الاثنين، 24 ديسمبر 2018

ثورة النساء .. 

ساد الهدوء على غير العادة، اتخذت صديقاتي أماكنهن وعلى رؤوسهن سحابة داكنة يمتد لسان برقها مزمجراً بين الفينة والأخرى.. طفح الكيل، بدأ الغضب المكبوت منذ سنوات بالكشف عن نفسه.. 
ماذا عساي أن أفعل!!، 
استشعرت من زفرات أنفاسهن المتسارعة إيقاع طبول وصخب ثورة قادمة!!..

 أنها الثورة إذن.. ثورة تهب بشائرها من عقر داري!!.. 

لم يكن الرجل مستهدفاً بالنسبة لي، لا أحمل تجاهه أي ضغينة، بل أني في أوقات كثيرة أشعر بنوع من الشفقة عليه، لكني ومن وسط " الديوان المكظوم" لن أشق الصف وسأساند بنات جنسي قلباً وقالباً وقد اجتمعن ولأول مرة على رأي واحد، لن أكون حجر العثرة أمام أي حركة تنفخ في أرواحهن الأمل في ظل هذا الجمود والاستسلام القاتل الذي نال من الأحياء، ليكن الرجل ضحيتنا الأولى، على أن لا نتوقف حتى يتحرر الوطن بأكمله بأذن الله. 

بما أن الثورة بحاجة " لقائد ملهم " قررت أن أكونه، لن يخلو موقعي الجديد من امتيازات مغرية ومكافآت أحسد عليها، فأنا من سأستلم ثمن النصر بسخاءً، بالإضافة إلى ميزة رفعي وهتافاتي على الأكتاف!!.. 
لن تجد نون النسوة المحيطة بي من هي أكثر تفرغاً وبذل للنفس والجهد مثلي، أعدهن بالتضحية المّرة في سبيل "القيادة"، أقصد في سبيل إنجاح الثورة..

 ترددت أغنية السيدة أم كلثوم على جنبات عقلي وفي خضم أفكاري الثورية بصوتها القوي الذي أستسغته متأخراً:
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً 
كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي 
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَهرِ 
كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّى.. 

ألهبت الأبيات حواسي وحماسي وأنا استعد للاستماع لشكواهن بقلم ونوتة ملاحظات صفراء صغيرة.. 
( الخيانة، التسلط ، الطغيان)، المثلث المتساوي الاوجاع الذي يطبق على صديقاتي اليوم، وعلى النساء كل يوم.. 

اقتربت من أولى الثائرات، لافتتح الجلسة واسمح لها ببوح "شك محموم"!، بالطبع كان زوجها هو المجرم الذي ألقت عليه عريضة اتهاماتها، أمسكت لساني الثرثار لافسح للثائرة مجال واسع تسرد اوجاعها عليه بإسهاب، أنا الأخرى بحاجة للغضب ولن أجد أكثر من شكوى زوجة غيورة ما يشعله بي، يحتاج أي مرشح لمنصب ثوري لرياح شديدة تبعث الروح في شرايين ثورته.. 

لن أواسيها بعبارتي الجوفاء التي على شاكلة : تعريف ( الخيانة ) مطابق لحالة توصيف ( الإرهاب الدولي)، التي لم يتفق عليها بعد، تختلف الخيانة بين الرجل والمرأة كما يختلف تعريف الإرهاب بين دولة واخرى، كل له حساباته ومعاييره التي تتناسب مع احتياجاته ومصالحة. 

إن كان حمل الهاتف جريمة وخيانة، فالجميع مشترك في الحملقة الجوفاء الباحثةً عن حياة وهمية أكثر جمالاً مما نعيشه، ولإحراز نصر يتيم في أحد العابه الالكترونيه.. 

استمرت (كمنجات) أم كلثوم بالعزف بينما انتقلت لثائرة أخرى تجز على أسنانها بغل، بدأت حديثها عن الحرب المستعرة بينها وبين شقيقها بسبب عباءتها، حاولت محو خيالي الذي صور لي " أذن " شقيقها المتسلط معلقة بين شفتيها وهي توزع علينا أوراق القات الذي قامت بسرقته من " العلاقية" بكل نجاح.. 

أنصت لثورة حروفها التي أجرت الدماء في عروقي بانتشاء وأنا ادون ملاحظاتي :" لا يعني إرتفاع عباءة المرأة في الشارع بضعة سنتيمترات بالضرورة، نيتها عرض نوعية قماش بنطالها، هناك تفسير أكثر منطقية وأقرب للواقع _ لمن يحاول الفهم_، على سبيل المثال لا الحصر، الخوف من التعثر بين الازقة المغبرة المليئة بأكياس القمامة سبب وجيه لمثل ذلك التصرف"..

 انهيت تسجيل الملاحظات واعتدلت لانتقل للثائرة الأخيرة، المنزوية بصمت مع هاتفها، هزت رأسها بإشارة مختصرة تفيد بموافقتها على كل ما نقوله دون أن تلتفت إلى قائدها الذي هو أنا!!.. 
هل استمعت حقاً لحوارنا؟!.. 
لم أتجراء على الطلب منها وبشكل حازم وضع هاتفها جانباً خلال اجتماعنا الخطير، ففتحتي أنفها التي تتوسع وتنكمش وهي تنفث لعناتها على مجهول خلف شاشتها لا تنبىء بخير!.. 

على القائد الذكي التساهل في بعض المواقف بديلا على الصدام، كما عليه العمل وبمنتهى السرعة على إنشاء جهاز استخباراتي قوي لمعرفة " المجهول " الذي تتحدث معه !!.. 

أمسكت بالنوتة أراجع ما فيها، لألقي بأول خطبي العصماء، تذكرت عبارة سمعتها في مكان لا أذكره (بأن الرجل يسرق طاقة المرأة الايجابية)، دونتها سريعاً حتى لا انساها، نعم انهم يسرقون طاقتنا، يسرقوننا بعيون ( مبهرره) ولن نستطيع بعد فقدانها استبدالها بأخرى ذات كفاءة، تختلف قوة المرأة الروحية عن بطاريات " اينرجايزر"، لذلك لا مهادنة أو تصالح، ولن نقبل بعد اليوم بهذا الجور والطغيان.. 

لم أكد أنهي الخطوط الأولى لما سأقول حتى رن هاتف الثائرة الاولى!!.. 
هربت من نظرات فضولنا لتهمس للمتحدث في الطرف الآخر ، زوجها ( الخائن ) ينتظرها بعد أن ترك رفاقه ليصالحها!!، لم اصدق نفسي وأنا أراها تمسك عبائتها وتهم بالمغادرة، تشبثت بثوبها بكل ذل وأنا اناشدها بعتاب :" ثورة ثورة، دار دار"، شد ضميرها الخجل جفيها للأرض، وتمتمت قبل أن تتوارى :" أبو العيال!!".. 

حاولت التماسك بعد خيانة أول الثوار ، وانا اتجاهل خفوت ألحان أم كلثوم في رأسي، عاندت هزيمتي بكبرياء مراق على حجري، بحزم :" لا يجب على القائد إسقاط دموعه ابداً، لقد نثر ( باسندوه) دموعه ذات يوم، ومازلنا حتى اليوم ندفع ثمن تناثرها".. 

هممت بإلقاء خطبتي لتقاطعني لصة القات :" سأتزوج يوماً وافعل ما أريد"، عجباً!، ما بال النسوة، يلجأن للهروب من مستبد لآخر ، أعرض عليهن الحرية، ليخلعن قيد ويرتدين بديل عنه قيد جديد؟!، عبودية تسري في الدماء وتسلط يضفين عليه الطعم اللذيذ ليقبلن به؟!.. 

لم أجد ملجأ لأفكاري ومسانداً لها سوى تلك الممسكة بهاتفها، يبدو أنها تملك ما لا يملك بقية الثوار، وفيها من الكفاءة ما يؤهلها لاستكمال مشوار الثورة، كما أن سواعدها من القوة بحيث تكفي لحملي على الأكتاف.. 

لم تكد حروفي أن تغادر شفتي حتى أطلقت ضحكة أقل ما توصف به أنها ( رقيعة)، وضعت بعدها الهاتف جانباً واستدارت رقبتها باتجاهي :" الجو لطيف هذا النهار، ما جديدكن فيه؟"، وضعت النوتة المخذولة جانباً، وامسكت بغصن القات المسروق وأجبتها ببرود مكسور عبارة الزعيم سعد زغلول : " ما فيش فائدة !!".. 
حينها فقط إتخذت الصمت، وسكتت أم كلثوم عن الغناء المباح !! .. 

نور ناجي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...