تماسيح مفيدة ..
حاولت تجاهل طول الطابور لإكمال المعاملة التي لا أعلم لم بداتها من الأساس قبل أن يقف امامي، ويهتف :" الأستاذة نور؟!"، للأسف كانت ذاكرتي قد أفرغت الكثير مما لم يعد يلزمها وغدت الوجوه عديمة الملامح مناسبة لي أكثر..
حدقت في الزغب الخفيف الذي بدأ في خربشته، لم يكن غريب، لقد رأيته من قبل، أين ومتى ذلك هو السؤال؟! .. قاطع الفتى أفكاري :" أنا محمد؟!"، يملك هذا " المحمد " الكثير من الثقة لظنه بأني ساتذكره مع انتهاء نطقه لحروف إسمه، هناك الكثير من "محمد" على سطح هذا الكوكب، فأيهم أنت؟!، قالت له عيناي الحائرة دون انطق واحرجه بنسياني، استوعب " محمد" حيرتي واجابني وهو يشير إلى ظهر كفه مبتسماً :" لقد أصبح جلدي خشناً كما اتفقنا، ماذا عنك؟!، هل قبل التمساح خاصتك بالمبادلة، أم أنه تسلل كما كنتِ تخشي !"..
تاملت الفتى مطولاً، أي تمساح هذا الذي كنت املكه، ربيت الكلاب والقطط والعصافير واقمت ذات يوم صداقة قوية مع معزة قبل أن يقرر والدي أن مذاقها سيكون ألذ من فلسفتها، وقد كان محقاً في ذلك، لكن التماسيح لم تكن على قائمة صداقاتي أو طعامي، يبدو أني وقعت في مأزق مع هذا الفتي ويجب أن اتخلص منه..
بدأت انيابي في البروز قبل أن تنقذني ذاكرتي من لحظة توحش وشيكة!!..
لا أصدق ما أرى، أنه محمد، الطالب المنزوي دائماً في ركن الصف الثاني/ب، تنبهت حينها أني لم أكن منحية لأسمع حديثه الهامس كالماضي، بل كادت رقبتي أن تكسر وأنا أحدق به!!..
لهذا امقت الاطفال ومؤشر نموهم الذي يذكرنا دوماً أن عجلة الزمن لا تتوقف، هل كبرنا لهذه الدرجة ؟!"، لم أحاول خداع طالبي القديم بعبارات زائفة عن الحكمة التي يكتسبها الإنسان عبر تقدمه بالعمر، والحياة التي تفتح لنا في كل يوم آفاق متجددة، وسألته عن الأهم :" كيف حالك يا محمد، هل تمكنت من السيطرة على مملكتك؟!"..
لمملكة محمد حكاية مميزة، ابتدأت في أولى سنواتي في التدريس وانتهت مع انتقالي لمدرسة أشد بؤساً، كنت أراقب محمد من بعيد، استفزني انزوائه، واثار حنقي بنظرات الرعب التي يطلقها مع اقتراب أي غريب تجاهه، لماذا لا يشارك الاطفال في اللعب؟!، أو يدافع عن نفسه في مواجهة الأشرار من سنه، حتى في سن الطفولة ستجد ذلك الذي يحاول الأضرار بك دون أن تعرف السبب الحقيقي وراء ذلك، يكفي أننا بشر لنتسلى بالايذاء..
اقتربت من الطفل محمد ذلك العام، لم يكن كما توقعت يتيماً، كان والده قد تخلى عنه بعد عجزه عن تحمل مشاق الحياة، وغادر ببساطة، لا نحتاج لكثير من الجهد لممارسة الخذلان، مجرد خلعنا لقلوبنا يفي بالغرض..
لم أجد طريقة إجابة لاسئلة محمد التي كانت تطل من ذبول عينيه بين الحين والآخر، ولم امنحه الوعود بعودة قريبة لوالده، أنه أفضل حال من دونه، لكن لا نفع من أخباره بذلك..
حتى جاء ذلك النهار، كان الفصل فارغاً في وقت الفسحة المدرسية وكنت قد قررت الانضمام لمحمد والانزواء معه تعبيرا عن رفضي للحصص الإضافية التي أجبرت عليها..
سالني محمد عن سر دموعي، فأجبته :" أنه " التمساح حنفي "، مازال مصمم على رفض صفقتي معه، برغم عدالتها !"، ابتلع محمد دهشته وسالني ليتأكد أن كان ما سمعه صحيحاً:" من هو حنفي؟!"، زفرت تنهيدة حارة قبل شرح معاناتي مع حنفي " التمساح خاصتي" الذي التقطته من الشوارع وبنيت له منزل خاص في فناء داري..
هتفت بحرقة وأنا أحكم قبضة كفي :" تخيل يا محمد لقد رفض دروس رقص البالية_ التي لا اجيدها_ مقابل منحي جلده السميك حين يقوم باستبداله بعد عدة أشهر من محلات الجلود"، تلفت بين جدران الفصل الفارغ بحذر، قبل أن انحني واكمل بصوت هامس:" من المهم امتلاكنا لجلود سميكة، ستكون مفيدة في رحلاتنا للمريخ، أو خلال الغوص العميق لمركز الأرض، البعض يفضل أن يكون جلده مصنوع من حيوان وحيد القرن، لكن صديقة لي جربت جلد التماسح فوجدته مناسب وبسعر زهيد"..
قاطعني محمد مستنكراً :" لا تبدل التماسيح جلودها، كما لا يمكننا تربيتها في المنازل أو حتى السفر بها!" لعله كان على حق في العالم الذي يحياه لكن العوالم التي تحيا فينا لها قواعد وقوانين مختلفة، " اغمض عينيك"، قلت له بعد أن اجلسته على حجري، وسألته :" أي عالم تريد؟! ، لك الحرية في صنع ما تريد في خيالك، جرب ذلك ولن تخسر شيء"..
شعرت بتململه، لكني لم أتنازل عن الولوج إلى روحه، لن أجد فرصة سانحة أكثر من تلك اللحظة، همس بعد دقائق حائرة :" أريد مملكة كبيرة، لا يخطىء فيها الاطفال، لا يخيفهم الظلام، ولا يبكيهم الجوع، اطفال مهذبين لا يتسببوا برحيل أحد عنهم"!!..
أعادت لي الذكرى غصتها، لم يكن والد محمد شرير ، لكنه العجز من جره من قدميه ليبتعد، جميعنا يتمكن العجز منه، يغوينا بسحر المغادرة، ونتمنى في قرارة انفسنا الانصياع له، إلا أن اثقالنا أشد سطوة من اغراءه ..
عدت لمحمد الذي تمدد طوله بفعل الزمن، يبدو من ابتسامته المضيئة أن مملكته مازالت قائمة في خياله ولم تتوقف عن الغناء، زرع فيها حبات الفاصوليا التي تمناها وحبس من يحاول ايذاءه في سجون ثمار اليقطين، ما زال يملك الوقت ليعثر على ملكة تساعده في إدارة المملكة ومطالبها الكثيرة، سيجدها حتماً، وحتى ذلك الوقت لن يتوقف عن الهمس للضفادع أو مبادلة جلود التماسيح كما يبدو..
ودعته وانا اتابع خطواته التي تختفي في الزحام دون أن اجيبه عن تساوله، لم أحاول خلع قفازي لأتأكد من جلدي، لقد استعضت مبكراً عن صفقتي القديمة، اكتفيت بالقليل من الجلد القاسي احطت به روحي، بعد أن اتضح لي أنها الأجدى بالحماية..
نور ناجي
حاولت تجاهل طول الطابور لإكمال المعاملة التي لا أعلم لم بداتها من الأساس قبل أن يقف امامي، ويهتف :" الأستاذة نور؟!"، للأسف كانت ذاكرتي قد أفرغت الكثير مما لم يعد يلزمها وغدت الوجوه عديمة الملامح مناسبة لي أكثر..
حدقت في الزغب الخفيف الذي بدأ في خربشته، لم يكن غريب، لقد رأيته من قبل، أين ومتى ذلك هو السؤال؟! .. قاطع الفتى أفكاري :" أنا محمد؟!"، يملك هذا " المحمد " الكثير من الثقة لظنه بأني ساتذكره مع انتهاء نطقه لحروف إسمه، هناك الكثير من "محمد" على سطح هذا الكوكب، فأيهم أنت؟!، قالت له عيناي الحائرة دون انطق واحرجه بنسياني، استوعب " محمد" حيرتي واجابني وهو يشير إلى ظهر كفه مبتسماً :" لقد أصبح جلدي خشناً كما اتفقنا، ماذا عنك؟!، هل قبل التمساح خاصتك بالمبادلة، أم أنه تسلل كما كنتِ تخشي !"..
تاملت الفتى مطولاً، أي تمساح هذا الذي كنت املكه، ربيت الكلاب والقطط والعصافير واقمت ذات يوم صداقة قوية مع معزة قبل أن يقرر والدي أن مذاقها سيكون ألذ من فلسفتها، وقد كان محقاً في ذلك، لكن التماسيح لم تكن على قائمة صداقاتي أو طعامي، يبدو أني وقعت في مأزق مع هذا الفتي ويجب أن اتخلص منه..
بدأت انيابي في البروز قبل أن تنقذني ذاكرتي من لحظة توحش وشيكة!!..
لا أصدق ما أرى، أنه محمد، الطالب المنزوي دائماً في ركن الصف الثاني/ب، تنبهت حينها أني لم أكن منحية لأسمع حديثه الهامس كالماضي، بل كادت رقبتي أن تكسر وأنا أحدق به!!..
لهذا امقت الاطفال ومؤشر نموهم الذي يذكرنا دوماً أن عجلة الزمن لا تتوقف، هل كبرنا لهذه الدرجة ؟!"، لم أحاول خداع طالبي القديم بعبارات زائفة عن الحكمة التي يكتسبها الإنسان عبر تقدمه بالعمر، والحياة التي تفتح لنا في كل يوم آفاق متجددة، وسألته عن الأهم :" كيف حالك يا محمد، هل تمكنت من السيطرة على مملكتك؟!"..
لمملكة محمد حكاية مميزة، ابتدأت في أولى سنواتي في التدريس وانتهت مع انتقالي لمدرسة أشد بؤساً، كنت أراقب محمد من بعيد، استفزني انزوائه، واثار حنقي بنظرات الرعب التي يطلقها مع اقتراب أي غريب تجاهه، لماذا لا يشارك الاطفال في اللعب؟!، أو يدافع عن نفسه في مواجهة الأشرار من سنه، حتى في سن الطفولة ستجد ذلك الذي يحاول الأضرار بك دون أن تعرف السبب الحقيقي وراء ذلك، يكفي أننا بشر لنتسلى بالايذاء..
اقتربت من الطفل محمد ذلك العام، لم يكن كما توقعت يتيماً، كان والده قد تخلى عنه بعد عجزه عن تحمل مشاق الحياة، وغادر ببساطة، لا نحتاج لكثير من الجهد لممارسة الخذلان، مجرد خلعنا لقلوبنا يفي بالغرض..
لم أجد طريقة إجابة لاسئلة محمد التي كانت تطل من ذبول عينيه بين الحين والآخر، ولم امنحه الوعود بعودة قريبة لوالده، أنه أفضل حال من دونه، لكن لا نفع من أخباره بذلك..
حتى جاء ذلك النهار، كان الفصل فارغاً في وقت الفسحة المدرسية وكنت قد قررت الانضمام لمحمد والانزواء معه تعبيرا عن رفضي للحصص الإضافية التي أجبرت عليها..
سالني محمد عن سر دموعي، فأجبته :" أنه " التمساح حنفي "، مازال مصمم على رفض صفقتي معه، برغم عدالتها !"، ابتلع محمد دهشته وسالني ليتأكد أن كان ما سمعه صحيحاً:" من هو حنفي؟!"، زفرت تنهيدة حارة قبل شرح معاناتي مع حنفي " التمساح خاصتي" الذي التقطته من الشوارع وبنيت له منزل خاص في فناء داري..
هتفت بحرقة وأنا أحكم قبضة كفي :" تخيل يا محمد لقد رفض دروس رقص البالية_ التي لا اجيدها_ مقابل منحي جلده السميك حين يقوم باستبداله بعد عدة أشهر من محلات الجلود"، تلفت بين جدران الفصل الفارغ بحذر، قبل أن انحني واكمل بصوت هامس:" من المهم امتلاكنا لجلود سميكة، ستكون مفيدة في رحلاتنا للمريخ، أو خلال الغوص العميق لمركز الأرض، البعض يفضل أن يكون جلده مصنوع من حيوان وحيد القرن، لكن صديقة لي جربت جلد التماسح فوجدته مناسب وبسعر زهيد"..
قاطعني محمد مستنكراً :" لا تبدل التماسيح جلودها، كما لا يمكننا تربيتها في المنازل أو حتى السفر بها!" لعله كان على حق في العالم الذي يحياه لكن العوالم التي تحيا فينا لها قواعد وقوانين مختلفة، " اغمض عينيك"، قلت له بعد أن اجلسته على حجري، وسألته :" أي عالم تريد؟! ، لك الحرية في صنع ما تريد في خيالك، جرب ذلك ولن تخسر شيء"..
شعرت بتململه، لكني لم أتنازل عن الولوج إلى روحه، لن أجد فرصة سانحة أكثر من تلك اللحظة، همس بعد دقائق حائرة :" أريد مملكة كبيرة، لا يخطىء فيها الاطفال، لا يخيفهم الظلام، ولا يبكيهم الجوع، اطفال مهذبين لا يتسببوا برحيل أحد عنهم"!!..
أعادت لي الذكرى غصتها، لم يكن والد محمد شرير ، لكنه العجز من جره من قدميه ليبتعد، جميعنا يتمكن العجز منه، يغوينا بسحر المغادرة، ونتمنى في قرارة انفسنا الانصياع له، إلا أن اثقالنا أشد سطوة من اغراءه ..
عدت لمحمد الذي تمدد طوله بفعل الزمن، يبدو من ابتسامته المضيئة أن مملكته مازالت قائمة في خياله ولم تتوقف عن الغناء، زرع فيها حبات الفاصوليا التي تمناها وحبس من يحاول ايذاءه في سجون ثمار اليقطين، ما زال يملك الوقت ليعثر على ملكة تساعده في إدارة المملكة ومطالبها الكثيرة، سيجدها حتماً، وحتى ذلك الوقت لن يتوقف عن الهمس للضفادع أو مبادلة جلود التماسيح كما يبدو..
ودعته وانا اتابع خطواته التي تختفي في الزحام دون أن اجيبه عن تساوله، لم أحاول خلع قفازي لأتأكد من جلدي، لقد استعضت مبكراً عن صفقتي القديمة، اكتفيت بالقليل من الجلد القاسي احطت به روحي، بعد أن اتضح لي أنها الأجدى بالحماية..
نور ناجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق