السبت، 29 يونيو 2019

حرب "أفيون" جديدة في اليمن


نور ناجي

 ربما كانت حرب الأفيون، التي قامت بين الامبراطورية الصينية وقرينتها البريطانية في العلم 1840م، من أكثر الحروب وقاحة في التاريخ البشري، مع تجرد بريطانيا من واجهتها المتحضرة، وكشفها عن حقيقتها الاستعمارية القبيحة، التي لا تختلف في انتهازيتها عن قراصنة لم يخلو منهم ذلك العصر!!
 
بدى ذلك جليا، مع إطلاق أسطولها نيرانه على الموانئ الصينية عقاباً لإمبراطورها "شيان لونج" الذي تجرأ على إصدار مرسوم جرّم فيه تجارة الأفيون وتعاطيه، وأمر بإحراق الآلاف من أطنانه علناً، في عمل اعتبرته بريطانيا اعتداء مباشراً وصارخا عليها. فقد كان الأفيون السلعة الوحيدة التي استطاعت من خلاله اختراق الشعب المغلق على نفسه، بعد أن بدأت الفضة، التي لم تكن أسواق الصين تقبل بغيرها في المبادلات التجارية، تنضب من خزائن بريطانيا.
 
لم يكن شعار "الحفاظ على حرية التجارة"، الذي اُستخدِم أثناء تلك الحرب، مريحا لبريطانيا، ولم يعفها من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية لنتائجها؛ لكنه كان مربحاً، خاصة مع بقاء "هونج كونج" من ضمن مستعمراتها حتى العام 1997م..
 
ربما كان التبرؤ من قباحة أسباب الحروب ومحاولة تجنب الوقوع ضحية لها، أهم ما دعا العالم لسن قوانين ومواثيق دولية، أجبرت الموقعين عليها على احترام كيانات الدول بينها البين، وأخذ مسافات كافية في علاقاتها المشتركة لتجنب الصراعات والحروب. ليتوارى بذلك الأفيون المخجل، أمام بعض من الانسانية في أروقة المنظمات العالمية..
 
 إلا أن الصراعات لم تختفي، ومازالت عجلاتها تسير على ذات الوتيرة، إن لم تتسارع. قد يلقي البعض تهمة النقص؛ أو ازدواجية المعايير، في تلك القوانين، متجاهلين أن "المصلحة" كانت- ولا زالت- المعيار الذي تختار فيه بعض الدول أن تكون مسالمة، أو تتوحش لأجل ما تراه في صالحها، على أن تحتفظ بالحد الأدنى من اخلاقيات ومظهر الدولة أمام العالم.
 
وليست حرب اليمن استثناء. الحرب التي وقعت نتيجة انقلاب قامت به "عصابة" سيطرت على مقدرات الدولة واسلحتها، وأجبرت دول المنطقة، في تحالف ترأسته كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على التصدي بكل صرامة لهذا الكيان، الذي لا تعريف دولي له أو اعتراف..!!
 
لا تكفي النوايا الطيبة، لدخول مغامرة حربية، ما لم تكن لدول التحالف مصلحة عليا منها. وقد كانت مصلحة دول التحالف واضحة، ومتمثلة بنزع ذراع إيران، العدو التقليدي للمنطقة، الذي اقترب بشكل خطير من حدود الخليج وآبار نفطه.
 
توقع أشهَرَ المحللين السياسيين وأكثرهم حذقاً، أسابيع، أو أشهُر- كحد أقصى- لانتهاء حرب اليمن. إلا أنها خالفت تلك التوقعات، ومازالت مستمرة بكل صلف وعناد!!
 
ربما كان تعبير "استمرار الحرب"، منافي للواقع؛ فـ"التوقف"، هو التعبير الأدق لما يحدث في الجبهات، والذي يدعونا للتساؤل: عن السبب الحقيقي، والمصلحة التي تصب فيها إطالة مدة هذه الحرب؟! ..
 
بالطبع، انتهزت عصابة الانقلاب هذه الفرصة الذهبية، واستغلت ذلك "التوقف" في إعادة ترتيب أوضاعها، وترسيخ بقائها، الذي سيضاعف- بالتالي- حجم المكاسب المتوقعة لأي معاهدة سلام ستنهي الحرب. لكن ماذا عن بقية أطراف الصراع؟!
 
على عكس ما كان يتوقع، أصبحت الشرعية، بعد سنوات الحرب، أضعف من مسائلتها، أو حتى اعتبارها شريك حقيقي للتحالف، نتيجة للعراقيل التي واجهتها منذ قيام الحرب؛ ولسذاجة وحمق اخطاء قامت بارتكابها، أهمها: التسليم المطلق للتحالف وشروطه!!
 
 لكن ماذا عن المملكة؟! الشقيقة التي سيزيد أمد الحرب من استنزافها وتكبيدها الكلفة الأعلى، من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. أين مصلحتها في ازدياد قوة الانقلاب وضرباته التي اخترقت حدود ما يفترض أنها الدولة الاقوى في المنطقة؟ وكيف ستتعامل مع المجتمع الدولي، الذي يتصيد لها ما قامت بارتكابه في حق المدنيين والابرياء خلال الحرب؟ هل يعلم الأشقاء أن العالم توقف عن ترك الجناة طلقاء، إلا أن يصُبّ ذلك في مصلحته، أو في جيبه؟!..
 
لا يتبقى لنا في هذه المعادلة سوى الإمارات؛ الدولة التي دخلت التحالف بهدف إزاحة انقلاب الحوثي وعودة الدولة اليمنية، وقدمت لذلك الكثير من التضحيات، حتى اتضح تدريجيا أنها تملك أجندة مختلفة، تستخدم لتحقيقها أساليب بعيدة كل البعد عن كونها "دولة" تحترم المعاهدات والمواثيق وأهداف التحالف المعلنة..!!
 
على سبيل المثال: لم تضمن المواثيق الدولية، لأي من دول التحالف، إقامة سجون خاصة؛ أو تجاهل عمليات الاغتيال التي تقع ضمن مناطق سيطرتها؛ تهميش الجيش الوطني، ومحاولة أضعافه، باستخدام قوات خاصة ونخب لم ترفع علم الدولة اليمنية مطلقاً، ولم تتورع عن الاصطدام بقوات الجيش الوطني؛ ايقاف تصدير النفط ومنع الحكومة عن أداء وظائفها!!..
 
 كما أن محاولة أضعاف الشرعية، وزعزعة مكانتها، تماهت بشكل مثير للسخرية مع انقلاب "عصابة" صنعاء.. كل ذلك، وإرهاب "الأخوَنَة" يطال كل من ينتقد تلك التجاوزات، أو يحاول التصدي لها!! حتى حُصِرت، بسذاجة، مسألة الدفاع عن الثوابت الوطنية في حزب بعينه..!!
 
لم تحاول دولة الإمارات اخفاء طموحها في تحول إماراتها الصغيرة من دولة صغيرة إلى امبراطورية، تسعى للسيطرة على ما أمكنها من طرق التجارة العالمية، بكل الطرق المتاحة أمامها. لقد دخلت الحرب لتنتصر. بدى ذلك واضحا من شراهتها المتزايدة في الاستيلاء على سواحل وموانئ المنطقة، والتي لم تستثني منها اليمن، دون أن تراعي إرادة تلك الشعوب ورغبتها؛ أو مشروعية ما تقوم به، لتعاد إلى الأذهان ذكرى حرب الأفيون القديمة.
 
اتضح لليمني، أن ذلك الطموح سيضاعف، بلا شك، تكلفة الحرب. وقد ينتج عنه حروبا جديدة، بفواتير لن يتحملها سواه!! لتفقد بذلك، الامارات، الثقة التي كانت ممنوحة لها من قبل الشعب، وتُستَبدَل بمشاعر شك وريبة، لا تخلو من عدائية!!..
 
‏من حق أي دولة أن يكون لها طموحها، سواء كان اقتصاديا، أم سياسيا، أم حتى جغرافيا؛ إن وضعنا المقاييس الأخلاقية بعيدا عن ذلك الطموح! كما من حق الشعوب، الدفاع عن نفسها بما تراه مناسباً، وحين تمتلك القوة. لكن طموح الدول، يجب أن يبقى محصورا وفق معايير بقائها "دولا"؛ لا أن تعود بالزمن إلى الوراء، وتستدعي قراصنته لتنفيذ مآرب مخالفة لمواثيق العالم، والحد الأدنى من أخلاقيات اُتفق عليها..!!
 
إما أن تكون دولة، أو عصابة. من غير الممكن جمع النقيضين..!!
 

السبت، 22 يونيو 2019

قوالب مواطنة


نور ناجي

لم يتوقع أكبر المتفائلين حكم عادل من قبل مليشيا الانقلاب. فلم يكن اعتقال وتعذيب المعارضين واخراس اصواتهم، يعد بحياة ديمقراطية هانئة على أي حال. لكن عجلة التجريف وتقسيم المجتمع، التي سارت بوتيرة متسارعة مستغلة سنوات الحرب، كانت أسرع بكثير مما كان متوقع لها..
 
ربما ذلك ليس بالأمر الغريب على الطبيعة البشرية، التي كانت صناعة الاختلافات وخلقها، أكثر ما إجادته عبر العصور. لكن وقوعك تحت سيطرة ميليشيا الحوثي يصدمك بسرعة وضع الختم على كتفك، وقد تم محو إنسانيتك عنك بمنتهى البساطة، دون أن يترك لك حرية اختيارك للفئة التي يميل إليها قلبك أو تمثل حقيقتك.
 
أنت مع جماعة الحوثي مجبر على ارتداء إحدى قوالبها المعدة سلفا، تشكيلات مستمدة من كتبهم وتاريخهم الذي حكموا به اليمن لسنوات ليست بالقليلة. ومهما حاولت تمييز نفسك عما حولك، لن تخرج عن ثلاثة قوالب لا رابع لها: "زنبيل، مجرد مواطن، أو سلالي منزه!".
 
أن تكون زنبيلا، يعني أن تكون أهم تلك التشكيلات المجتمعية "عملياً"؛ العامل النشيط؛ الكائن المتشعب الذي لا يتوقف عن الحركة لتسيير الحياة؛ اليد الطولى والعمود الأساسي لبقاء الانقلابيين في مناطق سيطرتهم.
 
ترى الزنبيل كلما اتجهت ببصرك، فهو العصى المستخدمة لحفظ الأمن والأمان والواشي المعتمد من قبل الجماعة. يستمد قوته من كونه المقاتل المجهول في الجبهات والارخص ثمناً، والقائم بكافة الأعمال الدنيئة، كالسرقة والنهب، وإن لم يكن نصيبه الحقيقي منها سوى الفتات والسمعة السيئة للضباع التي التصقت به.
 
قد تكون القوالب الاكثر بؤساً، هي ما تمت صناعتها لتوافق "المواطن المجرد"!
 
أنت مواطن، مجرد مواطن، سواء رفضت الانقلاب، او غضضت بصرك عنه، حاولت الوقوف ضده أو هرشت رأسك وأنت تردد الصرخة. لا مزايا لك أو حقوق سوى أشعة من الشمس، وذرات هواء، لم يكتشف العلماء حتى اليوم طريقة لتعبئتها حتى يتمكن "الانقلابيون" من بيعها.
 
أن تكون مواطنا في مناطق سيطرة الانقلاب، يعني أنك ضعيف، لدرجة فقدانك الشروط الأساسية للعيش الكريم. لا أدّعي هنا انتفاء حقك في العيش، فما زال الانقلاب بحاجة لك. لا تنتهي الحاجة إلى القطعان ابدا؛ بل أقصد الكريم منه، والذي لا يلزمك- في نظر قادة الانقلاب- من أنت لتحضى به. لا سلالة ترفع من شأنك أو إيمان بها لدعمك. لم تعد تثق في القبيلة للاتكاء عليها، بعد أن فقدت الهيبة والسلطة التي تباهت بها كثيرا، وقد اكتشفت مؤخرا مدى هوان خيط الامل الذي تشبثت به طويلا، بعد أن تخلت الشرعية عن طرفه المقابل، لتسقطه من يدك بيأس، وتجد في البحث عن عمل يقي ابنائك الجوع، ويحميك من ذل السؤال..
 
أما عن القالب الأخير، المغلق على أصحابه فقد اقتصر على أبناء السلالة المنزهة التي حققت أكثر مما كانت تتجرأ على الحلم أو المجاهرة به، بعد أن عاشت سنوات طويلة تحمل حقد دفين وقناعة بأنها صاحبة حق أصيل، انكرته عليه هذه الأمة حين منعتها عن الإمامة والقيادة، وقد ورثت بجانب جيناتها ذكريات "وهم" اضطهاد مورس في حقها عبر التاريخ، كان لابد وأن يغرس فيها من أجل استمرارية الفكرة وبقائها، وقد اشعرها الانقلاب أخيرا بالإنصاف وعودة الحق لأصحابه.
 
ربما كانت أفضل المزايا التي حصل عليها السلالي، نتيجة الانقلاب، تمكنه من التنفيس عن نفسه وإخراج ما كان يخفيه ويخشى أو يخجل من قوله سابقاً. لا كبت بعد الانقلاب ولا تقية، ولا حاجة لزيارة الأضرحة أو لأطباء علم النفس!
 
معنى أن تكون من سلالة الهية تحت حكم الانقلاب، يعني بكل تأكيد أن حقك الرباني في حكم اليمن قد عاد اليك، وسيقودك لتحرير القدس ومن ثم العالم، على الرغم من أن لا بأس من اليمن منفردة، بعد أن بدى تأقلمك وتوددك للعالم. ربما مازال انحنائك لسيدك في صعدة يؤرق نومك ويضغط على فقرات عمودك الفقري؛ لكن الوقت ولابد سيتغير وسيأتي الدور عليك لتمسك بالحكم. فأنت- وكما تقول أسطورة "شجرة العائلة" المعلقة على صدر منزلك-هو الأحق!!
 
أن تصرخ وأنت تحمل الختم السلالي، يعني امتلاكك لوفرة في كل شيء: القوة، السلطة، الوجاهة والمال. خاصة المال الذي لم يتوقف عن الهطول عليك بعد سنوات من عملية سطوه المنظمة. مال يجعلك تهتف له وهو بين يديك: "ما أظن أن يبيد هذا ابدا. أي حياة منحتها لي الصرخة المباركة؟". لم يتبق لديك سوى القليل لتحصل على الخلود، الأمنية البشرية الأولى والازلية، وإن لم تحققها لك تلك الصرخة، من غيرها يفعل؟!
 
لا تثير فيك صور قتلاك، المتزايدة على الطرقات والأزقة والمدارس والجامعات وأعمدة الإنارة التي اطفاها انقلابك، سوى سرور داخلي. فقد ازدادت رقعة المظلومية، التي كانت ولازالت أهم وسائلك في كسب التأييد الخارجي. كما أن تلك الزيادة ستصب ولابد في ميزان الثروات التي سيزيد نصابك منها. لذلك لا بأس من زيادة أعداد القتلى واستمرار النواح عليهم.
 
"ما الذي يمكنه أن يزيل عنك ما تمتلكه من قوة؟"، تتساءل ساخراً. امامك خصوم ضعاف، مشتتة اهدافهم، لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، تهديداتهم هراء ووعيدهم أجوف إلا من صداه. ربما تراودك بعض الهواجس التي تجعلك تتلفت حولك لتتأكد مما تملك حقاً. فبرغم سطوتك، التي ازدادت على الأراضي المسيطر عليها، إلا أن خارطتها لم تتوقف عن التقلص، وإن ببط سلحفاة. لكنك تنفض تلك الهواجس وتخنقها بيديك، فقد تقلصت سلطة السلالة العديد من المرات عبر التاريخ، قبل أن تعود للتوسع مجددا. بؤرة صغيرة كانت تفي بالغرض دائماً!!
 
من غير الممكن أن تصدق الادعاءات التي يروج لها المنافقون والحاسدون. أنت محبوب كذلك. كنت ولا زلت وستبقى، ترى ذلك في الجباه المنحية، والابتسامات، والدعوات التي ترافقك اينما ذهبت: "هذا الشعب يحبني. القوالب التي نحتها بيدي راضية ببقائي، محال أن يأتي نهار وتتجراء على نزع نفسها من قوالبها.

كيف لها أن تحيا بلا وجوه، ضباع كانت أم قطعان؟"، دون أن يخطر في ذهنك، أنك حين نزعت عنها إنسانيتها، كتبت على نفسك الطريقة التي ستعاملك بها حين تمتلك القوة. لكن مثل هذا الامر مستبعد، مهما ردده المنطق والتاريخ وقوانين العدالة. فقد نزعت اظافر الجميع، ولم تستثني أحد. كما أن فاقدي الوجوه أعجز من نزع قوة، منحتها السماء وباركتها بتأييدها لك

الأحد، 16 يونيو 2019

نجوم صنعاء ..


نور ناجي

بإمكاني القول أني لا احمل السفة الذي يؤثر الجمال لنفسه ويحرم العالم من مشاركة متعة النظر إليه. لكن الحقيقة التي احاول الترفع عنها، أن عدم امتلاكي ثمن "لوحة النجوم" لفان جوخ، هي السبب الحقيقي لاقتنائي نسخة مزورة لم تتجاوز بضعة الآف من الريالات عند محل الاستوديو الواقع على رأس الحارة..
 
أتذوق بمتعة خفية رائحة اندهاش البعض، واستنكار البعض الآخر من إفراغي مساحة لا بأس بها من الحائط لتلك اللوحة. رغم محاولاتهم إخفاء ذلك، إلا أني استطيع قراءته وبسهولة، وانا اراقب إهتمام الزائر المتأمل، أو ذلك اللامبالي لنجوم فان جوخ القريبة من شموس صغيرة..
 
"ما الذي ترينه فيها"؟! ارتبكت للسؤال. فلم أكن قد فكرت في مثل هذا السؤال من قبل. أقصى مهاراتي كان ادعائي التواضع، وأنا أشرح تاريخ اللوحة المزورة، والفنان الذي رسمها. كما أن شعورك بشيء لا يعني بالضرورة قدرتك على ترجمته إلى حروف وعبارات، لكني مع ذلك حاولت..
 
تأملت اللوحة ملياً. لا أشعر بذلك الشجن في النهار أمام اللمعان الحزين للرسام الهولندي. لعل الاستيقاظ المبكر سبب منطقي لادارت الدموع ظهرها لي.. 
 
أتذكر جيداً لقائي الأول بلوحة النجوم لفان جوخ. كان ذلك بعد قيام الحرب بعدة أشهر، حين امست الصواريخ المنبة الذي استعضنا به عن عد الأيام. توقف ذلك المنبة، تقريباً، لبضعة ليال، ولم أحسن للأسف استغلال صمته المريب في النوم..
 
ما المشاعر التي انتابتني، لحظة مصادفتي للوحة، بينما كنت أبحث في شبكة أخبار الإنترنت عن أمل لانتهاء الحرب في اليمن؟!..
 
أتذكر اللمسة الحانية للون الأزرق، وهي تديرني تجاهها، باحثة عن رفيق؛ الإضاءات الخفيفة التي أطلت على استحياء من بيوت القرية، هل استبدل الفنان الشمس بالقمر أم أنه تمنى جمعهما؟!، 
 
كانت المسافة بيني وبين تلك السماء قريبة جدا، برغم المدى الشاسع الذي يفصلني عنها. والأغرب من ذلك، احساسي للحظات بأني جزء من تلك الألوان. لم أكن الوحيدة فيها، فقد شعرت بصنعاء، مدينتي الغالية، تفر من ليلتها وتنعكس على تلك اللوحة، باحثة عن بعض من السكينة. المدينة الوحيدة التي شعرت فجأة بالخذلان، بعد أن هجرها أولئك الذين ادعوا حبها وعشقها سنين طوال، قبل أن ينزع عنهم ما كانوا يدعون، وعجزوا عن التضحية من أجلها ولو بالقليل، لتمسي لياليها، بعد ذلك، وحيدة، لا ذراع تصد عنها، أو كف تربت على كتفها المنحني .. 
 
شعرت ليلتها بأن من اختار تلك الألوان كان حزين، حزين جداً، ووحيد، وإن ادعى العكس. يتسائل بحيرة شديدة عن أسباب التناقضات التي يحملها العالم، والكيفية التي يجب عليه السير فيه ليتجنبها! ..
 
هل توجه فان جوخ إلى السماء، كما تتوجه مدينتي، كل ليلة، بعقل لا سكون فيه، وقد ترك بيوت القرية وسكانها، الذين اختلقهم، ليجد إجاباته، أم أنه تخيل ذلك؟! لعله ترجاها كثيراً  بهمس رقيق من فرشاته، قبل أن يصيبه الغضب، ويخلط ألوانه بقسوة، ويلطخ بها وجه القطعة القماشية بكل نزق..
 
"لماذا تتجاهليني" ؟!
 
صرخ فان جوخ للسماء، لعلها تجيب عن أسئلته وحيرته التي تؤرقه. عبث بألوانه ليخبرها عن وحدته وعجزه دون أن يتلقى الرد. لكنه كان أذكى من أن يمزق لوحته، استمر بعناد في غرف بقية من أمل في قعر روحه ليصبه عليها، حتى تتحول ألوان لوحته، في لحظة ما، الى نافذة، تنقله الى عالم آخر، وقد اقتنع أن مناجاة حزنه ونفسه الوحيدة، عبر اللون الأزرق، كان بديل مناسب عن العالم خارجه..
 
لم لا؟! ألا يخطر ذلك في ذهن من يعيش في صنعاء؟ ذلك الذي مازالت متابعة الاخبار ،بالنسبة له، ليست سوى أبواب خفية ستُفتح له ذات يوم على مدينته التي يحلم بها، وهو يؤكد على نفسه وبكل إصرار أن ما يسمعه من تراجع هنا، أو تخاذل هناك، ليس سوى سحابة صيف، إرجاء متعمد لمفاجات سعيدة، لا ينقصه للالتحاق بها سوى المزيد من الإيمان والتصديق..

السبت، 8 يونيو 2019

"الوطن".. في دموع غاضبة


نور ناجي

 "غطوني وأنا شا دخل له.. غطوني وأنا شا دخل لأبوبكر.."..!!
 
خرجت العبارات من شفتيه ثائرة، وهو يمسح دمعات متكبرة بالكاد قبلت بالتساقط، فقد كانت هي الأخرى غاضبة، وحين تغضب الدموع تجاهد لتبقى ممسكة بزمام نفسها، فليست كل الأوقات مناسبة للإنهمار..
 
أتحدث هنا عن دمعات‏ "نبيل العكش"، التي كانت تزوم حول نفسها، وتستجدي من حولها بطانية وتغطية بالسلاح الذي لا يمتلكه، لمسافة مترس مقابل، استشهد فيه صديقه.
 
ربما سمعتُ مرارا عن مصطلح قهر الرجال، ويبدو أن احساسه لم يصلني، ولم استشعر معناه الحقيقي، حتى شاهدت ذلك المقاتل وهو يضم كفيه ويتلفت حوله باحثا عن طريق يخرجه من سجن جسده، دون أن يُمثِل له صوت الموت والرصاص، الذي يحوم حوله، هاجساً أو خوفا بقدر ما كان عائق ضد هدفه؛ "لو أن جلدي كان مضاد للرصاص" !! هل تمنى  ذلك؟!، من يدري!!..
 
أعدت مشاهدة ذلك الفيديو مرات عديدة، قبل أن اسمع نبأ استشهاده هو الاخر. ومع كل إعادة، أتذكر سؤال حائر ألقاه غسان كنفاني، الرجل الذي نال القهر منه أيضاً، بعد أن أضاع وطنه: "أتعلمين ما هو الوطن يا صفية؟ ليجيب دون أن ينتظر منها اجابة: "الوطن، هو أن لا يحدث كل هذا"!!..
 
لكن ذلك حدث، ومازال يحدث كل يوم. لكننا، نحن البعيدين عن الجبهات، نحاول قدر استطاعتنا الابتعاد عن ما يقع، لنواصل استنزاف معنى كلمة "الوطن"؛ في كلمات القصائد والاغاني؛ في خطب المسؤولين والقادة السمجة؛ في امتيازات شيوخ القبيلة؛ في العتاب الحائر لأعين الشباب الذين شاخوا مبكرا؛ وفي قيء المنافقين الساعين لأهداف شخصية..!!
 
استنزفنا الوطن في عملية ما يجب، وما يفترض به أن يكون؛ في التنقيب الجاد عن الأخطاء والنقد؛ وفي الحلول التي لا تُطّبق، وإن طبقت لا تكون على المستوى الذي يناسب طموحنا؛ في أحرف كتاباتنا التي أصابها الملل بعد أن عجزت عن التخلص منا...؛ دون أن نلاحظ أن الوطن كان قد تسرب من بين أيدينا بالفعل في غمرة انشغالنا برسم الصورة التي نريدها له في خيالنا..
 
لا أعرف حقا ما كان تعريف الوطن لـ"نبيل العكش"، أو لغيره من المقاتلين، الذين يقفون في مختلف الجبهات. لكني أكاد أجزم أنها أفضل بكثير من الأوطان التي تركت لنا ساحات معاركها الوهمية..!! فهي أوطان واضحة محددة، قد تتسع لتشمل الكون، وقد يتقلص معناها في عيني أحدهم لتمسي مجرد بطانية صغيرة يغطى بها جسد صديقه، وطن مناسب لكليهما ..
 

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...