق الساحلية أو المرتفعات، ولأسباب عدة، قد يكون الاقتناع بالمذهب أبعدها، فقد كان موقع اليمن البعيد والصعب التضاريس على سيطرة عاصمة الخلافة، سبب مناسب للتمرد، خاصة أن عزز ذلك بكراهية توفرت ضد الدولة العباسية وخطاياها..
 
 
اتجه إبن الفضل نحو الكوفة تلبية لنداء مذهبه الجديد ليقابل هناك من يرى فيه المؤمن المصدق لنداء القرامطة الذين بدأوا بالفعل بالانسلاخ عن الخلافة الضعيفة وبدأوا بتكوين دولتهم ..
 
 
هل كان أبن الفضل في تلك اللحظة متشيع وقرمطي حقيقي، أم ادعى ذلك؟!..
 
 
تناقضت المراجع التاريخية في توصيف الرجل، فبعضها بالغت في شيطنته، لتضيف لشخصيته الكثير من الأفعال والصفات التي لا يمكن لأي محايد أن يستوعب حدوثها أو يتوقع قبول اليمني بها، حتى تحت حد السيف. وفي المقابل مجدته بعض أقلام ذلك العصر وقامت بتصنيفه بالثائر والقومي الأول الذي كاد يعيد مجد حمير مجدداً، فأيهما كان الرجل؟!..
 
 
بعيداً عن الأهواء الخاصة وما تميل إليه النفس، علينا الاعتراف بأن الرجل كان مؤمن بمذهبه الشيعي "الاثنى عشري"، نادى به وتلقى الدعم لأجله سنين طوال، ابتدأها في يافع التي استقر بها حال عودته من الكوفة، واتخذها مركزا لدعوته. لكن لماذا "يافع"، البلدة الأبعد نسبيا عن مركز القرار السياسي في اليمن؟! قد تجدون في ذات السؤال الإجابة المطلوبة!!..
 
 
لم يكن الرجل، منفرداً، قادرا على مواجهة أي قوة قبلية أو دينية سواء في وسط اليمن أو شماله، كما أن قلة موارد المنطقة أغلقت باب مطامع قد يتهم بها، وكان الرجل زاهدا بالفعل وعزف أن تكون وجبة دافئة أو ثوب زاهي أقصى امنياته. تقشف الرجل عشر سنوات قضاها متعبدا في منطقة عرف عن اهلها البساطة والعزوف عن الجدال، إلا أنها كانت تربة خصبة لتكوين جيش خاص بولاء مطلق، الخطوة الأولى لطموحات الرجل الحقيقية..
 
 
تعامل الرجل مع المتاح، وكيّف عمله ورؤيته وفق إمكانياته، ليبقى ساكنا إلا من أمر دعوته، حتى أطل العدو الأول لليمني، "الجوع" الذي يجعل من الإنسان شخصية غير متزنه باحثة دوماً عن الأمان..
 
 
اجتاحت المجاعات كافة مناطق اليمن، لتكون الوقود الحقيقي لثورة إبن الفضل، الفرصة التي انتظرها واحسن استغلالها بشعارات على شاكلة: "تقسيم مال الله على عباد الله!"..
 
 
لم يقصد ابن الفضل تدليل البطون الخاوية وحسب، بل منح عبر شعاراته عذر مرن وفتوى مناسبة لرفع السلاح والانضمام لجيشه الطموح، وأقام دولته فعليا، إلا أن مساحتها الضيقة لم تكن لتقنعه، خاصة وقد تزامن اختياره مذيخرة عاصمة له مع أخبار توسع دعوة رفيقه ابن حوشب في حجة..
 
 
أدرك ابن الفضل بكل فطنة أن ذلك لم يكن التحدي الوحيد الذي قد يواجهه. فعلى الرغم من الضيق الذي كانت تشعر به القبائل المحيطة بصنعاء تجاه اليعفريين نتيجة التزامهم بالخلافة العباسية، مازالوا المنافس الأقوى بامرائها ذو الشعبية الواسعة..
 
 
وفي خضم معارك ابن الفضل وصلت انباء استقرار يحيى بن الرسي في صعدة، ربما لم تمثل له تلك الأنباء خطر محدقا كما كان يمثل له أمراء بني زياد، غير أن دعوة جديدة لم تكن لتسهل عليه مهمته!..
 
 
كان لزاما- على الرجل البراجماتي بامتياز- ان يتعامل بكل حذر مع كافة التحديات، وقد يكون ذلك هو ما دعاه لاستبدل شعاراته "الدينية" بأخرى"قومية" مناسبة لمتغيرات الواقع..
 
 
من السهل تغيير الاستراتيجية عن التشبث بالمبادىء الضيقة، كما أن الإيمان بمذهب لا يدعوك بالضرورة للانتحار في سبيله. ربما قال الرجل ذلك لنفسه قبل أن يغير رداءه وينضم إليه الكثير، وقد أصبح الزعامة اليمنية الأولى بلا منازع. ابتلع ابن الفضل الدويلات المنافسة له خلال بضعة سنين واجبرها بعد فشل تحالفهم ضده على إعلان الولاء له..
 
 
كلما زادت قدرة المرء على التكيف والتعامل مع الحد الأدنى من متطلبات الحياة ازدادت خطورته على منافسيه، وهذا ما دعى"أسعد ابن يعفر الحوالي" الأمير اليعفري الى وجوب التخلص من جموح ابن الفضل، حتى أن كان ذلك عبر وصمة اغتيال جبان، ولم يكتفي بذلك بل قرر  دك "مذيخرة" وتحطيم جيشها المرابط خشية انبعاث علي إبن الفضل واسطورته مجدداً..
 
 
غالبا ما تتخذ الزعامات التي تعتمد على ذاتها  مسارا واحدا، جموح ساطع يظن صاحبه أنه لن يتوقف به حتى ينطفىء ويسقط بدرامية لا تبقى منه على الارجح سوى بضع سطور، من الصعب بمكان تحري الصدق فيها!!.

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...