الجمعة، 10 أبريل 2020

الصعلوك النبيل!.. طالما أصابني الإحباط نتيجة برود أبني تجاه الأحداث السياسة، فمنذ إسقاط صنعاء وهو على ثقة بأن سيطرة الإنقلاب ستتجاوز السنوات، مؤكداً بأن لحظة انطلاق الحرب الفعلية ستبدأ حال شعور "كل يمني" بأذى مباشر وشخصي من قبل الميليشيا!.. ربما شعرت بالحنق بعد مرور السنوات وصدق تنبؤاته حتى تفاجات به نهاراً يسالني على عجل، وبأجفان لم تذق طعم النوم، عن خط سير المعارك والوقت المتوقع لتحرير صنعاء؟!، لم يطل بي الأمر حتى علمت أن متابعته للمسلسل الإسباني "لا كاسا دي بابيل" كان سبب لهفته، فلن تحوي خزائن بنوك "ميليشيا الحوثي" الكثير للاستيلاء عليها!.. ندرك سريعاً أن محاولات نصح "المراهقين" ليست سوى وقت مهدور، فالجميع على ما يبدو يصر على خوض تجربته متجرداً من الحكمة، قد يكون من الأجدى لك مشاركة إبنك اهتماماته عن سعي فاشل لمنحه خلاصة تجاربك، لذلك بدأت في متابعة المسلسل!.. من الصعب عليك عدم منح تعاطفك مع أبطال الشاشات، لهفتك وأنت تبحث معهم عن مخارج، فلصوص الشاشات لا يبدون كاولئك الذين تعرفنا عليهم خلال سنوات الحرب.. "لا بدّ أن يتم تهريب الأموال دون وقوع أخطاء!" هتفت وأنا اتابع الأحداث في قمة توتري، قبل ان أقف في ركن المخزن المظلم برفقة "البروفيسور" _بطل المسلسل ورئيس العصابة_ مترقبة نتيجة مفاضلته بين "حبيبته" و"مبادئه"، حتى تذكرت لصاً آخر خاض تجربة مماثلة، واتصف بذات الأخلاق النبيلة تقريباً!.. "عروة ابن الورد"، الصعلوك العربي الذي عرفه التاريخ قبل أن يبدأ في قراءة قصة "روبن هود" الخيالية!.. يُعرف "الصعلوك" لغوياً بأنه الفقير الذي لا يملك المال لتحمل أعباء المعيشة، إلا أن اللفظ تجاوز معناه اللغوي وصار يطلق على اللص قاطع الطريق، وقد امتهن الكثيرين عبر التاريخ "الصعلكه" طريقة للحياة، إلا أن العامة اخذت تنظر إلى "فئة" منهم بإيجابية كما يُنظر اليوم "للبروفيسور" بطل المسلسل!!. سنت القوانين ليتم كسرها حين لا تلائم المجتمع، لكن الرغبة في التغيير لا تمنح إلا لقلة، تجدهم دائماً يتقدمون خطوة عن غيرهم باعتراضاتهم، ونقدهم وربما بمبالغة البعض بسن قوانين خاصة بهم، وعلى ما يبدو أن بعض صعاليك العصر الجاهلي أخذوا على عاتقهم ذلك الدور !.. يقول أبو خراش الهذلي : أرد شجاع البطن قد تعلمينه،، وأوثر غيري من عيالك بالطعم.. مخافة أن أحيا برغم وذلة،، وللموت خير من حياة على رغم.. سار "عروة الصعاليك" _كما كان يطلق عليه_ وفق مبدأ "الهذلي"، يسرق ويغير على قوافل الأغنياء ليوزعها على الفقراء، "لن تكون السرقة عملاً شاذاً حين يعاد تقسيم المال بما يضمن توزيع الحياة العادل!!"، ربما ردد "إبن الورد" ذلك.. "صعلوك نبيل" لم يقبل باختلال موازين المجتمع فحاول تغييرها بطريقته الخاصة، إلا أن التمايز بين الفقر والغنى لم يكن على الأرجح سبب اختيار حياة الصعاليك الوحيد، فمازالت قبيلته تعايره بنسب والدته لقبيلة " نهد" التابعة لقضاعة _الوضيعة_كما رأوها، لتلازمة عقدة النقص التي أقرها وهو يقول: وما بي من عار إخال علمته،، سوى أن اخوالي اذا نسبوا نهد !!.. تطالبنا المجتمعات بالسلوك السوي بينما تضع أمامنا كافة العراقيل لنحيد عنه!!.. وجد صناع المسلسل أن ادراج أغنية "بيلا تشاو" ستكون مناسبة لإضفاء بعض المشروعية على عمليات السطو، لن يجدوا أفضل من إعادة ذكرى المقاومة الإيطالية ضد النازيين خلال الحرب العالمية الأولى، ذات الطريقة التي استخدمها من قبلهم "عروة ابن الورد" وهو يمدح الصعاليك بابياته: لحي الله صعلوكاً إذا جن ليلـه،، مصافي المشاش آلفاً كل مجزر.. يعد الغنى من دهره كـل لـيلة،، أصاب قراها من صديق ميسر.. ولله صعلوك صفيحة وجـهـه،، كضوء شهاب القابس المتنـور!.. لا بدّ وأن ابن الورد شعر بالتوتر والقلق لحظة تخطيطه لعملية سطو أو اغارة كبقية الصعاليك، وضع الخسائر التي قد تنال منه ورفاقه أمامه قبل مقارنتها بالارباح التي سيحصل عليها حال نجاحه، إلا أن ما ميز "عروة الصعاليك" عن غيره، اختياره الدقيق لضحاياه، فلم تكن السرقة _لسليل العائلة الثرية_ هدفاً بحد ذاتها بقدر ما وجد فيها عقاب يستحقه الأشد بخلاً والاقسى قلباً..    إني امرؤٌ عانى إنائي شركة،، وأنت امـرؤ عانى إناؤك واحـد.. أتهزأ مني أن سمنتَ، وأن ترى،، بجسمي شحوب الحق، والحق جاهد.. أفرق جسمي في جسوم كـثـيرة،، وأحسُ قراح الماء، والماء بارد.. ما زالت الغارات وتوزيعه للمال تأخذ صداها، ليذيع صيت الرجل ويصبح _في مقاييس عصرنا_ من المشاهير، حتى إذا أبصره الفقراء تجمهروا حوله هاتفين :"أيا أبا الصعاليك أغثنا!"، قبل أن يقف أمام منحنى مهم في حياته!!. كان كاتب مسلسل "لا كاسا دي بابيل" رؤوفاً بالبروفسير وضم حبيبته لأفراد عصابته، فلم يكن الجمهور ليرضى بكسر قلبه، لكن "عروة ابن الورد" وللأسف لم يملك تلك الرفاهية، ودفع ثمن إقحامه عاطفته بعمله!.. على الرغم من كون "سلمى" "سبية" عروة بحكم اغارته على قبيلتها واغتنامه إياها، إلا أنها لم تخفي عشقها له حتى قيل "إنها أرغب الناس فيه!"، ليبادلها الرجل المشاعر ولا يجد ضيراً في تحقيق رغبتها بزيارة مكة والتقاء أهلها أثناء موسم الحج!.. بالطبع كان يدرك نوعية المطالب التي سيطرحها اهل سلمى عليه، فسبي الحرائر في مجتمعه عار وانتقاص من الصعب أن يمحى، إلا أن ثقته في محبة سلمى جعلته يقبل المخاطرة، وحدث ما توقع فعلا، وعرض أهلها استردادها الى الديار ومن ثم تقدمه لخطبتها كأمراة حرة، "يتطلب الحب بعض التضحيات!"، ربما فكر عروة ابن الورد قبل أن يوافق بثقة مشترطاً تخيير الفتاة!.. لك أن تتخيل الموسيقى التصويرية التي تفاجأ بها "عروة الصعاليك" لحظة وقوف سلمى بينه وبين أهلها وهي تهتف بحزم :" ياعروة، والله ماأعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خيرٍ منك وأغض طرفاً وأقل فحشاً وأجود يداً وأحمى لحقيقة؛ وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت "أمة" عروة كذا وكذا إلا سمعته؛ ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم!".. لعل شاعرنا وضع كل الخيارات امامه عدى ذلك الذي تنقلب فيه سلمى عليه وترفضه بذلك الشكل المهين، لقد منحها كل شيء، لم يكن ليبخل عليها، فما الذي حدث لتفضل هجره؟!، ألم تكن لتسمع هتافات الفقراء له، الابتسامة المرتعشة التي يجبر كبار القوم على توجيهها له رغم ما يحملون من ضغينة، كان للرجل مكانتة رغم كونه صعلوكاً!.. "صعلوكاً!"، توقف عروة ابن الورد كثيرا أمام لقبه، فبرغم أخلاقه النبيلة وفساد مجتمعه لم يسقط عنه لقب الصعلوك، لا يمنح فساد المجتمع الحق بقوننة فساد افراده ومشرعيته، يبقى اللص لصاً وان ارتدى أخلاق الفرسان، وتلك الاخلاق لم تكن لتغنى "سلمى" عن أهم ما يمكن للمرء امتلاكه، "الحرية!، التي أفسدت مخططات ابن الورد وذهبت بغاراته وقلبه ادراج الريح، بعد أن ظن بأن ملء البطون أو حتى القلوب كانت لتجعل الفتاة تتجاهل حريتها مع وفرة خيارها!!.. لعله أدرك لحظتها ان سلمى امتلكت شجاعة لم يكن يملكها، رفضت قيود عبودية كان هو قد استسلم لها حين تقبل عنصرية قبيلته ضد اخواله، ربما كان قبوله بلقب الصعلوك هو الهروب الذي ارتضاه مقابل تخلصه من شعور الانكسار أمام اهله، هل دار ذلك في ذهن ابن الورد، لا ادري حقاً، فقد أخفى الرجل مشاعره بمهارة واخذ يتمتم معللا هجران حبيبته بقوله :" سقوني الخمر، ثم كنفوني!".. على الأغلب أن ميليشيا الحوثي تحمل ذات الطمأنينة التي خُدع بها ابن الورد، مازالت تركن لاستسلام الشعب الخاضع تحت سيطرتها دون أدنى مؤشرات لبوادر غضب وثورة، جاهلين أن الصمت ليس سوى تحين لفرص حظيت سلمى باحداها، مع فارق أن صعاليك هذا العصر لم يحملوا من ابن الورد سوى لقب مفرغ من أخلاقه، ولن يستحقوا على الأغلب مغادرة مسالمة كالتي منحتها سلمى للصعلوك النبيل!.. ليس من السهل أن يتنازل المرء عن حريته أو يتجاهل حاجته لها، انتظارها فقط هي ما يجعل اليمني بعد سنوات من الخيبات يتلهف على أخبار الجيش الوطني وانباء تقدمه، يطرق سمعه جيداً لعله يتيقن من مصداقية عبارة " بدء العد العكسي" التي أخذت تتردد مبشرة بعودة "دولة" مازالت _ رغم فسادها_ الضمان الذي سيسمح لخيال أبناءنا ببعض التجاوزات والعبث.. حتى اللحظة لم أنتهي من المسلسل، كما لم تنتهي الحرب منا، لكني اثق بأن المنطق هو من سيكتب كلا النهايتين!.. نور ناجي .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فرانكشتاين!.. لم أصب بالدهشة حين وجدت أسم الكتابة "ماري شيلي" على غلاف "رواية فرانكشتاين"، فمثل الكائن المتجول بين صف...