الأحد، 19 يوليو 2020

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صفحاتها لا ينبغي إلا أن يوجد على يد "إمرأة"!.. لا أحد ينكر براعة المرأة في الإنتقام على الرغم من توقف مهارتها على رسم المخططات، فغالباً ما يكتفي خيالها بالتوغل في دماء عدوه أو حتى شربه قبل أن تنهره عاطفتها بالكف عن تصرفات الصبيان!.. تقف أمام الرواية مثنياً على الإنتاج النسائي البحت فاتزان المرأة يمنعها من إرتكاب أخطاء تقليدية تبعث على السأم كخلق وحوش لا تملك سوى الخلود أو القوة الفائقة؟!.. ما الذي يجعل أحدهم يتمسك بإقامة مملة أمام إثارة لحظات قصيرة مكتظة بالشغف، وما المتعة التي قد نجدها في حياة مطعمّة بإلاكراه؟!.. "ينبغي أن لا تختلف الوحوش النسائية عن محيطها حتى يسهل اختفائها بين الجموع باقنعة غير مكلفة!"، أكدت ماري شروطها على الطبيب "ڤيكتور فرانكشتاين" بطل الرواية وهو يعد نفسه بحماس لأداء دوره!.. تجلى إبداع "شيلي" في عدم إتكالها على تدوير منتجات الغير، فعلى الرغم من جمع الطبيب لأجزاء وحشها من بين الجثث والمقابر صممت على جعله بذاكرة نقية لم تلوث بأي ماضي، ليس لإمرأة قادرة على الإنجاب وبعث الحياة أن تنسخ وحوشاً بذكريات قديمة، كمصاص الدماء مثلاً _الكائن الذكوري المنشأ_ الذي مازال يقتات على دماء غيره متخذاً حيرته أمام التوقيت الحقيقي لميلاده عذراً لشراهته!.. برغم وقوف ماري على ما يدور في معمل فرانكشتاين إلا أنها تراجعت عن تحذيره لمخاطر تمرير التيار الكهربائي ونتائجه، كانت قد اعتبرت الطبيب الحاضن الشرعي للاوصال المرقعة امامها وليس لها منعه من تحمل مسؤوليته حتى مع عدم اقتناعها باهداف قيامه بتلك التجربة والتي راح يسردها وهو يدون ملاحظاته الأخيرة!.. لم تكن محاولة الخلق خطيئة الطبيب، تخليه اللا اخلاقي عن ما صنعه لاحقاً هو ما وضعه ضمن قوائم المذنبين، فكيف لماري أن تغفر لفرانكشتاين اقتصار نظرته على ملامح المخلوق المشوهة وبشرته الصفراء وتغافله عن الروح الحائرة التي استيقظت للتو على طاولته!.. لم يكن التيار الكهربائي هو من أوجد الوحش، "الوحدة وازدراء النفس" الذي شعر بهما عقب تخلي فرانكشتاين عنه كان الخطوة الأولى لاتمام صناعته كوحش.. "كان يجب أن أكون آدم الخاص بك، لكني بدلًا من ذلك كنت الملاك السيء!"، يقول المخلوق لصاحبه وقد اختلط لوم نفسه بمشاعر الخذلان والخيبة التي احس بهما، "ألم يكن "فرانكشتاين" قادراً على اسعاده، أم أنه شعر بعدم استحقاقه لأدنى قدر من الاهتمام؟!"، لم يكن الوحش على دراية بعد بمقاييس البشر لتبادل المحبة بينهم البين ومشاعر الجبن والخوف التي قد تعترضها؟!.. استغرق الكائن أو المخلوق ما يلزمه من وقت حتى كف عن تساؤلاته وتوقف عن ملاحقة الطبيب الفزع، " لا تتوقف الحياة على أحد!"، قالت "ماري تشيلي" وهي تلحق بمخلوقها بعد أن فقدت الامل في إصلاح ما بين ابطالها!.. ليس العيش المنفرد سهلاً على المرأة، لذلك فشلت "ماري" في تشكيل مخلوق لا يقدّر الحياة العائلية أو يستشعر اهميتها، مازال وحشها يجتهد في البحث عن عائلة تحتويه أو يحتويها حتى أدرك بأن شكله المخيف سيقف عائقا بينه وبين ما يريد، "يبدو أن البشر يعطون الاغلفة البراقة أهمية أكثر من جوهرها!"، تمتم الوحش بأسى أمام صورته التي انعكست على سطح الجدول!!.. "لست وحشاً، ولن أكون ما يريده لي الغير!" هتف بغضب قبل أن ينهض من مكانه عازماً على تغيير قدره، بينما تبعته ماري وقد امتلاء قلبها بالاسف عليه!!.. لا يعود المجرم منفرداً لمسرح جريمته، غالباً ما تعود الضحايا لتفقدها أيضاً!، وعاد الثنائي للالتقاء مجدداً.. ربما تجددت مشاعر المخلوق تجاه الطبيب في تلك اللحظة لكنه جاهد لكبحها بالحساسية المفرطة التي اورثته فيها كاتبته، "انتهى وقت الاستجداء!"، همس لنفسه قبل أن يقف بثبات أمام فرانكشتاين الفزع ويهتف بحزم : "عليك إصلاح ما افسدته!".. كان يستحق الحب وهو على ثقة من إمكانية إيجاده وإن عبر الشخص الذي حرمه اياه، فالحاجة أم "التنازل" الذي اضطر إليه وهو على ثقة بأن قِطع الأجساد الملتقطة من المقابر ستكون أكثر رقة من قلب بشري ينبض بالقسوة!. وضع المخلوق مطالبة على الطاولة التي شهدت ميلاده بكل صرامة :"يجب عليك إيجاد رفيقة لي!" على الأغلب أن "فرانكشتاين" لم يلتقط رسالة الكبرياء القوية التي اخفاها الوحش بين طيات مطلبه، واستبدلها بمخاوف تهديد فناء البشرية التي راح عقله يرددها بصمت؟!.. "أي أنانية حملها ذلك "الفيكتور"؟!، قدرة البعض على عدم الفهم تتجاوز قدرتك على الدهشة!"، لعل هذا ما جال في خيال ماري شيلي وهي تسعى لاهثة بين الأوراق لمراقبة تلاعبه ومواعيده الكاذبة، ولم يمر وقت طويل حتى صدق حدس الوحش ودمر فرانكشتاين جسد رفيقته التي كان يفترض به خلقها!.. لم تكن "الكاتبة" منذ البدء لتسكب مدادها على "كائن" لا مبرر لوجوده، امتلكت ما يكفي من أسباب الوجع لاسقاطها عليه سواء تعمدت ذلك أو باحت بما فيها دون أن تعي، قد يكون ذلك هو سبب تعاطف القراء أمام المخلوق البائس وقد لامس حضوره اوجاعهم الخاصة!.. على الأغلب أن "ماري شيلي" شعرت بالذنب تجاه "اليزابيث" خطيبة الدكتور "ڤيكتور"، إلا أنها زمت شفتيها وضمت كفيها لقبضة الوحش لتشاركه اعتصار عنق الفتاة :" حانت لحظة السداد التي انتظرتها طويلاً، ولن يضير الرواية تخلصي من بعض شخصياتها!".. انتظرت "ماري" ما يكفي حتى تذوقت بطرف لسانها لوعة فرانكشتاين وهو ينوح على جثمان حبيبته، " من قال بأن الإنتقام ليس حلواً؟!"، تسألت قبل أن تمضي بحماس وتلقي آثارها أمام الطبيب الخاوي من كل شيء إلا ملاحقة الوحش حتى لم يعد بامكانها الابتعاد أكثر، تلفتت للمدى الأبيض الذي احاط بها دون ان تخفي ابتهاجها، لن تجد لفرانكشتاين وقلبه موضع أكثر مثالية من المحيط المتجمد!.. مازال قلب المرأة هو الأكثر رأفة، لذلك لم تقوى كاتبتنا على ترك فرانكشتاين وحيداً، القت جواره اوجاعها القديمة قبل أن تعطيه ظهرها وتغادر :"كان لا بد من ذلك الختام، فأجود أنواع النهايات تلك التي تلصق لعنتها بمستحقيها للأبد!"، رسمت ماري ابتسامة بريئة على وجهها ووضعت الاوراق المذيلة بكلمة "انتهى!" جانباً.. يدرج البعض رواية فرانكشتاين ضمن "أدب الرعب"، متجاهلين تقلبات روح ذلك المخلوق وصداها الذي مازال يصرخ مدافعاً عن نفسه وعن ماري :" أن كان هناك من جانب مظلم بين الأحداث، فأصله يعود لما تحت رداء "فرانكشتاين"!.. جميعنا يسكنه وحش ما، البعض ينكره والبعض يعترف بوجود ما يشبهه، كانت "ماري شيلي" من القلائل الذين حملوا شجاعة الاقرار بحقيقته، حاولت كثيراً الترويح عنه وترويضه حتى فقدت السيطرة عليه، لم تكن سعيدة بتنظيف الفوضى التي تركها خلفه إلا أنها تحلت بالشجاعة ونصرته متحملة كافة مسؤوليتها تجاهه!.. نور ناجي..  

الأحد، 5 يوليو 2020

أسطورة لا تتحقق


نور ناجي

  تقول الأسطورة اليونانية إن الإنسان عاش جوار الآلهة بهيئة كائن يحمل أربعة اذرع وأربعة أرجل بينما حمل رأسه وجهين كل في جهة، قبل أن يشعر الإله "زيوس" بالقلق نتيجة تزايد قوة ذلك الكائن، فيشطره وينزله الأرض متفرقاً. وليس التعلق الذي يربط المحبين بعضهم لبعض وشعورهم الدائم بأنهم التقوا مسبقاً، سوى نتيجة التقاء شطري كائن واحد لم يكن له أن يتشظى. 
 
ومع إدراك الإنسان لخرافة الاساطير، وحقيقة أنها ليست سوى حلول مؤقتة للقضايا التي استعصت على فهمه، ألقى بأسباب مشاعره إلى أمزجة القلوب وتقلباتها، قبل أن يتطور العلم ويؤكد بتجاربه المخبرية أن انفعالات البشر ليست سوى نتاج تفاعلات "كيميائية/بيولوجية" مركزها الدماغ، تتبادل الهرمونات فيها الأدوار قبل أن تذوي وتتلاشى ما أن تنتهي من أداء وظائفها. فكما ينشأ الحب نتيجة بعض التفاعلات، يبهت وينطفئ لذات السبب.
 
بعض الحقائق العلمية تشعرك بالإحباط وتزيل عن قصائد الشعراء ومعلقاتهم الكثير من سحرها قبل أن تنتفض: لم يقل العلم الحقيقة كاملة ما زالت قصص الحب الأصيلة تصدح عن نفسها بشجاعة.
 
شهد القرن الماضي قصة حب غير عادية جمعت الكاتبة "مي زيادة" بشاعر المهجر "جبران خليل جبران". علاقة خالفت المقاييس العلمية التي تحدد فترات تقريبية لمراحل الحب، واستمرت لمدة عشرين عاماً!..
 
ولدت مي زيادة في "ناصرة فلسطين"، العام 1886م من أب لبناني وأم سورية، نشأت وتلقت تعليمها في لبنان قبل أن تنتقل مع والديها إلى القاهرة- قبلة المثقفين والأدباء ذلك الوقت. لم يطل بها المقام حتى انشأت صالونها الأدبي، الذي جمع كوكبة أدباء ذلك العصر، مثل: طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد الزيات، واحمد شوقي.
 
لم تملك "مي زيادة" الجمال الجامح لإيقاع أدمغة أولئك الأدباء في غرامها؛ إلا أن ذلك حدث وأخذ الأدباء يعترفون لها بحبهم تباعاً. أي فتاة كانت ستشعر بالسعادة أمام ما اتيح لها من خيارات؛ لكن "مي زيادة" فاجأت الجميع برفضها لهم وتمسكها بالشاعر "جبران خليل جبران". 
 
"على الأغلب أن زيوس كان سيشعر بالحنق لنتيجة ذلك اللقاء!" تقول بتشفي، قبل أن تتفاجأ ببقية أحداث القصة، فلم يلتقِ العاشقان طيلة سنوات حبهما، ولم يحاولا!. مازال جبران خليل جبران في مدينة نيويورك بعيداً عن مي زيادة بآلاف الأميال، مكتفياً بالرسائل المتبادلة بينهما.
 
لخط اليد مذاق خاص، لكن هل يمكنه فعلا أن يبقي المرء معلقاً بطرفه لعشرات السنين؟! يبدو أن "مي" وقعت في ذلك الفخ، لكن لماذا اسميه فخاً؟ لعل قلبها أو دماغها، أيا كان محرك مشاعرها، هو من أراد ذلك التأرجح، حين وجد في تلك العلاقة مسافة آمنة، ستحميه من خوض تجارب مجهولة النهايات، كما إن الشغف الدائم سيكون مادة غنية لقريحتها.
 
تتداخل المشاعر حتى لا تقدر على تمييزها، وقد المحت الشاعرة لبعض حيرتها في إحدى الرسائل: "أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، كما أن الجفاف والقحط واللاشيء بالحب، خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟! لا أدري.."..
 
هناك استثناء دائماً. على الرغم من العالم المفتوح ل"جبران" والعلاقات المتعددة التي رافقت مسيرته، إلا أنه لم يقبل بالتخلي عن "مي" أو رسائلها. لعل الشك في إمكانية انطفاء حبه لها، بعد أي لقاء، كان سبباً لتخاذله، لكنه استمر بكسر حواجز الجغرافيا مناجياً إياها وكأنها تجلس أمامه:
 
"أفكر فيك يا ماري كل يوم وكل ليلة، أفكر فيك دائماً، وفي كل فكر شيء من اللذة وشيء من الألم، والغريب أنني ما فكرت فيك يا مريم إلا وقلت لك في سري “تعالي واسكبي جميع همومك هنا، هنا على صدري”، وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات.. وها أني أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالباً من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلىّ”..
 
توقفت الرسائل بعد وفاة "جبران"، ليُكسر قلب "مي"، وتدخل مصحة نفسية، لا تلبث أن تخرج منها حتى توافيها المنية وحيدة!..
 
لا تكاد تنتهي من جمع فصول القصة حتى يصيبك الحزن، من المؤسف أن يشعر الغريب بإخلاص وصدق ثنائي أختارا تكذيب قلبيهما!..
 
يحدث أن تشعر بالجبن أمام مشاعرك، فتختار الوهم عنها. بعض الخيال أكثر جمالاً من الواقع، بل إنه يصلح أن يكون متنفساً مناسباً لمجمل حياتك. على الأغلب أن " مي وجبران" كانا من "الأنصاف" التي خلقت لتقارع العلم ونظرياته الباردة، لكنهما لم يملكا شجاعة الفعل على الرغم من سهولته!!.
 
تمكن العلم من توصيف أدق الانفعالات التي تصيب المرء لحظة وقوعه في الحب، إلا ان توصيفه مازال ناقصاً.. لماذا تشعر بالتعلق تجاه شخص دون غيره؟! ولماذا كان في الأمس وليس اليوم أو غداً؟! وما الذي يجبرك على التمسك بأحاسيس معينة، رغم اذاها؟!
 
 لعل جهلنا لتلك الإجابات هو ما يمنح الحب سحره ويجعله أسطورة لا تتحقق حتى يتحلى أطرافها بالشجاعة. 

الأحد، 28 يونيو 2020


صراع أزلي



نور ناجي

مازلنا نحمل، ومنذ بدء الخليقة، علامة استفهام حائرة عن أسباب المعاناة الإنسانية، سواء اقتصرت تلك المعاناة على رغبات النفس ومحاذيرها، أم امتدت لتكون حجة النزاعات البشرية وحروبها التي لا تتوقف، قبل أن نتوقف عاجزين أمام قوى الطبيعة التي لا تكتفي منا ولا نكل نحن من محاولة ترويضها!.
لماذا كُتبت المعاناة على البشر؟ وما الجدوى من وجود الشر؟! مازالنا نطرح ذلك التساؤل بين وقت وآخر، استوى بذلك من حاول إخفاؤه، أو من جاهر به مبدياً اعتراضه!..
على الأغلب، لن تجد إجابات شافية، فالسور الذي بناه جارك وحجب عن منزلك الضوء "شراً" تضررت منه، بينما يشعر جارك تجاهه بالاطمئنان!..
لا يقتصر الأمر على تضارب المصالح الفردية أو الفئوية، فقد امتد اختلاف البشر إلى تصنيفهم للأخلاق. فما يعتبره العرب مروءة وشهامة، قد يعد في المجتمع الغربي تهوراً واندفاعا غير مبرر. لا اظن أن وصف أحد "الهنود الحمر" بالرجولة، سيكون مفهوماً أمام مجتمع لم يعانِ من احتكار جنس معين لصفات محددة..
مازال التباين في وجهات الرأي، حتى في الانظمة والقوانين العالمية. فعلى الرغم من عيوب الديمقراطية، مازال البعض يفضلها على الملكية، كما أن الرأسمالية الجشعة، مرضية لقطاع كبير حين يقارنها بقمع الأنظمة الشمولية..
قد يكون إطلاق صفة الشر على القوى الطبيعية أمر غير منصف تماماً، على الرغم من قلقنا تجاهها..
فعلى الرغم من الأرقام المرتفعة لضحايا جائحة كورونا؛ إلا أن توقف عجلة الحياة العملية للبشر جعلت كوكب الأرض يتنفس بارتياح، ويكشف عن قمة جبل ايڤرست للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية بفضل غياب التلوث الجوي!..
لعل الفلاسفة أكثر من خاض في هذا البحث؛ فقد أعتقد "أفلاطون" أن الخير طبع لمن اعتاده، والشر مباح لمن أراده"، ليلقي بذلك اللوم على الفرد لاغياً تأثير ما يكسب الفرد من محيطه! بينما رأى "دانتي" أن النفس البشرية ساذجة، تجري كالطفل وراء مصالحها الدنيوية التافهة، لذلك وجد أن من الضروري إيجاد قوانين صارمة لرعاية البشر. وكأنه سمح- بطرحه- فرض الأنظمة القمعية سيطرتها على الفرد، منعاً لانحراف لا مفر منه!..
لم تتجاهل مدرسة إبن رشد ابداء رايها في تعريف الشر، وقالت بأن الأصل في العالم هو الخير، وليس الشر- في نظرها- سوى طارئ؛ كالعقوبات التي تفرضها القوانين البشرية، والتي تعتبر- في تعريفها- شرور وجدت من أجل الخير. أما عن وجود الشر في العالم فقد قسمته مدرسة إبن رشد الى قسمين؛ شر مطلق لا علاقة للرب بوجوده؛ وشر نسبي، فالنار "شر" حتى تستخدمها في المنفعة!..
ربما كان طرح إبن سينا هو الأكثر تميزاً حين ربط تعريف الشر بثنائية "الوجود والعدم"؛ فيُقال للشيء "شراً" عندما يترتب عليه حرمان الموجودات من الكمال؛ فالعمى شر لأنه حرم حاسة الإبصار من كمالها!.
تعريف بديع، أردف بعده، استحالة وجود ما يسمى بالخير المطلق أو الشر المطلق، إلا في بعض استثناءات، مازال الماء لازم للحياة إلا أن ذلك لا يمنع الغرق فيه!..
لعل بحثنا عن عالم مثالي ليس سوى ضرب من ضروب العبث، وليس علينا كبشر إلا محاولة السعي في محاولة التخلص مما نعتبره شراً أو الحد منه، لعلنا نحصل على بعض الكمال أو في احسن الأحوال: عالماً أقل شراً..
الزيدية بين المذهب والفكرة!.. مازال البعض يردد _وإن على استحياء_ بأن المذهب الزيدي أقرب المذاهب الشيعية لأهل السنة لولا السمعة التي نالته بسبب تصرفات الميليشيا!.. " لم لا؟!"، تقول ذلك مدركاً أن المطامع السياسية تجبر أصحاب المذاهب والمِلل _ أحياناً _على توسيع معتقداتهم أو تضييقها في سبيل إرضاء ولي الأمر، وقد يكون البحث الجاد عن أصول المذهب الزيدي هو الطريقة الوحيدة لتبرئته!.. يعرف المذهب لغوياً بالطريقة أو المقصد ووجهة النظر، بينما يشير اصطلاحه الفقهي إلى الإتجاه في فهم الشريعة والمنهج في استنباط أحكامها التي تمس حياة المسلم من خلال الأدلة الواردة في القرآن والسنة ودون الخروج عن قواعد وأصول فقهية محددة، فهل انطبق شروط المذهب الفقهي على الزيدية؟!.. ظهر الفكر الزيدي بعد دعوة زيد بن علي بن الحسين للخروج على الخليفة الأموي " هشام ابن عبد الملك"، قبل أن يفشل إلا أن دعوته لاقت صدى في كل من نجد وشمال أفريقيا والمناطق المحيطة ببحر قزوين كما استقرت في شمال اليمن، واتخذت منذ نشأتها تسميات مختلفة اطلقت على الأغلب باسماء ناقليها، " سالمية، ناصرية، جارودية، هادوية، وغيرها من الفرق...." على الأغلب أن الزيدية لم تستشعر حاجتها لفقة خاص مع استمرار التقاطها لأفكار المعتزلة والمذهب الحنفي، عدى القاعدة الأساسية للزيدية والتي تمحورت حول "الخروج عن الحاكم الظالم"، والتي انكب عليها "فقائها" بحثاً وتمحيصاً لتجيز حكم عدة أئمة في ذات الوقت، رغم ما قد ينتج عن ذلك من حروب واقتتال!.. ربما وجدت "الزيدية" في الأمام العادل ما يغني عن بقية فروع الفقه، لذلك طالبت الساعي اليها "بالعلم والفضل، الشجاعة، السخاء الورع، وجودة الرأي والعدالة" قبل أن تتأكد من سلامة أطراف وحواشي الإمام "الفاطمي الجديد"، الذي يجب أن يسبق منافسيه للمبايعة!!.. كان لا بدّ من ذلك السبق المحموم مع مطاطية الشروط السابقة، تبقى الأفضلية للأكثر سرعة وحركة، _الشرط الذي لم تنسى الزيدية اضافته_!.. يمكننا القول بأن المذهب الزيدي خصص نفسه لتهيئة الأئمة أكثر من انشغاله بتنظيم حياة الفرد وشؤونه، وقد تلقت مناطق شمال اليمن الكثير من التأنيب بسبب تمسكها بمذهب هزيل لم يسبب للأرض التي تعلقت بها سوى الخراب وتكرار الحروب!!.. تهمة قد يراها البعض جائرة، فلم تتلاشى الزيدية في المناطق الأخرى إلا بسبب تشيع أصحابها الصريح أو مواجهتها بقوة فرضت نفوذها على عدم منطقية "المذهب المختص بقيام الفتن"، ولم يكن استثناء اليمن من تلك القاعدة إلا بسبب ظروف خاصة هيأت للزيدية اسباب البقاء.. كانت الجغرافيا سبباً رئيسياً لاستقرار الأئمة في اليمن، فابتعاد أرضها عن مراكز الخلافات الإسلامية جعلها قبلة الهاربين الذين رحب اليمني باستقبالهم نكاية بتجاهل الخلافات لمظالمه قبل أن يثور حالما شعر بالجور الذي وقع عليه وللامتيازات التي ظهرت تباعاً واختصت فئة بعينها مستثنية اياه، لتدور المعركة سجالاً بين اليمني والفكر الزيدي الذي استخدم اسحلته الشهيرة "التجويع والتجهيل ونشر الدسائس والفتن بين أعدائه"، حتى أعادت الجغرافيا لعبتها وحولت اليمن من منطقة مهجورة إلى مطمع خارجي.. تدخل الأئمة بشكل مباشر أو غير مباشر باستدعاء تلك التدخلات، واستغلوا لاحقاً حالة عدم الإستقرار الأرض ليرتدوا ثياب الوطنية ويعودوا بقوة للواجهة السياسية بحجة محاربتهم المحتل برفقة اليمني!.. من الجائر إطلاق لفظ المذهب على الزيدية، مازالت منذ نشأتها الاولى "فكرة ثورية" تبناها زيد بن زين العابدين ضد مظلومية معينة قبل أن يقتات عليها الكثير، لعلها أمست في اليمن إشارة لمنطقة جغرافية أكثر من كونها مذهب معمول به، فلن تجد _ أيام السلم_ فوارق حقيقية بين زيدي ويمني أياً كان مذهبه إلا من سربلة وضم، أو تغيير طفيف في عبارات الأذان حتى تصحو "الفكرة" مجدداً على يد طلاب السلطة وامتيازاتها الخاصة.. نور ناجي

الأمير الخائن


نور ناجي

 دخل الإسلام بلاد البنغال مبكراً إلا أن ادارتها عبر حكام مسلمين لم يتم حتى انشقت عن الامبراطورية المغولية في القرن الرابع عشر.
 
انشأ "النواب"- اللفظ الذي كان يطلق على ولاتها- دولة قوية، امتزجت فيها الثقافة البنغالية والاسلامية بطريقة فريدة، قبل أن يتسبب أحد امرائها بالقضاء على استقلالها واستعمار بريطانيا للاقليم كاملاً..
 
امتلك "مير محمد جعفر علي النجفي"- المعروف ب"مير جعفر"- طموحا سياسيا ورغبة عارمة في الحكم، جعلته ينضم إلى الجيش البنغالي مبكراً ويتدرج في مناصبه حتى تمكن من الزواج من ابنة "نواب سراج الدولة"، والي البنغال حينها. لم يكن ذلك بالأمر العسير، خاصة مع اصوله القرشية، التي حمل لها مسلمي البنغالي الكثير من التقدير.
 
ارتبط تعريف الطموح بالحركة والسعي لتنفيذ الرغبات. يمكنك القول أن حركة الأرنب بحثاً عن عشب، أو فراره من مفترس، لا يتعدى عن كونه طموح في البقاء..
 
لا يستثنى الإنسان من ذلك التعريف، إلا أن "نوعية البقاء" ومقدار الجهد المبذول لأجله هي ما تحدد حركة البشر لتنفيذ طموحاتهم التي لا تخرج غالباً عن ثلاثية: "السلطة، المال، والحب"!..
 
فما المدى الذي بلغه "مير جعفر" للوصول الى احلامه وطموحاته؟!..
 
حملت "شركة الهند الشرقية" تفويضاً مباشرا من ملكة بريطانيا للتجارة مع جزر الهند الشرقية، قبل أن تكون المدخل لاستعمار المنطقة. وقد تنبه سراج الدولة في منتصف القرن السابع عشر لمخاطر تلك الشركة واهدافها الحقيقية، فعمل على محاربتها قبل أن يواجهها مباشرة بالقرب من قرية "بلاسي"..
 
بدى له من ساحة المعركة الممتدة امامه ومعطياتها رجوح كفته، فقد كان صاحب الأرض وادرى بشعابها، تجاوز جيشه 35000 مقاتل، بينما اقتصر العدو على 3000 جندي بريطاني. لم يكن العدد من منحه تلك الثقة وحسب، بل دعمته عدالة قضيته وحتميتها، دون أن يدرك أن "مير جعفر" كان قد تلاعب بتلك المعطيات!..
 
سارت المعركة في بداياتها الأولى، كما توقعها "سراج الدولة"، حتى استيقظ على فوضى انشقاق جيشه على يد زوج ابنته وانضمامهم لجيش العدة. لا بّد وانه حارب بقسوة بغية القبض على ذلك الخائن قبل أن يصيبه اليأس ويرجو الهرب ..
 
لم يذكر التاريخ إن كان "مير جعفر" حضر  إعدام "سراج الدولة"، بعد ان تم القبض عليه، أم ترك مهمته الثقيلة للقائد البريطاني "روبرت كلايف" وجنوده؟!..
 
لا تحمل النفس البشرية ذلك النقاء. مازال الخير والشر فيها بذات القدر، يرجع تفاوت نسبه بين شخص وآخر إلى مقدرة احدهم على تخطي الحاجز الفاصل بينهما. قد يكون الطموح مبررا لفعل الخطيئة، إلا أن فهم الكيفية التي قد يتخفف بها فرد من قيمه الأخلاقية لدرجة المساعدة في احتلال بلده، كانت ومازالت الأصعب؟!.
 
لم يكن "مير جعفر" الوحيد الذي ادرك خفته بعد تخليه عن وطنه، فقد عامله حلفاؤه قياساً على وزنه الجديد، خاصة وقد كان أول قراراته تعويض بريطانيا عن خسائر استعمار بلاده. لا يحمل المستعمر الاحترام لخائن إلا بقدر الحاجة إليه، وقد تم الاحتفاظ بمير جعفر بعض الوقت قبل أن يتم استبداله ب"زوج إبنته" الذي حاول لاحقاً التمرد، الأمر الذي حدى ببريطانيا إعادة "مير جعفر"، ذو الطموح الأنسب لمصالحها!..
 
من قال أن القاع لا يمنح المزايا؟!..
 
قد تكون السلطة هي الرغبة الأعلى في مراتب طموحات البشر.. كانت ومازالت المانح السهل لبقية مطامعهم!!..
 
اعتقد مير جعفر أن خيانته لوطنه ستمنحه تلك السلطة، حتى وقف على كرسي حكمه جندي بريطاني أخذ يراقب حركاته وسكناته عن كثب خشية محاولة انقلابية أو تمرد جديد. فلا يمكن لبريطانيا منح ثقتها الكاملة لخائن. لعل الملك الهش اكتشف بعد انعدام الخيارات أمامه، واستمراره في تقديم التنازلات للمستعمر، بأن المفاضلة بين الطموحات أشد صعوبة من السعي إليها..! 
 
هيمن الإستعمار البريطاني على البنغال طيلة 200 عام، قبل أن تتحرر من سطوته وتحاول محو ما بقي من أثاره؛ إلا من لفظ "مير جعفر"، الذي مازال يستخدم ك"شتيمة" مرادفة للخيانة والغدر، فبعض الجرائم لا تسقط بالتقادم!..

السبت، 6 يونيو 2020

بين "عُمر" و "عمرو"


نور ناجي

"اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين!"، ما زال الرسول يقصد بدعائه: "عمر ابن الخطاب"، و"عمرو بن هشام"!..
 
كان المسلمون بعد البعثة في أشد لحظاتهم ضعفاً، لم يؤذن للرسول بالهجرة بعد، كما لم يملك أي من أدوات الدفاع عن نفسه وأتباعه الأولين، ليتوجب عليه البحث عن مخرج مناسب ضمن معطيات أنظمة قريش وقوانينها!..
 
لم يكن رأس المال ذو نفع كبير للمسلمين، وإن تمكنوا من شراء بعض العبيد بواسطته، فلم تميز عنصرية قريش بين المسلمين، عبيداً كانوا أو أحرارا ..
 
ربما حمل صاحب المكانة الإجتماعية- منفرداً- بعض من حصانة؛ إلا أنها مازالت مهددة بالزوال، حتى تقترن بشخصية قوية تتجاوز الدفاع عن نفسها، لشجاعة وعصبية مواجهة الآخرين. وعلى ما يبدو أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجد تلك الصفات في "العمرين"..
 
كان الغريب في الأمر، استنكار المجتمع احتمالية إسلام عمر بن الخطاب، حتى قالت الناس حينها: "لا يُسلم عمر بن الخطاب حتى يُسلم حماره!"، على الرغم من عداء عمرو أبن هشام الشديد للاسلام!. 
 
هل كان ذلك بسبب الغلظة التي عُرف بها "عمر" ة؟! أم أن تخففه من قيود منصب إبن هشام، (أكبر سادات قريش)، جعله أكثر حركة. لعل الرجلان لم يحملا ذات الأهداف، أو أن ابن الخطاب تفوق في كراهيته تجاه الدعوة الجديدة. فقد تحدثت كتب السيرة عن نيته إغتيال الرسول قبل أن يفكر بذلك عمرو ابن هشام أو يلجأ إليه..
 
إلا أن ابن الخطاب خالف توقعات السواد الأعظم، وأعلن اسلامه. ولم يكد يؤدي الشهادتين حتى رفع راسه للرسول وطرح تسأؤلاته بحزم: "اولسنا على حق؟! فلم نعطي الدنيّة في ديننا؟!". تبسّم الرسول أمام أسئلة "الصحابي الجديد" وقد وجد فيها إجابة لدعاء طالما نادى به ربه!.
 
تخفف المسلمون من ضغوط أثقلت كواهلهم، حتى أن "عمرو ابن هشام" كان يفكر مرتين قبل أي محاولة تنمر جديدة، فهو أدرى الناس بكلفة مواجهة "إبن الخطاب"!..
 
ألا يدعونا ذلك للتسائل عن سبب استجابة الله لدعوة رسوله بإسلام عمر بينما حجبها عن عمرو؟!..
 
لم يكن الإسلام بالدين الصعب على قريش وسكان الجزيرة العربية. بعض من التهذيب لعادات وتقاليد لم تمس جوهر أخلاقيات تعارفوا عليها. وأغلب الظن أن عمر ابن الخطاب لم يحارب الاسلام كدين، فلم تكن الحجارة المرشقة حول الكعبة لتشغل مثله، خاصة وأن الإله الذي يدعو إليه محمد هو الرب الجامع لكافة ما ينضوي تحته. لم ينكر أحد عليه ذلك حتى اشتعلت الخلافات بين معارض ومؤيد لطريقة العبادة التي وجد فيها ابن الخطاب فتنة تسعى لتمزيق تماسك قبيلة يعلم يقيناً خطورة تفككها، حتى مس اليقين قلبه!!..
 
لعله انضم بجهالة لجانب الباطل، وكان دين محمد هو ما ينقص قبيلته، ألا يكفي أنه سيتوقف عن الانحناء لآلهة من "تمر"، طالما تسائل عقله عن جدواها بينما هو يلتهمها؟!
 
لم يجد عمر ابن الخطاب غضاضة في الإعتراف بذلك، فهل جهل ابن هاشم تلك الحقيقة؟ أم أنه فضل تجاهلها حتى أعلن سبب حربه صراحة تحت قدمي الصحابي ابن مسعود: "لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رُويّعيّ الغنم!"..
 
أكاد اجزم أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لم ينشغل بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بقدر ما انشغل بالسبب الذي جعل الضعفاء يصبرون بكل جلادة أمام الأذى الذي كانوا يتعرضون له. شيء كبير  يجعلهم يستميتون في تحمله برضى، وإن دفعوا حياتهم ثمناً! كان يعرف تلك المشاعر جيداً، هل يعقل أن يمتلك رجل- وإن مارس السحر- هذا القدر من الاغواء؟! لم يسمع بذلك من قبل!. 
 
على عكس إبن هشام، الذي سبق واعترف في عدة مواقف بتصديقه لنبوة محمد، الرجل الذي لم يعرف عنه الكذب قط، فلماذا استمر في عدائه؟!..
 
تشابه عُمر وعمرو في الطباع، إلا أنهما اختلفا في نظرتهما للأشياء، ليقف كل منهما في طرف مغاير للآخر. شتان بين دفاعك عما تراه "حقاً"، وبين ما تراه "حقاً لك"!..
 
مازالت الأهداف المحرك الرئيسي لمسارات البشر. حارب عمر بن الخطاب قبل الاسلام وبعده في سبيل ما يراه واجباً، وإن خالف هواه.. 
 
بينما ألغى عمرو ابن هشام (أبو الحكم) عقله، وقلص رغباته، إلا من الحفاظ على مكانة وقوة، وجد أن معايير الدين الجديد ستنزعها عنه، ليستحق التصاق لقب "أبو جهل" عليه، حتى بعد مماته!..

الأحد، 31 مايو 2020

في عيادة الأسنان


نور ناجي

 لم يشعر والدي يوماً بوجع في أسنانه، ولم يذهب إلى إحدى عياداتها، لذلك امتلكت الكثير من الثقة بحصولي على إرث مناعي قوي. لا زلت أنظر إلى المصابة اسنانهم بإشفاق قبل أن يتمرد عليَّ ضرسي!..
 
أن تتعاطف مع المتألمين من حولك، أمر، وأن تكون أنت المصاب، مأساة مختلفة. ربما تخففت من بعض الصدمة حين أخبرني الطبيب- لاحقاً- بأن العصب كاد أن يموت من تلقاء نفسه نتيجة اهمالي، إلا أن ذلك لم يشفع للضرس المحشو. أي ضرس هذا الذي يرفض الانصياع لأوامر صاحبه!!.. 
 
لعلي كنت بحاجة للمرور بهذه التجربة. على الأقل صار بامكاني التأكد من أن وجع الأسنان لا يطاق فعلا! وليست "العصابة" التي يلفها الموجوع حول رأسه مبالغة درامية!..
 
لم تنحصر مشاكلي في الضرس "العاق"، فقد كان اختياره للتوقيت مكيدة أخرى جعلتني أجز عليه بغيظ وألم: "الم يدرك أن فيروس كورونا كان قد احتل كوكب الأرض منذ أشهر، ومازال بكامل شهيته، أم أنه تعمد ذلك؟!" تساءلت قبل أن انطلق إلى العيادة مطمئنة نفسي: "لم التشاؤم، على الأغلب أن الفيروس لن يستسيغ مذاقي!"..
 
لم أستغرب تباعد المرضى دون أن يحاول احداهم فتح باب للحديث أو حتى إعمال حاسبة عقله لإحصاء ما سيجني الطبيب أخر يومه. لا وقت للحسابات أو الحديث، فجلوسك المتربص لا يمنحك وقت لترهات الزمن القديم، فاحتمال تخفي الوحش بين الأجساد المحيطة بك وارد جداً!!..
 
لم ينحصر الخطر في صالة الإستقبال، فقد جلس الطبيب ساهماً خلف مكتبه قبل أن يتنبه لوجودي. يبدو أن الأطباء غيروا من نوعية قماش زيهم التقليدي ليصبح أقرب من ثياب رواد الفضاء. هل كان يتمكن من الرؤية الصحيحة خلال الكمامة التي تكاد تغطي عينيه؟!..
 
في حقيقة الأمر لم أكن مهتمة لمدى إبصار الطبيب حتى لو أخطأ في الضرس المصاب، فقد انصبت هواجسي في خلوه من الفيروس أو العكس!! لم لا؟! ابدى كورونا ولعه بالاطباء منذ أيامه الأولى!..
 
لست- في العادة- من النوع الذي يحمل سرعة بديهة أو ملكة التفكير السريع، إلا أنها كانت من المرات النادرة التي تمكن فيها عقلي من تدبير خطة وتنفيذها على الفور؛كان على الطبيب اجتياز اختبار السلامة الذي قمت به، وقد تجاوزه بنجاح حين قفز مبتعداً عني بعد سعالي الشديد!..
 
شعرت بارتياح لئيم للقلق الذي أصابه ولاصابعه المرتبكة حين بدأ بعمله على الضرس "العاق"، قبل أن يحدد موعد زيارة بعيدة نسبياً، وقد اتجه لتعقيم نفسه بالكحول دون أن يتحفظ من وجودي. لا بأس! لا داعي للأخذ بقواعد الاتيكيت في مثل هذا الوقت.
 
غادرت العيادة لأجد الشارع فارغاً من الحياة. يبدو أن "كورونا" جعلنا أكثر  تهذيباً. ضاق صدري قبل أن أتسائل: "اليس هذا ما كنت أطمح له بعد شكواي المستمرة من الضوضاء المزعجة والتلوث؟! لماذا التذمر الآن وقد انصت الشارع- من فرط هدوءه- لتتابع خطواتي!!..
 
فقدت الأرض لطفها القديم منذ اجتياح الفيروس للعالم. كثيراً ما تشعر بأنها تنفذ انتقامها من البشر. انتقام مستحق لا أحد  ينكر ذلك، إلا أنه اقسى مما كنا قد نتصوره يوماً!..
 
جميعنا يخشى الموت، وإن ادعى أحدنا جاهزيته له، إلا أن شعورك الدائم بتربصه أمسى أشد رهبة، وكيف لا، ونحن نرى الأرض بين الفينة والأخرى ترفع سجادتها من تحت اقدامنا بضعة أمتار، قبل أن تلقي بنفسها مجدداً نافضة ايانا عنها، إلا تدرك أنها بذلك تستعيدنا إلى باطنها مجدداً؟!..
ربما كان ذلك مسعاها، فالإنسان أكثر سلاماً حين تجف منه الحياة.
 
من الصعب أن تشعر بالأمان حين تدرك بأنك خصم محتمل لأرض تحيا عليها!..
 
أعتقد بأن تمسكنا بحياة مكتظة بالكراهية والحرب والمرض، لا يدل على رغبة في الاستمرار بقدر ما هو تسليم بالأمر الواقع حتى يحين موعد ناموس التغيير، أيا كان شكله ونوعه!..

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...