الأربعاء، 30 يناير 2019

انفاس مترس.. 

قضم شفته السفلى بأسنانه، وانتزع نسلة الجلد الجافة باظافره قبل أن يصوب نظره نحو قرص الشمس، " لقد أصبح الجو مناسباً الآن "، انتزع شاله من على رأسه بحرص محافظاً على شكله ووضعه على الأرض. 

كانت المساحة المتاحة له ضيقة، إلا أنه وجدها واسعة بعد أن فارقه المقاتل الأخير، لم يعد يطالب بآخر يشاركه الحراسة، من المزعج فقدانهم وبقائه حياً في كل مرة، اشعره ذلك الأمر بالذنب وكأنه بادل قدره المحتمل باقدار من رافقه. 

اعتاد مع مرور الأيام مرافقة أنفاسه وتردد صداها على جدران المترس الباردة، ليس وحيدا على أي حال، فهنالك ذلك الوغد المتأهب في الجهة المقابلة والذي ينتظر إتمام مهمته ولن يسمح له بالظفر بها، ليس انتقاما لمن سبقه، يعتقد أنه فقد أغلب مشاعره لم يعد لفظ الغضب، الحزن أو الوجع والانتقام يمثل له أكثر من أحرف مجهولة المعنى، ولكنه سينهي عمله على إيه حال!!.

 امسك قطعة الخشب ووضع عليها الشال واسندها على الجدار القصير بينما تأكد من تثبيت بندقيته، لقد أمسى خبيراً في الحركة في أضيق الحدود. مالت الشمس التي كانت تحدق به بعنف قبل ساعات لتتوضح الروية أمامه، لن يتأخر كما سيعتقد اللاعب الآخر، نعم أنه الآن في لعبة، المنتصر هو من سيستمر في التنفس ويبدو أنه بارع فيها وليست أنفاس المترس حوله سوى دليله على ذلك.. 

رفع القطعة الخشبية بعد عبر ببصره عبر منظاره، سيظهر الآن، لابد أن يظهر لقد استنفذ صبره خلال اليومين الماضيين، وسيجره اليوم لفخه، من السخرية المرة أن اللاعب المتمرس في ذلك الجبل أمسى أقرب الناس اليه، مع مرور الأيام ومراقبتهما بعضهما البعض صار يعرف تحركاته طريقة تفكيره وأوقات نومه وصحوه، حتى هواجسه امست أقرب اليه من الجدران التي كانت بيته قبل عدة أشهر !.. 

ذكريات بعيدة عنه وكأنها لشخص لا يمت له بصلة، حتى المكالمات ذات الصوت المتحشرج بدت له وكأنها تخرج من حنجرة شخص لا يعرفه، شعر بوخزة في قلبه حين تذكر نهاية آخر حديث، لقد كان جافاً قاسياً لا يعرف لماذا؟!، ولكنه حدث، سيحاول الاتصال الليلة، لعل الشبكة تسمح له بالتقاط عدة دقائق..

 " أين ذهب ذلك الوغد؟!، أنني هنا تعال واربح اللعبة"، همس قبل أن يسمع الرنين، هل يجيب؟!، لو أن الهاتف ينتظر قليلاً، لكنه توقف قبل أن يقرر، زفر بحنق وهو يشدد قبضة كفه على البندقية ويسلط نظره عبر الكوة الصغيرة للجهة المقابلة للجبل..

 تجاهل طرقات قلبه العنيفة التي تحاول اختراق سجن صدره والخروج منها، وهو ينظر عبر زجاج العدسة المكبرة، ما الذي جاء بهذا الشجن في وقت عمله الرسمي، ربما لأن شروط هذه الجدران قاسية أكثر مما يجب، ولا تسمح باوقات استراحة أو اجازات، "تباً لهذا المترس وشروطه"، قالها وهو يرفع مصيدة الشال.. 

عاد الرنين مرة أخرى، ليبتسم، ابتسم كل شيء فيه، حتى الفوهة الباردة اغمضت جفنها بسعادة، من حقه أن يرتاح بضع دقائق،" لن يذهب المترس بعيداً ولن يغادر الوغد الآخر مكانه طالما أنا باقِ"، ألقى بالشال وارخى إصبعه عن الزناد بهدوء وأدار رقبته ليتقدم صوب الهاتف، قبل أن تنطلق في الجو رصاصة قناص رابحة..

 تابعت الجدران صدى الأنفاس الاخيرة بضحكة خفيفة ماكرة، بينما استمر الهاتف بالرنين .. 

نور ناجي .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...