الأحد، 25 نوفمبر 2018

اغدا القاك؟!

تملك النساء بجانب نون النسوة ميزة إلهية لا يملكها الرجال، ربما لانعدام حاجتهم إليها أو لعدم استحقاقهم مثل هذه المكافأة، فالأمر أكبر من أن يستوعبوا أهميته أو يدركوا ابعاده، من يعلم ومن يهتم على أية حال؟!..

" نعمة البكاء "..
لا أتكلم هنا عن خاصية البكاء العادي المتعارف والمتداول بين البشر في ظروف الحزن أو صفعات الزمن، بل ذلك الذي يطرق بابك بلا استئذان أو أسباب، تجد المرأة نفسها في بداية صباح مشرق لطيف ودون أي مبرر أو أسباب تصدر لنفسها قرار سيادي يوجهها للقيام بموجة بكاء حارة، تتراوح  ما بين البكاء العميق الهادىء حتى نوبات التشنج العنيف التي تتطلب عادة بعض من البهارات وأحداث الاكشن التي تلزمها بإيجاد ضحية محتملة تسقط عليها تبعات النواح واسبابه الملفقة، التي قد يكون تهديد انقراض طائر البطريق احداها..

وقد قررت هذا النهار أن الوقت ملائم للاستمتاع بهذه النعمة الإلهية، وبدأت مبكراً بأداء طقوس البكاء الغير مسبب، بحثت عن ضحية حية مناسبة إلا أني عدلت عن هدفي في اللحظة الاخيرة، ليس عجزا مني لكني لست في مزاج يسمح بتحمل تبعات النوبة الجنونية التي كنت على وشك تنفيذها..

حتى وجدته في المطبخ متكئاً على سلة الخضار، بلونه الوردي المستفز وكبريائه التي تشعرك بالغيظ:"  من تظن نفسك ايها البصل المغرور، لست أنا من ينظر اليه بهذا البرود، أو يلقى عليه بالتهم جزافاً، كلانا يعلم الفاعل الحقيقي المتسبب بتلويث أجواء كوكب الأرض، وسمح باهمال مريع بتوسع ثقب الاوزون فكف عن اتهامي بذلك !"..

استدرت ببرود لتجهيز ادوات مهمتي الإنسانية بعد أن رمقت البصلات المغرورة بنظراتي الميتة وقد اشتممت بين اغلفتها رائحة ارتعاشة الخوف بعد أن ايقنت نهايتها المحتومة.
 لوح تقطيع الخضار الخشبي في كامل جهوزيته امامي، وقد اطبق شفتيه وعينيه في انتظار ضربات السكين الحاد الذي أخذت بشحذه بهمة ونشاط، قبل أن اتنقل خلال شاشة الهاتف، بحثاً عن موسيقى تصويرية مناسبة للحدث المقدس !!

كانت أم كلثوم في شدة اللطف معي ليلة البارحة اخذتني معها لعالم نوراني حالم وهي تشدو لي بأبيات قصيدة " اغدا القاك " في حفل خصتني به دون عن العالم وقد ارتدت لي ثوب انيق متدرج بين الأبيض والاسود ومنديلها الحريري الناعم يتهادى بخفة بين حركاتها:
أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدِ،،
يالشوقي وإحتراقي فى إنتظار الموعد!!

الجاهل في الموسيقى يعتقد بأن المساء فقط هو الموعد المناسب للاستماع لكوكب الشرق، قلة من يدركون قيمتها الفنية في البدايات الأولى للصباح، فلترافقني إذن لتكمل لي ما فاتني من حفلة البارحة..
همست للسكين الذي ازداد لهاثه المحموم وسال لعابه على شدقيه أن يكون مهذب ويكف عن تعذيب البصل، مسح فمه على عجل بحركة سوقية قبل أن يقترب من رأس البصلة الأولى التي اغشي عليها فجأة، يدعي البعض القوة حتى يواجه أولى تجارب الحياة الحقيقة!!..

لن أكون متوحشة وانزع روح جسد فاقد للوعي، يجب على ضحيتي الاستمتاع بكل ما امنحه لها، قبضت على رأس اخر من بصلاتي وهشمت رأسها بحركة خاطفة، لانعش برائحتها تلك الفاقدة للوعي وانا اتمتم  لها بحنان وبكلمات رقيقة مطمئنة بأن لا تخشى شيئا وأن كل شيء سيسير على ما يرام، بالطبع كنت اكذب، لا شيء يسير وفقا لما يتمنى المرء خاصة بالنسبة لي وللبصلة وفي هذه اللحظة، مهما حاولت ام كلثوم تعزيتنا :
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه إقترابا
كنت أستدنيه لكن هبته لما أنابَ
وأهلت فرحة القرب به حين استجابا
هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا!! 

توقفت كثيرا عند نهاية البيت وكررته على نفسي "هكذا نحتمل العمر نعيما وعذاباّ"، لذلك يا عزيزتي البصلة يجب أن تتحتملي عذابك النهائي بذات الشجاعة التي تقبلت فيها نعيم الحياة في السابق، لم يحدد الشاعر " الهادي ادم " في ابياته  الطريقة التي يجب علينا احتمال العمر بها، البعض يحتملها بالاماني وكثيرون وأنا منهم نخفف اعباء الحياة وعذابها بقتل البصل !!، لا يوجد خلاف بين الطريقتين بل مجرد اختلاف ثقافات!..
بدون تردد ممرت طرف السكين  على رأس الشهيدة وجززت عنقها بكل إصرار وترصد، ولم تزدني شقهة النهاية لضحيتي سوى لذة سرت تحت جلدي بشعور رائع قلما أحسست به!..

سارعت أصابعي في وتيرة عملها بسرعة واحترافية كبيرة دون حتى أن القي نظرة اشفاق لرؤوس واحشاء البصل التي تناثرت حولي، لأشعر اخيراً بحرقة في اجفاني وهي تنبىء بدمعات تنتظر لحظة الإنفجار، اهتز منديل السيدة أم كلثوم وقد امتدت حماستي اليها :
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك فى ليل عيوني
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني
كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء!!
لن تجدي عزيزتي المرأة أكثر من هذه الابيات لتذرفي عليها دموعك، انصحك باستخدامها..

لعلي أكف الان عن ادعاء القوة، اعترف لكم باحساس الذنب الذي يأكل روحي وأنا أفرم أجساد الضحايا أمامي، ذنب يقطعني ويثقل كاهلي حتى اقتربت روحي من هلاكها، لكن ما باليد حيلة لقد تم الأمر وانقضى ولن يعيدني الانغماس في شعور الذنب عما حدث، على العكس تماماً، شعور الخطيئة الدائم يجعلك تعتاد عليها وتسعى لتكرارها املاً في تخفيف وقع صدمة وقوعها الأول، لم تشعر كوكب الشرق بما يعتريني  وقد امتدت عدوي الدموع اليها :
يا رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء
أنا لو لا أنت لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا لغدِ الآن بأحلام اللقاء
فأت أو لا تأتي أو فإفعل بقلبي ما تشاء
أغداً ألقاك؟! ..

وصلت دموعي لذروتها عند لحظة التساؤل المندهش ؟! اغدا القاك ؟!
نظرت للبصل الذي انتهيت منه!!
لم يعد لبقايا اجسادها المفرومة على يدي من غد كانت ترجوه وتتمناه، أي سبب للبكاء أشد وانكى من هذا السبب، وضعت السكين واسندت جبيني على الطاولة لانفجر في نحيب تحسدني عليه الكثيرات !!

لم تستطع كلمات المواساة الحارة التي وضعت كفها على كتفي بحنان وانحنت على أذني لتهمس لي :
هذه الدنيا كتابٌ أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيونٌ أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماءٌ أنت فيها القمر
فإرحم القلب الذي يصبو إليك
فغداً تملكه بين يديك!!

لم اتمالك نفسي وافتتحت مرحلة العويل لامد يدي وأشد منديل كوكب الشرق من بين اناملها  وهي تنظر لي باستنكار، دون أن تتوقف عن أدائها الشجي:
وغداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلاّ
وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى
وغداً نزهو فلا نعرف للغيب محلا
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا..

مسحت اثار دموعي وما علق على أنفي من بقايا بكاء، وأنا أفكر جدياً ببقايا الضحايا المسفوكة على طاولة مطبخي وكيفية اخفاء جثامينها، قبل أن تنجدني ذاكرتي بطريقة طهو " الزقني " التي ارسلتها لي جارتي قبل بضعة أيام، راجعتها سريعاً قبل أن أقف أمام الفرن واتخيل رائحة وجبة الغداء بكل تفاؤل!.
سحبت ميكروفون السيدة أم كلثوم دون أستئذانها إنهاء قطعتها الرائعة، ورفعت عقيرتي بنشازي الذي بدى رائعا تلك اللحظة وهو يشدو:
قد يكون الغيب حلواً ..
إنما الحاضر أحلى!!..
أغدا القاك !!

أعدت ام كلثوم لنقطة البداية وأنا اشعل الموقد لاخفي ضحايا بكائي بين وجبة الغداء وقد جددت نشاطي بعصر جميع الدمع التي كانت مخفية في جعبتي، لأشعر بارتياح كامل وخفة في وزني!!..
 لذلك أردد دائما أن البكاء نعمة، لا يستحقها الجميع ..

نور ناجي

هناك تعليقان (2):

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...